q
تحريك دور المثقف ونشر أفكاره عبر وسائل الإعلام كالفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا استقطاب راس المال الفكري، والاهتمام بالمبدعين على حساب التوجهات المادية، لان الإنتاج سوف يزداد تدريجيا إذا استقطبنا مبدعين ومفكرين أكثر، وأخير تفعيل دور الندوات والمؤتمرات الثقافية الفكرية، وجعلها واجهة لاستمالة...

الشعوب المتقدمة التي تتميز بالتطور التكنولوجي والاقتصادي، دائما ما تكون مرتكزة على مثقفيها ورأس مالها الفكري، فللمثقف الدور الأكبر في تطوير البلاد وجعلها الأولى في المجالات الرائدة كافة، هذا بالطبع إذا كان دور المثقف حاضرا، أما في حالة غياب دور المثقف فسنجد أن البلد متراجع اقتصاديا وتكنولوجيا وفكريا، ذلك ما يجعل تقدمه وتطوره أمرا في غاية الصعوبة.

فقد اهتمت الدول المتقدمة بمثقفيها وبأصحاب الأفكار وبالمنتجين المبدعين، وركزت على نقل أفكارهم وأساليبهم إلى أفراد الشعب أجمع، ذلك ما ولَّد ثقافة جماعية تولد منها مجتمعا مثقفا فاهما واعيا ومدركا لكل مجريات الحياة، وباستطاعته مواجهتاها بأسهل الطرق، كذلك فإن لراس المال الفكري الحصة الأكبر في هذا التقدم حيث أن اغلب الشركات والدولة نفسها تستقطب أصحاب الأفكار المبدعة.

أما الدول التي يفكر قادتها بأن الأفضل هو جمع المال والإنتاجية المادية على حساب الأفكار والإبداع، فهذا سوف يؤول بها إلى عدم التطور اقتصاديا وتكنولوجيا وفكريا، وهنا يأتي دور المثقف في نقل أفكاره لبقية الناس وأن الأفكار الصحيحة تنتشر بصورة سريعة إذا كانت خارجة من العقل السليم، وعليه فإن للندوات الفكرية والثقافية والمسرح والنشاطات الأخرى الدور الأكبر في رفع مستوى وعي الناس وجعلهم نماذج يقتدي بها الآخرون، ونذكر هنا مقولة المؤلف الألماني برخت (أعطني خبزا ومسرحا، أعطيك شعبا مثقفا).

من هنا ندرك الأثر الايجابي لحضور دور المثقف في المجتمع وكيف يستطيع انتشاله من ظلمات الجهل إلى نور الثقافة، ومن جهة أخرى ندرك الأثر السلبي لضمور دور المثقف، وذلك ما يجعل من المجتمع جاهلا لا يستطيع تغيير حاله لان الطبقة الواعية والمثقفة فيه لا تستطيع التغيير من نفسها، مما يؤكد أهمية دور الثقافة والمثقف في التغيير.

لكي نستطع آراء رواد الثقافة وبعض الكتاب والمثقفين حول هذا الموضوع، طرحت (شبكة النبأ المعلوماتية) عليهم السؤال التالي: في حال غياب أو ضعف دور المثقف في تغيير المجتمع.. ما هي نتائج ذلك.. وكيف يمكن جعل دور المثقف في التغيير ممكنا؟؟

الثقافة تبني الضمير

الدكتور عقيل مهدي يوسف، عميد كلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد قال: ليس من المستغرب ان تقترن الشعوب الراقية، برقي مثقفيها انفسهم.. وما ينخرطون به من تخطيط وتدريب وتوجيه مؤسساتي من اجل الارتقاء بثقافة شعوبهم لان المثقفين هم البناة الحقيقيون لشخصية المواطن وحثه على مواكبة التطور والمتغيرات.

فالأدب يكرس.. اللغة.. لفظا ومعنى واسلوبا ليعل المتلقي وكأنه يشاهد.. مشهدا مسرحيا يضم اللون، والموسيقى، والحركة، والزي. الثقافة تجعل المتلقي معاصرا لآفاق التحضر الانساني لأنها تهدف الى الانفتاح على العالم وكذلك تسعى لتنمية قدرات وتجارب المواطنين في اطار جمالي وتذوقي رفيع وتقرن برامجها منذ مرحلة الطفولة حتى النضج بتربية تعمق لدى المواطن معنى الضمير الوطني والانساني.

