q
بعودة النسخة المتجددة من طالبان على أنقاض عشرين عاما من الدولة التعددية الاقوامية في افغانستان بزعامة نخب سياسية غربية التعليم والثقافة وبحماية دولية، تكون طالبان قد اثبتت للعالم ان شعوبا وقبائل ودولا مازالت تستثمر في الاضطراب الكبير في منطقتنا (العامل الخارجي)، وان جدلية الانقسام والتوحد...

تفاوتت تقديرات وكالة الاستخبارات الامريكية للمدة التي تحتاجها حركة طالبان لدخول العاصمة الافغانية كابول. ادنى التوقعات كانت بحدود الشهر واقصاها 90 يوما، بيد ان الانهيار كان اسرع من كل التقديرات، بدأ العالم يستفيق ويستعد في الآن ذاته لحدث تاريخي ضخم له تبعاته الستراتيجية المدوية، ليس على السلم والامن والعلاقات الدولية فحسب، بل على الفكر والاجتماع السياسي والديني، انها باختصار جدلية سقوط وقيام الدول في منطقتنا العربية والاسلامية.

حينما دخلت طالبان العاصمة الافغانية عام 1996 واسقطت حكم حركات المجاهدين الافغان المتنافسة والمتصارعة على السلطة بين قطبين اسلاميين اصيلين هما البشتون بزعامة قلب الدين حكمتيار والطاجيك برئاسة برهان الدين رباني، فهم المراقبون يومها ان عصبية جديدة (وفق منطق التفسير الخلدوني لقيام وسقوط الدول) دخلت على خط الصراع، عصبية ايديولوجية تتبنى فكرا من اعماق القرن السابع الهجري، مؤطرا بحركية تنظيمات الاسلام السياسي، ومتسلحا بتراث قومي شديد التعصب.

انه تراث بلاد الافغان الذي لم تزعزعه موجات التحديث الغربي، بشقيها الليبرالي والماركسي، اهتم الباحثون كثيرا بسر هذا الاندفاع الصاروخي لطلبة العلم الشرعي الذين كانوا يفترشون الارض لمتابعة دروس دينية في الاف المدارس والمساجد الباكستانية التي كانت تصنع عالما من التراجع المخيف عن فكر الحركات السياسية الدينية المعاصرة الى ما هو أكثر سلفية وجمودا وانغلاقا (كان للاستخبارات الباكستانية وبعض الدول الخليجية دورا مؤثرا).

وفيما كان العالم يشهد اضطراد فكر العولمة ونهاية التاريخ الفوكويامي، كانت طالبان تلغي الجمهورية والدستور (الحديث) وتؤسس امارة اسلامية بهرميتها ورمزيتها السلطانية الاسلامية، وتعلن نفسها نموذجا مفارقا للعصر، ومتراجعا عن مكتسبات الفكر الانساني بل والاسلامي الحديث.

ما ترتب على هذا الحدث الضخم في سيرورته وفكره ونموذجه، هو الالهام العلني والمستور لملايين المسلمين للعودة الى نموذج الدولة السلطانية في حنين جارف الى الماضي المتخيل المفارق لمنطق الحضارة ومقتضيات المعاصرة.

هذا الدرس الكبير الذي فهمه العالم متأخرا، لم يأخذ حيزا من الفهم والتحليل الا عندما ساهمت الامارة الاسلامية الطالبانية في انطلاق هجمات 11- ايلول 2001، وظهور تنظيم القاعدة الاممي العابر للحدود وانتعاش حركات العودة الى نموذج الخلافة وولادة جيل من المسلمين المتطرفين المستعدين لمحاربة العالم المعاصر ونظامه الدولي.33 عاما هو عمر الجيل الذي نبت في بلاد المسلمين مستلهما طالبان والقاعدة ومؤسسا لداعش والنصرة وبوكو حرام والشباب المجاهدين وبيت المقدس وحراس الاسلام وعشرات الخلايا ،التي ترفع شعار (الدم الدم …الهدم الهدم).

بعودة النسخة المتجددة من طالبان على انقاض عشرين عاما من الدولة التعددية الاقوامية في افغانستان بزعامة نخب سياسية غربية التعليم والثقافة وبحماية دولية، تكون طالبان قد اثبتت للعالم ان شعوبا وقبائل ودولا مازالت تستثمر في الاضطراب الكبير في منطقتنا (العامل الخارجي)، وان جدلية الانقسام والتوحد.

والحنين الى الماضي المتخيل في قبال حاضر متخم بالفساد والمحاصصة وهشاشة الدولة وانهيار المؤسسات وضعف القانون، (العامل الداخلي)، هي ابرز الاشكاليات التي منعت وحالت دون استقرار الدولة على اسس متينة راسخة تمكنها من اداء واجباتها ووظائفها ومسؤولياتها تجاه مواطنيها، بما يدفع المواطن للدفاع عن دولته ضد اي تهديد داخلي وخارجي.

الاستسلامات والانهيارات النفسية وتبخر الجيوش والاجهزة العسكرية والامنية الافغانية بعد عشرين عاما من الدعم والانفاق المالي، يثبت ان البناءات الهشة لا تصمد امام مفاعيل قوة مؤدلجة، سقوط كابل يعيد التذكير بسقوط الموصل (كانت يوما عاصمة الحمدانيين الشيعة) والاقتراب من بغداد عام 2014، وسقوط الرقة (عاصمة الرشيد في ذروة الزهو والرخاء) وحلب وحصار دمشق في العام سبقه، انها خطوط النار التي تذكر شعوبنا ونخبنا ان للتاريخ مكرا مدمرا ،وان دروس الماضي القريب والبعيد تعيد تشكيل ذاكرة سياسية متخمة بالصراعات والعداوات ينبغي الحذر منها.

ومالم تنتزع مكونات ومفاهيم الجماعات المتخيلة والدول الدينية، فان ملايين كثيرة من المسلمين ستظل اسرى حلولا متوهمة لحاضر مأزوم يعج بصراع الافكار والمشاريع والدول، وكل موبقات الفساد والزبائنية والحصص القومية والمذهبية والحزبية، لاشفاء لدولنا الا بعلاج امراض الفكر المتورم بصراع الحضارات ومشاريع الطهورية الدينية والنماذج التاريخية المزعومة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق