q
ان يكون المال وسيلة لتحقيق الكمال وسمو النفس، هو الذي جعل خديجة توظف كل ثروتها للرسالة، وتضع ما لديها من اموال وممتلكات بين يدي زوجها النبي الأكرم، الذي تزوجته شاباً لا يملك شيئاً، ليؤدِ دوره الرسالي والحضاري بإخراج الناس من الظلمات الى النور، و يستعين به على التحديات الشديدة...

"كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد". رسول الله، صلى الله عليه وآله

ما بلغت السيدة خديجة بنت خويلد، سلام الله عليها، الكمال لتزهو بشخصيتها في صفحات التاريخ، بقدر ما حازت هذه المرتبة لتكون نموذجاً رائعاً لبنات حواء عبر التاريخ في طريقة التعامل مع أهم جاذب نفسي لهنّ وهو؛ المال الذي يُعد من أبرز عناصر القوة في حياة المرأة، والوسيلة للوقاية من نوائب الزمن وما يخفيه القدر لها، لذا يكون المال أحد أبرز وأهم مواصفات الرجل الخاطب، وكلما كانت ثروته كبيرة –حسب الرؤية المجتمعية الراهنة- كان أسرع في انجاز مشروع الزواج.

ولكن! تقف السيدة خديجة أمام التاريخ والاجيال لتغيّر هذه النزعة النفسية، وتحول النظرة الى المال من المادة الى الروح، ومن التفاخر والتظاهر، الى التسامي والتكامل عبر قيم السماء.

الى جانب حسبها ونسبها الشريف، متميزة بين نساء قريش بالثراء، كانت خديجة من ابرز التجار في مكة، لها القوافل تترى بين مكة والشام، الامر الذي اجتذب عيون القرشيين اليها ساعين لكسب ودّها وطلب يدها للزواج فكان الرفض القاطع هو الجواب الوحيد، فكان بالامكان ان تجتمع لديها ثروة على ثروتها فتكون ممن لم تبلغ امرأة شأواً في المال والجاه، تلبس الحرير، وتجلس على الوثير، وتلهو بأكوام بالأًصفر والابيض (الذهب والفضة) وتتمتع بالملذات، مع شعور عارم بالراحة والاطمئنان.

فأين خديجة من هذه الآمال التي تدغدغ كل فتاة وامرأة؟

وبِمَ كانت تفكر خديجة؟

ابحثي عمّا يبقى لا ما يزول

هذا هو أول درس لخديجة وهي فتاة في بيت عمّها، ورقة بن نوفل، تتابع مسار العمل التجاري وحركة القوافل من مكة الى الشام، كما تتابع –في الوقت نفسه- حركة النبي الأكرم، وهو أحد أنبل شباب مكة، فبلغها منه صدق الحديث وأداء الأمانة و حسن الخُلق فدعته الى قافلة تجارية لها متجهة الى الشام مع غلام لها يُدعى "ميسرة"، فقبل النبي العرض، وانطلقت القافلة، واصابت من الخير الكثير، وحدّث ميسرة خديجة بما رأى من النبي من المكارم والفضائل خلال الرحلة، اضافة الى ما أفاض على القافلة من البركة والربح والوفير، فعرفت أنها وجدت الحلقة المفقودة بين المال والقيم السامية في شخص النبي، وهو بعدُ لم يبعث نبياً من السماء، وهذا ما أكد رجاحة عقلها وكمال شخصيتها الايمانية.

من المفترض أن يتبادر الى ذهن خديجة، وهي المرأة التاجرة، أو "سيدة أعمال"، لدى سماع نجاح صفقتها التجارية الجديدة بأن تفكر بتطوير العمل مع النبي الأكرم، والاستفادة من تجربته الى جانب حسن أخلاقه وأمانته، وهذا ما يفكر به معظم –إن لم نقل جميعهم- التجار وأصحاب الرساميل، فالانسان الثقة يعد رأسمالاً يُضاف الى المال الموجود، فهو فرصة ذهبية لمزيد من تحقيق النجاح والتفوق والإثراء، وهو أمر مشروع.

أما خديجة؛ الفتاة البعيدة النظر، كانت تتطلع الى تجارة لن تبور ليس مع الشام، او مع الشرق او الغرب، بحثاً عن الارباح الوفيرة، وإنما مع الله –تعالى- ولنصرة قيمه السمحاء ورسالته الى البشرية، وهذا يعزز الاعتقاد بأن خديجة كانت على دين الحنفية ولم تكن المشركين، فكانت تكتم ايمانها بالله –عزّوجلّ- فابلغت النبي رغبتها بالزواج منه، ليس من اجل مضاعفة ثروتها وزيادة ارباحها، وانما لمضاعفة ايمانها وتعميقه في نفسها، فقد عاشت هذه السيدة العظيمة أولى سنوات زواجها تخوض هذه التجربة الايمانية العظيمة حتى بُعث النبي في سن الاربعين، اي بعد خمسة عشر سنة من الحياة الزوجية.

أن يكون المال وسيلة لتحقيق الكمال وسمو النفس، هو الذي جعل خديجة توظف كل ثروتها للرسالة، وتضع ما لديها من اموال وممتلكات بين يدي زوجها النبي الأكرم، الذي تزوجته شاباً لا يملك شيئاً، ليؤدِ دوره الرسالي والحضاري بإخراج الناس من الظلمات الى النور، و يستعين به على التحديات الشديدة من المشركين، وقبلها؛ أن تكون أول المؤمنين برسالته، حتى قال النبي الأكرم في حقها: "ما قام ولا استقام ديني إلا بمال خديجة وسيف علي".

لماذا يظلم التاريخ خديجة

لم تكن الوحيدة ممن يظلمها التاريخ، فقد ظلم في الوقت نفسه، عمّ رسول الله، وكافله وناصره؛ ابو طالب، عليه السلام، عندما أصرّ المؤرخون على أنه مات مشركاً، ثم تجرأ الرواة على الكذب على رسول الله بتلفيق حديث يزعم أن النبي يكشف للمسلمين أن عمّه ابو طالب "في ضحضاحٍ من نار يغلي دماغه"!! ولو لم تقف خديجة للصلاة خلف النبي أمام الملأ عند الكعبة المشرفة بما يخرس الأفواه ويلقي الحجج البالغة، لما نجت من اتهامات القرشيين "المسلمين" بموتها على الشرك.

وتشترك خديجة مع ابي طالب في المظلومية لانهما سبقا الجميع الى التوحيد، وآمنوا برسول الله، و صدقوه، وبذلوا كل ما لديهم لنشر رسالة السماء، بيد ان السيدة الجليلة التي نعيش هذه الأيام ذكرى وفاتها المؤلمة، تنفرد بخصيصة طالما أرّقت أولئك المدعين الإسلام و{لما يدخل الإيمان في قلوبهم}، فكيف تكون هذه الشخصية العظيمة والطاهرة قدوة للفتيات والنساء، بل والرجال ايضاً عبر التاريخ؟ هكذا العرب يحسبون ألف حساب لقادم الأيام وما ستكون عليه سمعتهم وشأنهم وذكرهم لمن يخلفهم، لذا يهمهم الذكر الطيب لمن هو كريم، كما أفصح عن هذا حاتم الطائي في حديث مع زوجته، وأن يكون الذكر المدوي للصناديد والأشداء في سوح القتال، وهكذا..

ولما عجزوا عن التشكيك باسلامها راحوا يختلقون لها القول بأنها كانت متزوجة من رجلين من المشركين، و كان لها منهما بنتان، فضلاً عن القول بأن عمرها يوم زواجها من النبي كان اربعين عاماً، وهو ما تفنده المصادر التاريخية ايضاً.

الى جانب ما نقرأ في زيارة الامام الحيسن، عليه السلام: "أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المُطهرة"، فان مصادر تاريخية تآزرت على تفنيد هذا القول، بالمقابل التأكيد على أن البنتين؛ رقية وزينب، ابنتان لهالة شقيقة خديجة، وقد تزوجها ابو هالة بن زرارة التميمي، وبعد موته تزوجت من عتيق بن عائد المخزومي، وبموت الرجلان، وموت هالة ايضاً، انتقلت كفالة البنتان الى خديجة حيث كانت ميسورة الحال فتبنت رعايتهما، واستمرت هذه الرعاية بعد زواجها من النبي الأكرم، وقد جاء هذا في "نسب قريش" لمصعب الزبيري، و"الاستغاثة" لأبي قاسم الكوفي، و"أنساب الاشراف" لأحمد البلاذري، ومن المحاججات ما يورده الكوفي بأن "كيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة يتزوجها أعرابي من تميم، وتمتنع عن سادات قريش وأشرافها"، فهل كان الاثنان افضل حسباً ونسباً وشرفاً من النبي الأكرم حتى يسكتن نساء قريش عن العتاب واللوم لخديجة؟!

وكما شكك المؤرخون في زواج السيدة خديجة قبل النبي الأكرم، فقد وقع الخلاف الشديد حول عمرها الشريف، فالبعض ذهب الى أن عمرها كان بين 25 الى 28عاماً، كما جاء في السيرة الحلبية، والبداية والنهاية لابن كثير الدمشقي، بينما يصر البعض الآخر على أن عمرها كان اربعين سنة تزوجت بالنبي الاكرم، حتى نقرأ هذه الملعومة المغلوطة في المناهج الدراسية لترسم صورة خاطئة في اذهان التلاميذ جيلاً بعد جيل، وأن خديجة لم تكن بتلك المواصفات والمنزلة لتكون القدوة والنبراس، علماً أن النبي الأكرم، والذي ثبت للتاريخ بالغ حبّه لها حتى آخر ايام حياته الشريفة في المدينة، ولم ينس ذكرها رغم مرور اكثر من عشر سنوات على وفاتها، فانه ثبت للتاريخ في الجواب المفحم لمن كانت في طريق التشكيك والاستخفاف والحسد، والتي وصفته بالعجوز! وقالت: "لقد ابدلك الله بخير منها"، فقال: "لا والله لم يبدلني الله بخير منها، آمنت بي إذ كفر النّاس، و آوتني إذ رفضني النّاس، وصدقتني إذ كذبني النّاس، ورزقت منّي حيث حرمتموه".

لقد سقطت السيدة خديجة، سلام الله عليها، شهيدة الحق في أوج المواجهة الرسالية مع الشرك والضلال في حصار وتجويع دام ثلاث سنوات فرضه المشركون على منطقة يقال لها "شعب أبي طالب"، وهي منطقة نقل اليها أبوطالب كل العوائل والأسر من المسلمين، وفيهم الرجال والنساء والاطفال لحمايتهم من بطش قريش وأذاهم، فاعلنوا حظراً ظالماً على دخول المواد الغذائية الى داخل الشِعب، حتى جاء في التاريخ أن أصوات أنين النساء والاطفال من الجوع كان مسموعاً لأهل مكة، فرحلت عن هذه الدنيا بسبب الجوع الذي أثّر بها، بعد أن انفقت كل أموالها لتغطية ما يحتاجه المسلمون طيلة حوالي عشر سنوات من عمل النبي الأكرم لنشر رسالة السماء، وهذا ما تحجبه كتب التاريخ والحديث والمناهج الدراسية، وتتحدث عن "مرض" السيد الطاهرة، كما يتحدثون عن "مرض" الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، ظناً منهم إخفاء حقيقة المواجهة المحتدمة والمستدامة بين الحق والباطل.

اضف تعليق