q
ان الالتزام بالشفافية يبقى مفتاح زيادة ثقة الجمهور في اللقاحات، وعلى سبيل المثال، في دراسة حول تأثير الإعلام الذي يتناول فعالية لقاحات "كوفيد-19" على قرارات الأفراد بالحصول على جرعة من هذه اللقاحات، وجدت أن الالتزام بالشفافية في التصدي للشكوك المثارة لم يؤثر على قرار الأشخاص بأخذ اللقاح من عدمه...
بقلم: أريانا ريميل

استطلاع رأْي لرصد التردد في الإقبال على التطعيمات يُظْهِر المأزق الذي يواجهه الباحثون لدى نقل المعلومات المتعلقة بمخاطر اللقاحات. وأشار استطلاع الرأي إلى أن ثقة الجمهور في أمان لقاحات "كوفيد-19" في الولايات المتحدة الأمريكية قد انخفضت، بعد أن علَّق مسؤولون في الحكومة الأمريكية التطعيمات بلقاح شركة "جونسون آند جونسون" Johnson & Johnson (J&J) لفترة مؤقتة في الشهر الماضي. وقد عكف مسؤولون خلال تلك الفترة التي استمرت لعشرة أيام على استكشاف ما إذا كانت ثمة علاقة بين اللقاح وأحد أمراض تجلط الدم النادرة، أم لا، إلا أنهم في النهاية خلصوا إلى أمان اللقاح، وأعطوا الضوء الأخضر لاستئناف استخدامه مره أخرى. ورغم ذلك، فمع بدء تعليق استخدام اللقاح، ذكر 7% من البالغين الذين شاركوا في استطلاع الرأي، ولم يتلقوا تطعيمات أن الأنباء بشأن الإصابات بتجلط الدم جعلتهم أقل رغبة في تلقي أي من لقاحات "كوفيد-19"، وذلك وفقًا لبيانات نشرتها مؤسسة "كايسر فاميلي فاونديشن" KFF، (انظر: go.nature.com/3fyfaoi).

وقد أبرزت هذه الواقعة الوضع المضطرب الذي يواجهه المسؤولون في قطاع الصحة العامة، منذ أن أُتيحت لقاحات "كوفيد-19" في أواخر العام الماضي، إذ تمثل اللقاحات إحدى طرق القضاء على جائحة كورونا وحماية الأفراد. ومن هنا، ترغب الجهات المسؤولة أن يتقدم الأفراد بتسجيل طلبات الحصول عليها، إلا أن هيلدا باستيان، وهي عالمة مستقلة متخصصة في الطب المسنَد إلى الأدلة العلمية في فيكتوريا في أستراليا، تقول إن التطعيمات تصحبها مخاطر، لا بد من التوعية بها بشفافية، للحفاظ على ثقة الجمهور، ودعم الممارسات الأخلاقية في المجال العلمي.

وعلى المتخصصين في مجال الصحة العامة أن يوازنوا بدقة بين جوانب المسألة، عند التوعية بأمان لقاحات "كوفيد-19"، غير أن بدء طرح هذه اللقاحات على نطاق واسع يعني أن البيانات بشأن أمانها تتطور سريعًا. ولذا، يسعى الباحثون سعيًا حثيثًا لمشاركة هذه التطوُّرات مع الجمهور بشفافية ووضوح، في الوقت الذي يتخوفون فيه من أن تُستَخدَم رسائلهم أو تُفسَّر بطريقة تخدم الحملات المضللة، وسط تعالي أصوات الحركات المناهِضة للتطعيمات. ومن هنا، ذكر أشخاص أدلوا بحديث إلى دورية Nature أن العلماء يجازفون بخسارة أرضية كبيرة في المعركة مع الجائحة، نظرًا إلى أن شرح الخطورة المحتملة للقاحات محفوف بالمخاطر. وفي تشبيه للوضع، تصفه باستيان قائلة: "إنه ملغَّم".

وتؤيد هذا الرأي كاثرين إدواردز، المتخصصة في علم اللقاحات، من كلية الطب بجامعة فاندربيلت، في ناشفيل بولاية تينيسي الأمريكية، التي عملت استشارية معنية بشؤون أمان اللقاحات لمدة 40 عامًا، قائلة في هذا الصدد: "لم أواجه مهمة أكثر مشقة من تلك على مدار حياتي".

وقد علّق مسؤولون أمريكيون التطعيمات بلقاح "جونسون آند جونسون" خلال الشهر الماضي، لإعطاء الباحثين في مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، وفي إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، الفرصة لتقييم ست حالات أصيبت بنوع نادر من جلطات الدم، جرى الإبلاغ عن وقوعها ضمن 6.8 مليون شخص تلَقّوا اللقاح. وجاء القرار بتعليق هذه التطعيمات عقب إعلان وكالة الأدوية الأوروبية عن ارتباط اللقاح الذي أنتجته جامعة أوكسفورد بالتعاوُن مع شركة "أسترازينيكا" Astrazeneca بوقوع حالات إصابة مماثِلة بتجلط في الدم.

الآثار الناجمة عن تعليق التطعيمات

مع انتهاء فترة تعليق التطعيم بلقاح "جونسون آند جونسون"، كان مسؤولون أمريكيون قد رصدوا 15 حالة إصابة باضطراب نادر، لكنه خطير، يُسمى "متلازمة تجلط الدم المرتبط بقلة الصفائح" (TTS)، في أشخاص كانوا قد تلقوا اللقاح. ومن أكثر السمات المميزة للمتلازمة حدوث جلطات في أماكن غير معتادة من الجسم، مثل الدماغ، والبطن، يصاحبها انخفاض في مستويات صفائح الدم. وقد وقعت هذه الحالات تحديدًا في نساء تتراوح أعمارهن بين 18 و59 عامًا. ورغم ذلك، ما زال المسؤولون يرون أن الفائدة التي يقدمها اللقاح، المتمثلة في الوقاية من المرض، تفوق الاحتمالية النادرة للإصابة بهذه المتلازمة. ولذا، قرروا رفع تعليق التطعيمات باللقاح، وطلبوا من مقدمي الرعاية الصحية تحديث البيانات المتعلقة به، لإضافة تحذيرات جديدة بشأن المتلازمة.

"بالنظر إلى التغطية الإخبارية المكثفة في هذا الشأن: "من المُتوقع أن تُثار تساؤلات لدى الناس".

وفي أثناء فترة تعليق التطعيم باللقاح، والأسبوع التالي لرفعها، أجرت مؤسسة "كايسر فاميلي فاونديشن" غير الربحية، المعنية بسياسات الصحة، والواقعة في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية، استطلاعًا لآراء ما يقرب من 2100 شخص بالغ في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، حول ما إذا كان تعليق التطعيمات قد أثَّر على موقفهم تجاه لقاحات "كوفيد-19"، أم لا. وعلى الرغم من إبداء 69% من المـُستَطلَعين ثقتهم في اللقاحين الآخرين اللذين يجري التطعيم بهما في البلد، وهما لقاح شركتي "فايزر" Pfizer، و"بيونتِك" BioNTech، ولقاح شركة "موديرنا" Moderna، أفاد 46% فقط ممن شاركوا في الاستطلاع بثقتهم في لقاح "جونسون آند جونسون". ومن بين مجموعة المستَطلَعين الذين لم يكونوا قد تلقّوا تطعيمًا وقت إجراء الاستطلاع، قال حوالي 20% منهم إن تعليق التطعيم بلقاح "جونسون آند جونسون" غيَّر رأيهم نوعًا ما في واحد - على الأقل - من لقاحات" كوفيد-19" (انظر الشكل "تزايُد التردد في الإقبال على تطعيمات "كوفيد-19"").

وتقول كاثرين شاف، المتخصصة في إعلام الصحة العامة في مجموعة بيركلي للدراسات الإعلامية في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، إنه بالنظر إلى التغطية الإخبارية المكثفة التي تتناول المخاوف المثارة حول أمان لقاح "جونسون آند جونسون": "من المُتوقع أن تثار تساؤلات لدى الناس". وتؤكد كاثرين أن ثقة الجمهور في اللقاحين الآخرَين المتاحين في الولايات المتحدة ما زالت مرتفعة، وأن تعليق التطعيم بلقاح "جونسون آند جونسن" يمثل في النهاية دليلًا على أن أنظمة رصد أمان اللقاحات تعمل كما ينبغي، بيد أنها تضيف قائلة إنّ التردد الذي نشأ حديثًا في الإقبال على التطعيمات، والذي أوضحه استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "كايسر فاميلي فاونديشن" يدل على أنه قد تكون هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود، لضمان إتاحة التواصل الشفاف مع الأفراد بشأن أمان اللقاحات.

إحصاءات المخاطر ليست مجرد أرقام

تقول هايدي لارسون، عالمة الأنثروبولوجيا من كلية لندن للصحة وطب المناطق الاستوائية، المتخصصة في علم إدارة المخاطر وصناعة القرار، إن أحد التحديات التي يواجهها المسؤولون في مجال الصحة العامة يتمثل في التوعية بمخاطر التطعيمات من الجوانب كافة، دون أن يبدو أن الهدف من هذا الإجراء هو صرف المخاوف؛ بمعنى أنه حتى عندما تصرح الجهات المسؤولة بأنّ احتمالية الإصابة بأحد التفاعلات الخطيرة تبلغ واحدًا في المليون، يتعين عندها الإجابة عن تساؤل الأفراد التالي: "ما الذي يعنيه هذا المعدل للفرد، أو لأفراد أسرته؟".

وتقول أليكساندرا فريمان، المديرة التنفيذية من مركز وينتون للإعلام بالمخاطر والأدلة من جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، إنّ تَحَقُّق سياق كهذا يمكن أن يكون صعبًا، في ضوء أن إدارك المخاطر يخضع إلى حد كبير للتقديرات الشخصية. وتضيف قائلة إنّ ثمة عنصرين مرتبطين بالمخاطر، لا بد أن يعيهما الأفراد؛ ليتمكنوا من اتخاذ القرار بالحصول على التطعيم من عدمه؛ هما: احتمالية وقوع مكروه، وتأثيره. وعلى سبيل المثال، فإن احتمالية الإصابة بأعراض شديدة شبيهة بأعراض الإنفلونزا بعد تلَقِّي أحد لقاحات "كوفيد-19" قد تبلغ حالة من كل عشر حالات، لكنْ إذا وقعت هذه الإصابة، فقد تكون تداعيات هذه الأعراض أكبر لعائل وحيد، لا يحظى بدعم مادي لإعالة أطفاله، منها لآخَر لديه القدرة على أخْذ وقت للتعافي.

وقد أخبر متخصصون في الصحة العامة دورية Nature بأن الالتزام بالشفافية يبقى مفتاح زيادة ثقة الجمهور في اللقاحات. وعلى سبيل المثال، في دراسة أجرتها فريمان وفريقها البحثي حول تأثير الإعلام الذي يتناول فعالية لقاحات "كوفيد-19" على قرارات الأفراد بالحصول على جرعة من هذه اللقاحات، وجدوا أن الالتزام بالشفافية في التصدي للشكوك المثارة لم يؤثر على قرار الأشخاص بأخذ اللقاح من عدمه (J. Kerr et al. Vaccines 9, 379; 2021) ، بل على العكس، تقول فريمان: "وجدنا أن الأفراد شعروا بأنهم قد ازدادوا معرفة وثقة في قدرتهم على اتخاذ هذا القرار عندما جرى التواصل معهم وإمدادهم بالمزيد من المعلومات".

اضف تعليق