ويتصدر المثقف والتربوي هذا المشهد بمنجزاته الابداعية وطروحاته المعرفية في لغة خطاباته الفنية والجمالية ببراعة تناغمها وانسجامها لكي تقرن الماضي بذاكرة الحاضر لتلهم الشعب وتثريه بأمثولات رفيعة وتصونه من الانزلاق الى خطاب الكراهية في ضروب من التيه بدروب مغلقة وماض اجوف اصم. لذلك يستحق.. المثقف.. ان يسند اليه القيام بهذا الدور الجليل لأنه المؤهل بجدارة واستحقاق فيما يكتبون ويبدعون بخطاباتهم الثقافية الملهمة والمتميزة في تطلعهم الى الرتقاء بالمجتمع والتماس الحداثة والتجدد فيما يكتبون وينجزون من روائع فكرية وابداعية.. متفاعلة مع الواقع الاجتماعي الحقيقي المعاش.. بجوهره الاصيل وظواهره البينة، وموضوعاته الحاسمة.. مستثمرا طبقات تليدة من الماضي ومبتكرة من الحاضر، ساعية بحصافة عرفية ومستقبلية الى خدمة الانسان وهمومه وتطلعاته الكريمة وخلقه المتسامي الي العيش في مجتمع يدرك اهمية الدور الموكول بالثقافة، والمثقف.. الذي ما انفك هذا المثقف النبيل، وعلى فترات سلطات متتالية.. وفي ظروف عصيبة.. يقارع الظلم.. والشر.. من اجل مستقبل امن.. لهذا يحتم علينا الضمير الوطني والانساني اسناد هذا الدور الى المثقف والتربوي والعالم والمفكر.. لبناء وطن يليق بإرثه الحضاري وتطلعاته المشروعة نحو التقدم والازدهار.

مخاطر تغييب المثقف

أما الدكتور الشاعر المجدّد مشتاق معن فأجاب بالقول: العلاقة بين بناء المجتمع او إعادة تأهيله من جهة، وقادة الرأي ومن ضمنهم المثقف من جهة أخرى، علاقة تلازميه لا يمكن فكّ عراها في الظروف الاعتيادية أو المثالية، ولكن في الظروف الاستثنائية كالتي نمرّ بها يضعف التعلق الذي أشرنا إليه في مستهلّ إجابتنا لأسباب كثيرة لعل أهمّها؛ ضعف الوعي الجماهيري بأهمية الثقافة والمثقف، استثمار غياب معايير التصنيف المجتمعي والتقييم الثقافي للأفراد ممّا يسمح بتغييب المثقف، وسواها من الأسباب.

وليس هناك من وسيلة لمعالجة ذلك إلاّ بالعمل على تفعيل المعايير المشار إليها سلفا، والارتقاء بوعي الجماهير.

الثقافة جوهر التغيير

من جهته أجاب الشاعر الأديب عودة ضاحي التميمي قائلا: الثورات العظيمة والمهمة في التاريخ نظّر لها وقادها المثقفون وكان للشعراء، والروائيين والكتاب الصوت الهادر والمؤثر في الجماهير، والأمة من دون مبدعين ومثقفين أمة ميتة، وأكثر ما يخشاه السياسي الفاشل والفاسد هو صوت المثقف الحقيقي الذي يحث الجماهير على رفض الواقع المر. ويحرض على الانتفاضة ضد كل ما هو فاسد وقبيح..، الأمم الحية تضع مثقفيها في مقدمة الركب وتوفر لهم البيئة الصالحة كي يبدعوا وتنتفع الامة بأبداعهم ...، ولكن في العراق والعراق وحده من بين كل الأمم والشعوب انقلبت المعادلة تماما. فسعى الحكام الفاسدون لمحاربة المثقف بشتى الطرق لأن المثقف المرآة الحقيقية التي تعكس قبحهم وزيف سياساتهم...، فالأحزاب التي تفقد وطنيتها والحكام الذين ارتضوا العبودية لأنفسهم فلا يهمهم، الوطن ولا الشعب ولا التاريخ ولا الحضارة لأنهم لا يسعون لبناء دولة ذات معالم واضحة تليق بنضال شعوبها ...، لذلك كان قرارهم الأول والاهم هو ابعاد المثقف وتهميشه لكي تخلو لهم الساحة لتنفيذ ما يراد منهم بلا خجل ولا ضمير...، وهذا مع شديد الأسف ما آل اليه العراق العظيم صاحب التاريخ المبجل والحضارات العظيمة...، المثقف كلما اقترب من الحكومات ابتعد عن الشعب والعكس صحيح وعلى المثقف ان لا يقف مكتوف الايدي إزاء ما يحدث من تخريب ممنهج للعقل العراقي والفكر العراقي وعلى المثقف ان لا يقف موقف المتفرج بدون ردة فعل مماثلة لما يجري...، عليه ان يغادر غفلته وان لا يكون شاهد زور عليه ان يدلو للتاريخ بشهادته الحقيقية المؤثرة ضد هذا الوضع البائس وان يتمرد على كل ما يراد له أن يكون واقع حال سيء...، على المثقف ان يكون صوت الشعب الهادر الذي لا يوقفه شيء.

فرصة التغيير الثقافي ممكنة

فيما أجابت الكاتبة نجاح الجيزاني بالقول: يمكننا تشبيه دور المثقف في تغيير المجتمع بدور الدكتور في علاج المرضى، اي انه طبيب دوّار بطبّه.. ولنجاح دوره الريادي يفترض توفّر لديه ما يلي:

أولاً: الأيمان بالتغيير وما يستلزم من صدق وإخلاص وتضحية وما الى ذلك من مفردات تندرج تحت هذا العنوان.

ثانياَ: امتلاك مقومات التغيير الجديدة كمواد وآليات وليس ب وداوني بالتي كانت هي الداء!

ثالثاَ: الاستقلالية الاقتصادية وذلك لتجنب ضغط رئيس المؤسسة ومدير التحرير وكل من له سلطة عليا عليه.

رابعا: التمتع بالحرية المنضبطة بإزالة عوائق التابوهات وعدم التخويف بالتكفير والردّة.

لكن المثقف في بلادنا للأسف يعاني الأمرّين من هذه العوائق الكونكريتية.. تفكيره خارج الصندوق يؤلّب عليه الجهات المتنفذة والتي تملك زمام الأمور، تحاول ثنيه بمختلف الأساليب الترهيبية، تارة بوصمه بالعمالة والذيلية، وأخرى بمحاولة تسقيطه وتشويه سمعته وغيرها كثير لا يسع المجال لذكرها.

والتغيير كما نعلم لا يحدث دفعة واحدة، فهو يبدأ بالفرد وينتهي الى الجماعة، ولأنّ العادات قد تجذرت وتبرعمت وليس بالإمكان اقتلاعها بشكل فوري، فلابد للمثقف الواعي والذي يحمل في جعبته رسالة التغيير ان يتمتع بالنفَس الطويل لإحداث عملية التغيير المرتقب. وليبدأ من نفسه أولا.

أما التغيير في الواقع السياسي فهو من المطالب الحقة للشعوب.. فينبغي للمثقف ان يأخذ بزمام المبادرة خصوصا نحن مقبلون على الانتخابات، عليه ان يمارس دوره في عملية التغيير المنشود عبر الكلمة الحرة، والإصرار على تغيير الوجوه الكالحة التي حكمت طيلة هذه السنوات.

مكافحة الفساد الثقافي

الأديب الشاعر حسين الهاشمي أجاب بالقول: لا يمكن أن نصل إلى مرفأ لإجابة محددة، من دون الخوض في محيط إشكالي صعب يبدأ من البناء الثقافي المعقد والمرتهن بواقع اجتماعي، ديني، سياسي، اقتصادي شديد التعقيد والتأثير في أسس هذا البناء، مما ينتهي بنا ربما إلى تبعية الثقافة والمثقفين عموما إلى النتائج المترتبة على هذا، أي بمعنى نحن في الطرف الأضعف من المعادلة غير المتوازنة التي تشير: نحن غير قادرين، حاليا أو فيما بعد على المدى القريب، على التأثير أو التغيير، وصنع حياة خاصة تليق بنا وتليق بالآخرين.

الثقافة النصّية هي السائدة، ولم تستطع أن تتجاوز حدودها تلك إلى ما هو أبعد، لاسيما وأن العقلية العربية، عموما، لم تمتع بتكوين (خصوصيتها) المؤثرة في التقاليد، أو البعيدة عن التقليد والتأثر الأعمى والتكرار، إلا ما ندر، وربما اكتشف معظمهم _متأخرين _ هذه الحقيقة، بعد أحداث وتحولات وصدمات كثيرة حدثت في بلداننا، ولم نستطع فعل شيء، أي لم نكن نملك سوى وسائل شكلية ونماذج مقتبسة من الآخرين البعيدين، المختلفين عن ثقافتنا ومقاييسنا وشؤوننا، حيث لم تنفعنا سوى مؤقتاً أيام (الرفاهية)، وهي فترة محدودة جدا.

ولم تتجاوز ثقافتنا، بعد ذلك، حدودها النصية والأدبية ولم تتحول إلى سلوك يومي ونمط حياتي واجتماعي أو اقتصادي، لأنها لم تخرج من طوق المناسبات والشعارات، حتى أصبحت مستهلكة، كئيبة ورتيبة تحتضر في القاعات والمؤسسات التقليدية الدعائية والإعلامية، لا أكثر!.

الخلل بنيوي كما يبدو، أولا، يتعلق بالشخصية كفرد، والمجتمع كمجموع، فالمثقف عندنا هو شخصية مهزومة، موهومة في الغالب، أو كائن يبحث عن التفرد النرجسي والشهرة، في أحسن الأحوال، بينما المجتمع يبحث عن مخلّص، دائما، بفعل التراكمات العديدة: الفقر، الجهل، الحروب، الإحباط والمخيبات السياسية المستمرة الضاغطة على الفرد و الحياة بشكل مباشر.. وأخيرا الإرهاب والفساد بأبشع صوره ونتائجه.

عملية التغيير تبدأ من الإصلاح الثقافي أولاً، هو النص والمتن أو الخطاب الذي ينبغي رؤيته ومعالجته قبل أي شيء آخر، ومن دون مبالغة، نحن بحاجة إلى حالة طوارئ وإجراءات تشبه تلك التي تُتّخذْ حين يجتاح العالم وباء خطير، ولن يتم هذا إلا من خلال البدء بتنظيف الساحة من الفساد الثقافي والإعلامي، برموزه ومؤسساته في البلد، بموازاة انبثاق الكلمة والمؤسسات المستقلة وغير النفعية، وحضور أصحاب المواقف النزيهة الحرة والصادقة، رفقة الإعلام المنتج ذي الاتجاه المهني والثقافي المدروس، والإرادة القوية، وهو اتجاه غائب أو مهمَّش وفوضوي، كما يبدو، بشكل عام.

كل ذلك لغرض إنعاش هذه المهمة كي تصبح الثقافة واجهة داعمة في إبراز الحقيقة وفي المساهمة والسعي قدماً نحو خطوات التغيير والإصلاح الحياتي والمجتمعي عموماً.. وهي عملية معقدة جداً أو مستحيلة على المدى القريب.

ختاما يجدر بنا ذكر بعض التوصيات التي لو اتبعتها الحكومات، ونفذتها بالشكل الصحيح سوف تجعل من شعبها ذا ثقافة ووعي يضاهي الدول المتقدمة، منها تحريك دور المثقف ونشر أفكاره عبر وسائل الإعلام كالفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا استقطاب راس المال الفكري، والاهتمام بالمبدعين على حساب التوجهات المادية، لان الإنتاج سوف يزداد تدريجيا إذا استقطبنا مبدعين ومفكرين أكثر، وأخير تفعيل دور الندوات والمؤتمرات الثقافية الفكرية، وجعلها واجهة لاستمالة الدول الأخرى والاستفادة من تجاربها وفهم الدور الكبير الذي يلعبه المثقفون في تطويرها.

اضف تعليق