q

يعد وجود التعددية الحزبية إحدى متلازمات الديمقراطيات المعاصرة في وجهها الليبرالي السائد اليوم، حتى قيل: (لا ديمقراطية بلا أحزاب، فالأحزاب عماد الديمقراطية، وأن العداء لها يخفي عداءً للديمقراطية).

مثلما يعد موضوع تشريع القوانين من أهم ضوابط العمل السياسي في الدول الديمقراطية، إذ يكون التشريع سابقاً للعمل. وهكذا فإن مزاولة عمل ما يفترض أن يتم مسبقاً بوجود قانون مشرع، وضوابط وتعليمات تنظمه، ولا يشذ عن هذا السياق نشاط الأحزاب السياسية التي يفترض أن يحدد مزاولته قانون الأحزاب، وما يحمله من تفاصيل تنظيمية.

وبطبيعة الحال، فإن الأمر في العراق جاء معكوساً أيضاً ضمن إطار الاستثنائيات والتناقضات التي تعمل بها الدولة العراقية المعاصرة، فجرى عمل الأحزاب السياسية في العراق منذ عام 2005، في حين لم يشرع قانون الأحزاب السياسية حتى العام 2015.

وفي خضم ذلك، جرى الحديث عن تشريع لقانون الأحزاب السياسية في العراق، وأخذ حيزاً واسعاً من النقاش بين الأوساط الأكاديمية والسياسية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني، وفي ظل أجواء تتناسب ومعايير حرية التعبير عن الرأي في الديمقراطيات المعاصرة، ليتبلور بصيغته النهائية التي يفترض أن تتناسب مع معايير الديمقراطية في العالم المعاصر، وطبيعة التحول الديمقراطي في العراق، وأخيراً ظهرت مسودة المشروع في العام 2011.

بيد أن تلك المسودة لم تر النور حتى انقضاء الدورة النيابية عام 2014، لأسباب عدة أجمع البعض على أن أبرزها هو عدم إيمان الطبقة السياسية بمبادئ الديمقراطية.

ويبدو أن الدورة التالية لمجلس النواب العراقي المنبثقة عن الانتخابات النيابية لعام 2014، جاءت مصرة على أن تضع تشريع القانون في سلم أولوياتها، فجاءت مسودة مشروع القانون ذاتها التي أعدت من الحكومة العراقية عام 2011، وطرحت على الدورة السابقة لمجلس النواب، وعلى الرأي العام العراقي.

جدير بالذكر، أن اللجنة النيابية التي أبدت اهتماماً أكبر بموضوعة قانون الأحزاب السياسية هي لجنة منظمات المجتمع المدني، والتي ترى بمسوغات عدة، أن الأحزاب السياسية هي جزء من منظمات المجتمع المدني، رغم أن أدبيات العلوم السياسية لا تأخذ بهذا الرأي على إطلاقه، فما زال التمييز قائماً بين الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، وجماعات الضغط والمصالح.

ويمكن تلخيص أبرز الملاحظات المسجلة على مسودة المشروع على النحو الآتي:

- جاءت المسودة بتفاصيل واسعة، يبدو أن المشرع أراد الوصول إليها والتأكيد عليها. فأخذ يكررها في أكثر من موضع من المشروع. فعلى سبيل المثال: (المادة 2/ أولاً) التي جاءت لتعرف الحزب السياسي. نجد أنها واسعة ومشبعة بمفردات ذات دلالات مختلفة، وكان يمكن الاكتفاء بأبسط تعريفات الحزب السياسي المنصوص عليها في الأدبيات السياسية، ومنها أن الحزب السياسي هو مجموعة من الأشخاص تربطهم أهداف ومبادئ مشتركة، ويجتمعون في تنظيم يهدف الوصول إلى السلطة. ثم يمكن إضفاء الخصوصية العراقية على التعريف بإضافة عبارة: بما لا يتعارض مع الدستور العراقي، ومبادئ الديمقراطية. وبطبيعة الحال، فإن كل ما ورد في الفقرة المذكورة ينضوي تحت العبارة الأخيرة. وهو ذاته ما تكرر في (المادة 8/ أولاً).

- ركزت المسودة على (وطنية) الأحزاب السياسية، بمعنى أن يكون نشاطها شاملاً لأرجاء الوطن، وهو الشائع في النظم الحزبية المعاصرة. ومع إدراك المشرع لصعوبة ذلك، فإنه اشترط أن يزاول الحزب نشاطه في ثلث المحافظات العراقية على الأقل (618)، ومع تداخلات الوضع العراقي، كان يفترض بالمشرع أن يميز ما بين الأحزاب المحافظاتية التي تزاول نشاطها في محافظة معينة، وتشارك في الانتخابات المحلية، والأحزاب الوطنية التي تزاول نشاطها في عموم أرجاء الوطن. مثلما يبدو أيضاً أن اللجان المختصة بدراسة المشروع في مجلس النواب العراقي- وفي مقدمتها لجنة منظمات المجتمع المدني كما ذكرنا- اقترحت بعد مناقشات، أن يلغى هذا الشرط بما يسمح للحزب المحافظاتي المشاركة في مختلف مستويات الانتخابات التشريعية.

- كما ركزت المسودة على مبدأ المواطنة في أكثر من مادة وفقرة، (المادة 4/ أولاً، وخامساً)، و(المادة 5) و(المادة 26/ رابعاً)، والمواطنة هي أهم ركائز الديمقراطية المعاصرة. ولكن المواطنة في العراق رُكنت خلف مفهوم هجين لا صلة له بالديمقراطية يدعى (المكون). وجاء مسودة القانون لتحمل هذا التناقض عندما استثنت ما وصفته بأحزاب الأقليات من الوطنية، وبذلك سلبت صفة المواطنة عنها (المادة 11/ أولاً- ب). وإذا كان القصد من ذلك ضمان تمثيل تلك الأقليات، فإن ذلك يمكن معالجته ضمن إطار آخر.

- جاءت المسودة مثقلة بالتفاصيل حول إجراءات التأسيس. ومع أن تلك الإجراءات غدت في العديد من الديمقراطيات مختصرة بإشعار تسجيل فقط، إلا أنه في ظل الوضع العراقي كان يستحسن أن تختصر تلك الإجراءات في (دائرة الأحزاب)، ووفق الضوابط والتعليمات التي تصدر لاحقاً، ووفقاً لروح القانون، وبما لا يتعارض ومضمونه. وفي حال عدم قناعة الجهة الراغبة في التأسيس بإجراءات دائرة الأحزاب أو قرارها، عند ذاك يمكنها اللجوء إلى القضاء.

- وربطت المسودة إجراءات التأسيس بالقضاء العراقي، مثلماً ربطت اعتراضات الأحزاب بالقضاء أيضاً، (المواد 11- 18)، فكان أن جعلت من القضاء خصماً وحكماً في آن واحد.

- مثلما ربطت المسودة متابعة أعمال ونشاطات الأحزاب السياسية بـ(دائرة شؤون الأحزاب السياسية) المقترح انبثاقها عن وزارة العدل، (المادة 19). ولم يخل ذلك من النقد أيضاً، بدعوى أن وزارة العدل هي جزء من السلطة التنفيذية الخاضعة لمحاصصات الطبقة السياسية. بالمقابل، انتقدت على نحو أوسع فكرة استحداث هيئة مستقلة للأحزاب السياسية في العراق، بدعوى أنها، هي الأخرى، ستصاب بأمراض السلطة السياسية في العراق، حيث المحاصصات العرقية والإثنية، والفساد المالي والإداري، فضلاً عن زيادة الترهل في جسد مؤسسات الدولة العراقية. وتلافياً لذلك، غدا المقترح الأنجع هو ربط (دائرة الأحزاب) بالمفوضية المستقلة العليا للانتخابات في العراق.

- حظرت المسودة انتماء أعضاء هيئة النزاهة ومفوضية الانتخابات والقضاء ومنتسبي الأجهزة العسكرية والأمنية إلى الأحزاب السياسية (المادة 9/ خامساً). كما حظرت على الأحزاب السياسية التنظيم والاستقطاب في صفوفها (المادة 27/ رابعاً). وهو أمر سليم. ولكن يستحسن أن يضاف إلى ذلك أيضاً موظفي دائرة الأحزاب، في حال عدم إلحاقها بمفوضية الانتخابات.

- سمحت المسودة للحزب امتلاك وسائل الإعلام وفقاً للقانون (المادة 24/ أولاً)، لكنها تدخلت في تحديد مسؤولية رئيس تحرير صحيفة أو مسودة الحزب، (المادة 24/ ثانياً). ثم تأتي المادة (25/ ثانياً) لتسلب حق الحزب في نقل وجهة نظره. ويبدو أن المسودة قصرت وسائل إعلام الحزب على المقروءة فقط، دون المرئية أو المسموعة. وكان الأحرى حصر تلك الفقرة بوسائل الإعلام شبه الرسمية المملوكة للدولة. وترك مجالات حرية التعبير عن الرأي تأخذ مساراتها الطبيعية المعتادة في أجواء الديمقراطية وضوابطها القانونية.

- أجازت المسودة حل الحزب إذا لم يشترك في الانتخابات لدورتين متعاقبتين بقرار من محكمة القضاء الإداري (المادة 40/ أولاً- أ). ومن زاوية موضوعية، فإن للحزب السياسي الحق في عدم المشاركة في الانتخابات، أو حتى مقاطعتها. ويمكن عند ذاك وقف الإعانة المالية عنه المقررة وفقاً لـ(المادة 52).

- منعت المسودة الحزب من استلام التبرعات من جهات أجنبية (المادة 45/ ثانياً). لكنها عادت وسمحت بذلك إذا ما كانت بموافقة دائرة الأحزاب (المادة 49/ أولاً). وفي ذلك تناقض صريح. ومع أن المسودة جاءت لتنص على أن تمنح الحكومة إعانات مالية للأحزاب، (المادة 52)، إلا أن ذلك سرعان ما وجهت له سهام النقد أيضاً، بدعوى أنه سيدفع نحو تأسيس المزيد من الأحزاب السياسية بغية الحصول على الإعانات المالية. ومع ذلك، فإن الاقتراح الذي قدم في مواجهة ذلك، هو أن تمول الحكومة الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية، ووفق ضوابط محددة.

- بالغت المسودة في تدخلها بتفاصيل التنظيم الداخلي والهيكلية التنظيمية للأحزاب، وكان الأحرى الاكتفاء بالخطوط العامة العريضة، وترك التفاصيل للأنظمة الداخلية للأحزاب السياسية، وبما لا يتعارض ومضمون القانون وثوابت الديمقراطية. وهو ما أجمعت عليه غالبية آراء المختصين في الشأن السياسي بمختلف توجهاتهم الفكرية والمهنية.

- كما بالغت المسودة في (الأحكام الجزائية) والعقوبات، وعلى نحو يشوه الصورة المدنية والديمقراطية للتعددية الحزبية في العراق. وهو أمر ينبغي الوقوف عنده بدقة، وإحالته إلى القانونيين لمعالجته على نحو أكثر إنصافاً وأقل تشدداً.

- فضلاً عن بعض المفردات التي يستحسن انتقاءها بدقة والمتناثرة بين فقرات المسودة.

وختاماً، يبقى تقديم المسودة، وعرضها للنقاش أمام الباحثين والمختصين ومنظمات المجتمع المدني، خطوة مهمة في مسار التحول الديمقراطي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق