q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

أخلاق القائد وصناعة الأمة المتقدمة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

قد لا يفقه الكثير من السياسيين المعاصرين ومنهم القادة، دور الأخلاق في بناء مجتمع متقدم، وبعضهم ربما لا يؤمن بهذا الهدف، أو لا يرى تأثيرا جديّا له في بناء دولة مزدهرة ومجتمع رصين، لسبب بسيط أنه غير قادر على أن يكون نموذجا أخلاقيا لمن يقودهم، وهنا تظهر العلّة بشكل مباشر...

(من أهم أخلاق النبي (ص) التي أذهلت البشرية جمعاء: التواضع)

الإمام الشيرازي

قد لا يفقه الكثير من السياسيين المعاصرين ومنهم القادة، دور الأخلاق في بناء مجتمع متقدم، وبعضهم ربما لا يؤمن بهذا الهدف، أو لا يرى تأثيرا جديّا له في بناء دولة مزدهرة ومجتمع رصين، لسبب بسيط أنه غير قادر على أن يكون نموذجا أخلاقيا لمن يقودهم، وهنا تظهر العلّة بشكل مباشر، فنعرف أن أي سياسي يهمل الأخلاق في أداه، لا يمكن أن يبني مجتمعا قويا متقدماً.

في هذا الإطار لنا في شخصية النبي محمد (ص) نموذجا قياديا عظيما، زرع حزمة من المُثل والأخلاقيات في مجتمع (جاهل)، كانت تعوزه الكثير من مقومات التقدم، لكن القائد الأخلاقي المؤمن بدور الأخلاق وقدرتها على تغيير الناس إلى الأحسن، تمكن من تطوير الرؤية الذاتية والجمعية للمجتمع الذي كان يغوص في الظلام، ويفتك به الجهل والفتن والتعصب، وجعل منه أمة عظيمة في دولة عظمى.

لقد بنى الرسول الأكرم دولة عظمى من مجتمع كان مشتتا يتقاتل أفراده وقبائله مع بعضهم في غزوات لا تتوقف ليل نهار، لكن الأخلاق والقيم الجديدة التي جاء بها القائد والنموذج في آن واحد، جعلت من تلك العقول المقفلة والنفوس المتعصبة، نموذجا آخر يضجّ بالتنوير، وانبت أمة ودولة ضاهت الدول العظمى حينئذ وتفوقت عليها، كل هذا حدث بسبب الزخم الأخلاقي للقائد النموذج.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (المعصومون الأربعة عشر ع):

(كانت حالة الناس قبل بعثة النبي (ص) على شرّ حالة، فأنقذهم الله تعالى برسول الله الذي أخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الهداية، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (ع قائلاً: فالأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة، في بلاء أزل، وإطباق جهل! من بنات موءودة، وأصنام معبودة، وأرحام مقطوعة، وغارات مشنونة، فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً).

كل البحوث والدراسات التاريخية تؤكّد على خشونة المجتمع في الجزيرة، وكلها تؤكد على انتشار الجهل مع استفحال العادات البالية، وسيطرة الشعوذة على العقول والتفكير والسلوك، وشيوع الجهل والاقتتال، وغياب الأخلاق بشكل مخيف، لكن النبي محمد (ص)، اقتحم هذا الوسط المضطرب ورفع شعار (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق، وكان هو القائد والنموذج الأخلاقي في آن واحد للجميع.

فتولّدت تلك القدرات الهائلة على التأثير في الناس والعقول، وإحداث التغيير الأخلاقي الهائل، فتمكن القائد من سحب الناس الغاطسين في الجهل والظلام، إلى ساحة النور الأخلاقي المشعّ، فتراجع قانون الغاب، وتم استثمار القوة في محلّها الصحيح، وزاد تعاون الناس، وانتشرت الأخلاق والرحمة والتكافل على نحو غير مسبوق، مما يعني أن القائد السياسي لا ينحصر دوره في إدارة السلطة وحدها، بل يجب أن يصبح نموذجا أخلاقيا لأمته كي يحدث فيها التغيير المطلوب.

الأخلاق كسياسة ومنهج وتطبيق

يقول الإمام الشيرازي: (وسط مجتمع تحكمه القسوة والخشونة صدع النبي (ص) بدعوته الغراء رافعاً شعاره: إنما بُعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق. فاستطاع (ص) بأخلاقه الحميدة التي عبّر عنها الباري تعالى: وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ. أن يحوّل المجتمع من مجتمع تحكمه أحكام الغاب إلى خير أمة أخرجت للناس).

لم تكن الأخلاق مفردة أو كلمة يرددها القائد على لسانه ويتبجح بها أمام الآخرين، بل هي جزء لا يتجزّأ من شخصيته وأقواله وأفعاله وسلوكياته وتفكيره، وطريق وضع وتنفيذ قراراته وسياساته، فالسياسة التي لا تحكمها الأخلاق فاشلة وسرعان ما تصبح ثقلا وعبئا هائلا على الأمة، لهذا كان النبي (ص) قائدا سياسيا أخلاقيا، ونموذجا سلب الألباب وجعل العيون والأفئدة والبصائر تهفو إليه وتتشبّه به.

ومن أعظم الخصال التي شعّت كما تشعّ الدرر في شخصية قائد المسلمين النبي (ص) هي قيمة التواضع، فعلى مدى تاريخ البشرية قدم الرسول (ص) النموذج الأعظم في التواضع، والأدلة على ذلك لا تحصى ولا تعد، وكانت هذه القيمة حيّة في سلوكه وتفكيره وتعامله مع الجميع من دون استثناء.

الإمام الشيرازي يقول في ذلك:

(من أهم أخلاق النبي (ص) التي أذهلت البشرية جمعاء هي: التواضع، حتى بلغ من تواضع رسول الله (ص) أنّ القادم إذا قصده لا يميزهُ من بين المسلمين إلاّ أن يسأل عنه).

كان الرسول (ص) ممتلئا من الداخل، فلم تشغله المظاهر في الملبس أو المأكل، ولم يفكّر لحظة واحدة أن يدعم شخصيته أو يفخّمها بالمظاهر كارتداء الملابس المتميزة والغالية، أو الجلوس على عروش تيجانها من ذهب كما كان (ولا يزال) يفعل قادة ورؤساء وملوك حتى يومنا هذا.

النموذج الأخلاقي للأمة وللعالم

أراد النبي (ص)، أن يقدم النموذج القيادي الأخلاقي للأمة وللعالم أجمع، ولم يخطر في باله أن يجعل من السلطة والنفوذ والأموال طريقا إلى دعم الذات، أو إكمال الشخصية، فكان حين يجلس بين المسلمين لا يختلف عنهم لا في الملبس ولا في مكان الجلوس، هذه البساطة لم تكن مفتعلة، إنما هي صفة أصيلة في شخصية قائد النبي محمد (ص)، وعلى قادة اليوم المسلمين أن يتعلموا جيدا ويستوعبوا النموذج القيادي الأخلاقي الذي قدمه النبي محمد (ص) عبر التاريخ.

حين كان يمر قائد الأمة وباني صرحها الأعظم، من مجموعة من المسلمين (المواطنين العاديين)، كان هؤلاء لا يقومون من مكانهم، وهذا التصرف يأتي احتراما لرغبة القائد النموذج، فهو (ص) كان يكره أن يقوم له أحد وهو مار من جنبه أو بالقرب منه، ترى كم من قادة اليوم يشعر بالضآلة حين يواجهه الناس بمثل هذا التصرف، فيما الرسول (ص) يطلبه بنفسه من الناس.

هذا هو الدرس الأخلاقي الذي لا يقدمه إلا العظماء على مر التاريخ، ويجب أن يتخذ منه قادة اليوم درسا ونموذجا، لكي يبنوا شخصياتهم القيادية الأخلاقية، حتى يمكنهم أن يصبحوا قادة أخلاقيين يمثلون لشعوبهم نماذج يُسار على خطوها، ومما كان يحبذه النبي (ص)، إلقاء التحية على النسوة والصِبْية، هذه بعض الخطوات الأخلاقية لبناء أمة تجعل من الأخلاق منهجا عمليا وحياتيا لها.

يقول الإمام الشيرازي:

(كان رسول الله (ص) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل. وكان المسلمون إذا رأوه (ص) لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته لذلك. وكان (ص) يسلّم على الصبيان والنسوة).

لقد كان الناس في الجزيرة في واد والأخلاق في واد آخر، فلا لقاء بينهما، وكل ما كان يشغلهم القوة والعنف والمال والغنائم وتأجيج الغرائز والضغائن فيما بين الناس، وقد لا يختلف حال البشرية بما فيهم المسلمون عن الحال في الماضي، لذا فنحن في أحوج ما يكون لاستيعاب الدرس من القائد السياسي النموذج، وليبادر قادة اليوم إلى فهم ودراسة نموذجهم المتمثل بالرسول (ص)، وليقودوا هذه الأمة بأخلاق النبي، باعتباره النموذج الذي غيّر العقول والنفوس في أسوأ الظروف وأشدها بؤسا وظلاما وفحشا.

يقول الإمام الشيرازي:

(إنّ الناس في شبه الجزيرة ـ بل في كل العالم ـ كانوا بأمس الحاجة إلى من يخلّصهم ممّا هم فيه من الظلمات، فمنّ الله عليهم بمن ينقذهم من ذلك الوضع وهو رسول الله (ص) الذي هذّب النفوس ونوّر العقول وحوّل أوضاعهم من شرّ حال إلى خير أمة أخرجت للناس، ثم انتشر الإسلام ليشمل سائر الأمم والملل).

علينا جميعا، وفي المقدمة منا القادة، أن نستعيد تجربة الرسول (ص) الأخلاقية العظيمة، وأن نبني من خلالها نفوسنا وعقولنا، ونعدل سلوكنا، ونستلهم من هذا النموذج الأعظم أخلاقنا في السياسة وفي مجريات الحياة كافة، فهل نحن فاعلون؟؟

اضف تعليق