q
تنبؤات المنخرطين في سلاسل التوريد العالمية تشير بشكل متزايد إلى تواصل النواقص والتكدسات والاختلالات بين العرض والطلب حتى وقت طويل من عام 2022، وربما استمرت لأطول من ذلك. ويبدو واضحا أن النمو الاقتصادي العالمي سيكون مقيدا لفترة ليست بالقصيرة بالعرض ــ وهو ما يتباين بشكل صارخ...
بقلم: مايكل سبنس

ميلانو ــ تعوق ارتباكات سلاسل التوريد عملية التعافي الاقتصادي العالمي بصورة حادة، وإن كان الأمر يشكل وضعا غريبا من نواح شتى. فأنواع المنتجات والخدمات المتأثرة بحالات التأخير وأوجه النقص ــ بما فيها مجموعة كبيرة من البضائع الوسيطة، بداية من السلع حتى أشباه الموصلات، والمنتجات النهائية التي تعتمد عليها ــ تستدعي إلى ذهن المرء ما قد يراه في اقتصاد وقت الحرب. وقد باغتتنا تلك الارتباكات إلى حد كبير.

في الحقيقة، كانت التوقعات في الربع الأول من هذا العام تشير بصورة ساحقة إلى تسارع النمو، ولم يدق الخبراء ناقوس الخطر بشأن احتمالية إخفاق التوريد في مواكبة هذا التسارع تحديدا. صحيح أن خبراء من ذوي المكانة في الاقتصاد الكلي حذروا بالفعل من تسبب مزيج من السياسة النقدية شديدة التيسير، وأرصدة مدخرات الأسر المرتفعة، والطلب المكبوت، والإنفاق المالي الضخم، في زيادة مخاطر التضخم بدرجة كبيرة. وبالفعل أيضا، أشارت تلك التوقعات ــ التي يتجلى بُعد نظرها يوما تلو الآخر ــ إلى احتمالية ظهور طفرة مفاجئة في الطلب الكلي، مدفوعة بحائط من السيولة النقدية وفقاعة في أسعار الأصول، قد تفوق معدلات التوريد. لكن ظلت المدة المحتملة لاختلال التوازن مجهولة، وذهب كثيرون إلى أن التضخم، وبالتبعية ارتباكات سلاسل التوريد، قد يكون "عابرا".

يظل كثير من المراقبين على قناعة بأن تلك هي حقيقة الوضع. غير أن تنبؤات المنخرطين في سلاسل التوريد العالمية تشير بشكل متزايد إلى تواصل النواقص والتكدسات والاختلالات بين العرض والطلب حتى وقت طويل من عام 2022، وربما استمرت لأطول من ذلك.

ويبدو واضحا أن النمو الاقتصادي العالمي سيكون مقيدا لفترة ليست بالقصيرة بالعرض ــ وهو ما يتباين بشكل صارخ مع ما حدث في الأعوام التالية للأزمة المالية العالمية التي وقعت عام 2008. ورغم احتمالية أن تكون الطفرة في الطلب أكبر مما أشارت إليه التوقعات في منتصف فترة الجائحة، فقد كانت الأساس للتكهنات بارتفاع النمو في فترة التعافي من الجائحة.

بل إن هذا يجعل من الأهم الإجابة على سؤالين أساسين يتعلقان بجانب العرض. الأول: هل هناك قيود كامنة متعلقة بالعرض ستتواصل حتى بعد إزالة الانسدادات ذات الصلة بالجائحة؟ والثاني: هل هناك ما يؤثر على استجابة العرض من الأمور المتعلقة بتهيئة وتشكيل وتشغيل سلاسل التوريد العالمية؟

بوسع المرء إقامة الدليل بصورة منطقية على ما أفرزته الجائحة من تغييرات شبه دائمة في بعض عوامل العرض. مبدئيا، تسرب كثير من العاملين من سوق العمل أو أرجأوا عودة الدخول إليها، رغم إعادة آليات الدعم الخاصة بفترة الجائحة. وربما كان لهذا علاقة كبيرة بالظروف المرهقة للأعصاب أو الخطيرة التي عمل في ظلها بعض الناس، كأطقم الرعاية الصحية، خلال الجائحة. كذلك هناك الكثير من العاملين في مجال شحن البضائع الذين ظلوا عالقين على متن السفن لأشهر عديدة.

إذا كان من المنتظر قبول العاملين وظائف كتلك الآن، فربما طالبوا بأجور وتغييرات أفضل في ظروف العمل. كذلك يقاوم العديد من هؤلاء الذين تحولوا إلى العمل عن بُعد خلال الجائحة العودة بدوام كامل إلى أماكن العمل. وتستلزم مثل تلك المطالبات والتفضيلات تغييرات في جانب الطلب في كثير من شرائح سوق العمل مع تأثيرات غير معلومة طويلة الأمد.

غير أن التأثيرات المتعلقة بجانبي العمالة والطلب ليست إلا جزءا من القصة، فقد كنا على علم بارتفاع قادم في الطلب. إذا، ما أسباب هذا العجز المفاجئ الذي أصاب سلاسل التوريد العالمية؟

يتمثل أحد تلك الأسباب في إطلاق العنان للطلب المكبوت قبل انتهاء الجائحة فعليا، وبالتالي تواصل تأثير الارتباكات المرتبطة بالجائحة على الموانئ ومنشآت التصنيع الكبرى مع زيادة الطلب، الأمر الذي أدى إلى تثبيط استجابة العرض.

هناك عامل آخر وهو ما بدا من تجاوز الطلب سعة التحميل القصوى للنظام. هنا أقول إن زيادة تلك السعة ستتطلب ضخ استثمارات، إضافة إلى الأهم من ذلك وهو الوقت. لكن رغم الأهمية الكبرى لسعة التحميل القصوى في خدمات مثل الكهرباء (التي يصعب تخزينها)، فإن أهميتها أقل بالنسبة للبضائع، التي يجب إدارة الطلب عليها بنظام جيد الأداء يتوقع الارتفاعات المفاجئة ويرتب سير وتدفق الطلب.

هنا تكمن المشكلة، حيث تتسم شبكات التوريد العالمية، بصورتها المشكَّلة حاليا، بالتعقيد واللامركزية والتقييد المحكم، بغية تحقيق أقصى درجة من الكفاءة والحد من الهدر. لكن رغم صلاحية عمل هذا النهج في الأوقات العادية، نجده عاجزا عن معالجة الصدمات أو الاضطرابات الكبرى. وتفضي اللامركزية بالأخص إلى ضعف الاستثمارات في المرونة، لأن العوائد الخاصة على مثل تلك الاستثمارات أقل كثيرا من العوائد أو الفوائد على مستوى المنظومة.

ثمة عاقبة أخرى أدق للّامركزية، وربما كانت أسهل طريقة لشرحها وتوضيحها القياس على التنبؤ بالطقس. فرغم كون الطقس ناتجا عن نظام معقد ومتداخل بشدة، صار التنبؤ محددا ودقيقا بشكل متزايد بمرور الزمن، بفضل النماذج المتطورة للغاية التي تلتقط الطريقة التي تتفاعل بها العوامل ذات الصلة كالرياح، ودرجات حرارة الغلاف الجوي والمحيطات، وتكوّن السحب.

بالمثل، نجد شبكات التوريد العالمية على نفس الدرجة من التعقيد. لكن مع قدرتنا على توقع الاتجاهات العريضة ــ كزيادة الطلب مستقبلا مثلا ــ لن نجد نموذجا أو مجموعة من النماذج التي تُمكننا من التنبؤ بأي قدر من التحديد بالكيفية التي يمكن أن تؤثر بها مثل تلك الاتجاهات على عناصر معينة في سلاسل التوريد. فعلى سبيل المثال، ليس لدينا من سبيل لمعرفة مواطن الاختناقات الجديدة، ناهيك عن الطريقة التي ينبغي أن يتبعها المشاركون في السوق لتعديل سلوكهم.

عندما لا تكون التوقعات محددة بدرجة كافية للتحرك وفقها، يعجز النظام عن التكيف في الوقت المناسب أو بطريقة فعالة. فالنظام في الأساس قصير النظر: إذ يكتشف الانسدادات وقت حدوثها. ونظرا لاشتمال جوهره نسبيا على شيء من التراخي، تنشأ عن الانحرافات الشديدة عن الأنماط العادية استجابات متأخرة، وأوجه نقص، وتراكمات، واختناقات كالتي نراها اليوم.

النتيجة المستخلصة هنا واضحة: نحن بحاجة إلى نماذج أفضل للتنبؤ بكيفية تطور سلاسل التوريد، بما في ذلك استجاباتها المحتملة للصدمات. وينبغي أن تكون تلك التنبؤات متاحة للعامة حتى يتمكن كل المشاركين من الاطلاع عليها والتكيف وفقها. وربما كان الذكاء الاصطناعي مفتاح النجاح في هذا الصدد، فهذا تطبيق طبيعي للتكنولوجيا بالفعل. لكن لا بد أيضا من تعاون دولي، بأن تنشر الدول البيانات الآنية الناتجة عن شبكات سلاسل التوريد.

وكما تمكّن التنبؤاتُ الناسَ من تقليص تكاليف أي إعصار أو تسونامي بدرجة كبيرة من خلال التخطيط المسبق، فإن الأمر لا يختلف بالنسبة لارتباكات سلاسل التوريد.

* مايكل سبنس، حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، أستاذ الاقتصاد الفخري والعميد السابق لكلية الدراسات العليا للأعمال في جامعة ستانفورد. مؤلف كتاب التقارب التالي: مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد السرعات
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق