q
ما زالت أحداث الحرب الباردة التي نشبت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 عالقة في ملفات الذاكرة السياسية وأذهان الكثير ممن عاصروا تلك المرحلة التاريخية، بسبب ما ساد فيها من توتر شديد جعل الجميع يعتقد بأن إندلاع الحرب ممكن أن يحصل...

ما زالت أحداث الحرب الباردة التي نشبت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 عالقة في ملفات الذاكرة السياسية وأذهان الكثير ممن عاصروا تلك المرحلة التاريخية، بسبب ما ساد فيها من توتر شديد جعل الجميع يعتقد بأن إندلاع الحرب ممكن أن يحصل في أي لحظة، ومازال الحديث عن حرب باردة جديدة يتجدد بين حين وآخر بالتوازي مع كل أزمة تقع بين موسكو وواشنطن، والتصعيد الأخير بين الرئيس الأمريكي بايدن والرئيس الروسي بوتين لفت انتباه المهتمين بالعلاقات الأمريكية الروسية المتوترة، حيث أظهر بايدن عدائية حادة لنظيره بوتين بشكل لا يمكن وصفه بأنه شعور عابر، بل قد نكون أمام إدراك استراتيجي أمريكي بأن روسيا تبقى العدو الجيوبولوتيكي التقليدي للولايات المتحدة في وقت يخوض فيه البلدان مفاوضات للحد من الأسلحة النووية لدى الطرفين.

ويبدو أن الولايات المتحدة لم تستطع لحد الآن أن تتعايش مع روسيا البوتينية بعد أن استشعرت الأخيرة خطر توسيع حلف الناتو الذي أصبح قريبا من حدودها الغربية، في وقت تضع روسيا في حساباتها الستراتيجية أن أمن الدولة بالغ الأهمية ولا يمكن بدونه توفير الأمان أو الرفاهية للشعب الروسي، لذلك كان لروسيا ردود فعل تجاه توسع حلف الناتو منها سياستها التدخلية في جورجيا وأوكرانيا، ومحاولة مدّ النفوذ في مناطق مهمة في العالم، وكذلك اهتمام روسيا بتطوير صناعاتها العسكرية وخصوصا في مجال الصواريخ الذكية ومنظومات الدفاع الجوي في محاولة لخلق توازن قوة مع الولايات المتحدة التي دائما ما تسعى لإضعاف روسيا اقتصاديا وأمنيا.

والواضح أن إدارة بايدن تسعى للتصعيد مع روسيا، من خلال التلويح بفرض مزيد من العقوبات وممارسة المزيد من الضغوط على روسيا، وبهذا الصدد يقول (أندريه أونتيكوف) الكاتب والمحلل السياسي الروسي أن "أمريكا تهدد بالعقوبات الإضافية وستكون هناك سلسلة من العقوبات ومزيد من العقوبات في المستقبل، وممارسة الضغوطات الاقتصادية على روسيا ومحاولة إقامة الحصار الاقتصادي ضدها، وتصعيد أمريكا للأوضاع في المناطق الحيوية بالنسبة لموسكو مثل أوكرانيا وسوريا، ومع ذلك أعتقد أن يكون هناك تصعيد في آسيا الوسطى التي نسميها الحديقة الخلفية لروسيا، إذن الحرب البادرة موجودة بالفعل بين الدولتين".

ولا يخفى على المراقبين أن العالم شهد في السنوات الماضية سباقا للتسلّح غير تقليدي ومن نوع جديد، إذ يقوم هذا السباق علي استحداث وتطوير برامج تقنية متطورة لأغراض عسكرية تستخدم الفضاء السيبراني في محاولة للقيادة والتحكّم عن بعد بأنظمة تشغيل وتحكّم لمؤسسات حساسة ومهمة لدول أخرى بقصد زعزعة أمنها واقتصادها وثقة المواطنين بإدارة حكوماتهم، وقد تعرضت الولايات المتحدة إلى العديد من الهجمات السيبرانية حيث باغتت قصفات سيبرانية في نهاية 2020 عددا من الوزارات والهيئات والمؤسسات الأمريكية، منها وزارتي التجارة والخزانة، في تطورٍ تعده الحكومة الأمريكية خطيرا ليس على الإدارة الأمريكية بكافة مؤسساتها بل انه يهدد الشعب الأميركي أيضا، وتتهم الولايات المتحدة روسيا بأنها قد تقف وراء هذه الهجمات، مما يستدعي منها الرد الحازم بشكل يضمن حماية أمنها الاستراتيجي، الأمر الذي يغذي التوتر السائد في العلاقات بين البلدين، فقد أججت الهجمات السيبرانية الروسية -حسب الزعم الأميركي– حالة عدم الثقة بين العدوين اللدودين منذ عام 2017، حين طلبت موسكو -كرد أولي على عقوبات واشنطن ضد روسيا- من الجانب الأميركي تقليص عدد الدبلوماسيين على الأراضي الروسية إلى 455 شخصا، بحيث يصبح مماثلا لعدد الدبلوماسيين الروس العاملين على الأراضي الأميركية.

وقد تطور الأمر بإعلان الرئيس دونالد ترامب أن الولايات المتحدة شنت هجوما سيبرانيا ضد وكالة أبحاث الإنترنت الروسية عام 2018. وألقى المسؤولون الأمريكيون باللوم على الوكالة الروسية، للتدخل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 وانتخابات منتصف المدة عام 2018.

ويُضاف إلى عوامل التوتر بين البلدين الاتهامات المتبادلة بشأن أنشطة تجسس تقومان بهما ضد بعض، حيث وجهت الولايات المتحدة الأمريكية في تشرين الأول من عام 2020 اتهامات لروسيا بالضغط على دبلوماسيين أمريكيين في روسيا لتجنيدهم لصالح الاستخبارات الروسية بعدما ألقت السلطات الأمريكية القبض على بيتر دبينز ضابط سابق في القوات الخاصة لاتهامه بتسريب معلومات سرية تخص الدفاع القومي إلى جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية لأكثر من عشر سنوات.

بالمقابل أعلن الكرملين في 10 أيلول 2019 إن مسؤولا روسيا سابقا كان يعمل في الرئاسة الروسية، يعمل جاسوسا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، هذا المسؤول يُدعى أوليج سمولينكوف ويُعتقد أن له دور في توصل الاستخبارات الأمريكية عام 2016 إلى أن بوتين تدخل شخصيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

وفي ميدان التسلح تشعر روسيا بقلق بالغ بعد ورود أنباء عن قيام واشنطن بنشر صواريخ متوسطة في منطقتي المحيط الهادئ وآسيا قريبة من روسيا، مما قد يدفع موسكو إلى الرد بطريقة قد تثير سباق تسلح جديد، خصوصا بعد انسحاب الولايات المتحدة عام 2019 من معاهدة نزع الأسلحة النووية المتوسطة المدى وإعلانها العمل على توسيع نشر الصواريخ في قارة آسيا، وهو ما حصل فعلا عندما عمدت روسيا إلى إجراء سلسلة من التجارب على الصواريخ البعيدة المدى.

ورغم التوتر الحاصل في العلاقات الروسية الأمريكية إلا انه من غير المنطقي وصف هذا التوتر بمثابة حرب باردة بين الطرفين، وأن ما يحصل هو مجرد حالة من حالات التنافس لتأمين المصالح وتعظيمها وكسب المزيد من مناطق النفوذ في مناطق العالم المختلفة، وعند المقارنة بين زمن الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وما يحصل الآن من توتر بين روسيا والولايات المتحدة، نجد أن كلا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانتا تشعران بأن الأخرى تشكل التهديد الأعظم لها، كما أن القوتين العظيمتين كانتا تقريبا متساويتين في القوة، مع أن الولايات المتحدة كانت بالموازنة في وضع أفضل بكثير من الاتحاد السوفييتي، وكان اقتصاد الولايات المتحدة تقريبا ضعف اقتصاد الاتحاد السوفييتي، وكان من سمات الحرب الباردة صراع بين عقيدتين سياسيتين، الرأسمالية الليبرالية والماركسية اللينينية، وكلاهما كانت عقيدة عالمية، من حيث اعتقاد أتباع كل منهما بأنها صالحة لتنظيم المجتمع في أي مكان في العالم، وقد تخلل هذا الصراع عدد من الأزمات الحادة وسباق تسلح بآلاف الأسلحة ذات الدمار الشامل، والحروب بالوكالة التي ذهب ضحيتها الملايين من البشر، فضلا عن غياب التعاون بين موسكو وواشنطن.

وعند النظر إلى القواعد التي تحكم العلاقات الروسية الأمريكية في الوقت الراهن، نجد أن روسيا لا تسعى لهزيمة الولايات المتحدة فروسيا تفتقر إلى القوة المطلوبة، وهي تدرك ذلك، وكل ما في الأمر أنها تريد احتواء الولايات المتحدة في إطار نظام دولي مرن متعدد الأقطاب، لذلك نلاحظ أن الفرق في القدرات بين البلدين هو كبير ويميل لصالح الولايات المتحدة التي ترى أن الصين هو الخطر الأول عليها وليس روسيا، وأن روسيا ممكن أن تساعد في احتواء أو على الأقل تعقيد صعود الصين إلى الهيمنة الإقليمية في آسيا أو في المستقبل إلى الهيمنة العالمية، وعليه تزداد مساحة المصالح المشتركة بين روسيا والولايات المتحدة، وهذا ما تؤكده حالات التفاهم والتعاون بين البلدين في قضايا عدة منها الصراع في سوريا والتفاهم في الحد من التسلح والتعاون في مجال الأمن السيبراني وكذلك فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني.

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2021 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق