q
الانتخابات التشريعية التي شهدها العراق يوم أمس الأول تمثل نقطة انطلاق جديدة نحو الحياة الديمقراطية، ولطالما شكلت المدد الزمنية بين كل انتخابات تشريعية فرصة لتصحيح المسارات وتصحيح الاخطاء واجراء المراجعات. والعراق الديمقراطي التعددي الذي اريد له ان يكون انموذجا في الشرق لتحقيق المثل والمبادئ الديمقراطية...

الانتخابات التشريعية التي شهدها العراق يوم أمس الأول تمثل نقطة انطلاق جديدة نحو الحياة الديمقراطية، ولطالما شكلت المدد الزمنية بين كل انتخابات تشريعية فرصة لتصحيح المسارات وتصحيح الاخطاء واجراء المراجعات. والعراق الديمقراطي التعددي الذي اريد له ان يكون انموذجا في الشرق لتحقيق المثل والمبادئ الديمقراطية.

بعد عقود من الاستبداد والديكتاتورية يحاول اليوم استعادة مزايا العهد الديمقراطي، بعد أن تعرضت هذه البلاد الى انتكاسات خطيرة هددت سيادته وكيانه الوطني الوجودي، تمثلت بالاحتلال الداعشي لأجزاء من اراضيه واهتزازات امنية واجتماعية واقتصادية، رافقت هذا الاحتلال تمكن العراقيون في ختام المطاف من افشالها ودحر الارهاب واستعادة السيادة، على كل اراضيه ووسط تداعيات الاحداث السياسية المتازمة داخليا وخارجيا التي اختطفت العراق الى مواضع خطيرة، يحاول العراقيون مرة اخرى من خلال صناديق الاقتراع تصحيح مساراتهم وايقاف الانتهاكات التي مارستها قوى سياسية وتسببت بزعزعة الثقة بالعملية السياسية ومستقبلها.

فالرهان الدولي على العراق لا يزال قائما والآمال ببقاء هذا النظام السياسي واجتيازه للمنعطفات العالية، فهذه البلاد الغاطسة في التاريخ تتمتع بمجموعة من المؤهلات تفتقدها الدول المحيطة بها بتنوع اثنياتها وبتباين جغرافيتها وبثقافاتها المتعددة اثبتت على مدى السنوات الماضية، ان هذا التنوع والتعدد هو نعمة من الله على هذه البلاد به وان هذا الشعب قادر على مواجهة التحديات، وانه قادر ايضا على التجدد والتميز في الوقوف بين الامم لصنع المستقبل والمساهمة في استقرار المنطقة والعالم أجمع.

واذا كانت الانظمة الشمولية بكل عناوينها الملكية والجمهورية تحاول التقليل من التجربة السياسية في العراق، ونعتها بنعوت الفشل والاستدلال على ما جرى للعراقيين خلال ما يقارب عقدين من الزمن والادعاء، أمام شعوب هذه الانظمة بان خيار الديمقراطية العراقية هو خيار سيئ وانه قد جلب الويلات للعراقيين في محاولة للتمويه والخداع، وابعاد منافع النظام الديمقراطي الحقيقية عن مسامع الشعوب المستضعفة، فان استقراء الواقع يقول ان تجربة العراقيين ما كان لها ان تتضرر وتتعثر، لولا تعاضد قوى خارجية حاقدة مع قوى داخلية يمثلها الارهاب والفساد لتحطيم أي شواخص، يمكن أن تنتجها التجربة الديمقراطية في العراق،

وان العراقيين الاحرار مؤمنون حتى هذه الساعة بان بلادهم اليوم هي منارة مضيئة من منارات الحرية يستطيع فيها أي مواطن التعبير عن رايه من دون خوف او وجل من السلطة، وان التشوهات التي رافقت العمل السياسي طوال السنوات السابقة هي من نتاج العمل والتجارب التي لا مناص منها في كل محاولة للشعوب، والدول تريد فيها الانتقال من عالم الى اخر وان التاريخ لم يغفل مثل هذه العثرات في حياة الدول التي شهدت التحول من الاستبداد والشمولية الى الحرية والتعددية.

ويكفي لاي باحث محايد يريد الخوض في غمار الكتابة التاريخية أن يرصد محتوى وسائل الاعلام العراقية بكل عناوينها المقروءة والمسموعة والمرئية، ليجد فيها مساحات واسعة من حرية النشر والتعبير عن الراي وهذا النشاط السياسي والاعلامي الذي يدب في مؤسسات الدولة العراقية، هو ليس نشاطا بكرا او غير مألوف على الساحة العراقية، بل هو في حقيقة الامر نشاط اصيل وموروث مارسه العراقيون في حقب زمنية مختلفة، وتمثل بوجود مؤسسات تشريعية تكفلت بحرية التفكير وشيوع الحريات العامة ومنع مصادرة الحقوق في الاحتجاج والتظاهر.

وفي كتابه (الواح سومر) يتحدث (صموئيل كريمر) في صفحات كتابه عن أول برلمان ذي مجلسين بفضل فرقة (الرفش والمعول) والمقصود بها فرقة التنقيب عن الاثار ويقول (اصبح في وسعنا ان نقرر سجل مجلس سياسي انعقد قبل نحو خمسة الاف عام في الشرق الادنى قبل أي مكان اخر.

أجل ان اول برلمان سياسي معروف في تاريخ الانسان المدون قد التأم في جلسة خطيرة في حدود 3000 ق . م ولقد كان مثل برلماننا مؤلفا من مجلسين من مجلس الاعيان، أي مجلس الشيوخ ومن مجلس العموم (النواب ) وفي تاريخ العراق الحضاري فان سنة 1876 شهدت وضع اول دستور للدولة العثمانية، وقد اشترك احد العراقيين في وضع نصوص هذا الدستور اسمه (بغدادلي محمد امين).

وقد عين عضوا في مجلس الشورى سنة 1867 وتوفي سنة 1891 وخلال الاحتلال البريطاني للعراق وانبثاق العهد الملكي، كانت بغداد مسرحا لنشاط تعددي مثله المجلس التاسيسي الذي مهد للتصويت على الدستور ولانتخابات ديمقراطية وتشكيل مجلس نيابي، في الوقت الذي كانت فيه الدول المجاورة ترزح تحت حكم انظمة عائلية وعشائرية وكانت صحف بغداد الكثيرة تحفل بالمقالات، التي تشتم الحكومة وتنال من الملك وتتحدث الوثائق عن فيض من الحريات العامة تشارك في العيش، تحت ظلاله العرب والكرد والتركمان واليهود والسنة والشيعة، وكانت مظاهر الاحتجاج ومشاهد التظاهرات ماثلة لكل من زار العراق وكان الصراع بين السلطة والصحافة احدى ميزات العهد الديمقراطي في الملكية.

وفي العهد الجمهوري الاول والثاني ولطالما سقطت حكومات واستبدل رئيس وزراء او وزير بسبب مقال صحفي، او نشر معلومات تفضح خارج عن القانون او فاسد او بسبب تظاهرة او اعتصام، وقد تعمد النظام الاستبدادي والديكتاتوري بعد عام 1968 ايقاف هذا الامتداد السياسي المنفتح وحاول خنق وعي الطبقة المثقفة بمختلف عناوينها بمجموعة من القوانين والتشريعات، التي احكمت القيود على حرية التعبير ومارست الترهيب طوال اكثر من ثلاثين عاما، ومثلما قيل فان العراق ولّاد بتشديد اللام في رجاله وشعبه عصي على الرضوخ لارادة السلاطين والحكام.

شهد العراقيون مرة اخرى بعد عام 2003 عودة الديمقراطية لنظامهم السياسي وممارسة حقهم في الانتخاب بكل حرية وفي كل مفصل انتخابي يحق للعراقيين تقييم تجاربهم السابقة وتصحيح اختياراتهم، وصولا الى ما يسدد خطاهم ويصوب أخطاءهم وماجرى يوم امس هو مدعاة للفخر والاعتزاز، ولربما كانت هذه اللحظة لحظة تجلي وفرصة لاستعادة الامل بالانفراج ومغادرة الفاسدين واستعادة الاحرار، لوطنهم الذي سقط لاجل كرامته وحريته مئات الشهداء في تظاهرات تشرين.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق