q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

دبلوماسية الزعامات الدينية في ظل الأزمات الدولية

زيارة بابا الفاتيكان للعراق انموذجاً

تأتي هذه الزيارة للعراق في ظل أوضاع شرق أوسطية عاصفة بأزمات محلية وإقليمية ودولية شديدة التعقيد، ومنها ما يبدو بعيداً عن الحل في الوقت الحالي بعد فشل كثير من المحاولات الدبلوماسية لاحتوائه أو إدارته، فتفاقمت حدة الصراع فيها، حتى كاد يصل إلى أعلى مراحله وهي الحرب...

يقوم بابا الفاتيكان فرانسيس (خورخي ماريو ليرجوليو) بزيارة العراق في موعدها المحدد وهو يوم الجمعة المصادف 5 آذار/مارس 2021، وهو رئيس دولة الفاتيكان والبابا السادس والستين بعد المئتين للكنيسة الكاثوليكية التي يكون مقرها في روما بإيطاليا.

وتأتي هذه الزيارة للعراق في ظل أوضاع شرق أوسطية عاصفة بأزمات محلية وإقليمية ودولية شديدة التعقيد، ومنها ما يبدو بعيداً عن الحل في الوقت الحالي بعد فشل كثير من المحاولات الدبلوماسية لاحتوائه أو إدارته، فتفاقمت حدة الصراع فيها، حتى كاد يصل إلى أعلى مراحله وهي الحرب.

وتعد أزمة البرنامج النووي الإيراني في مقدمتها تلك الأزمات، فهذه الأزمة ليست محصورة بين الولايات المتحدة وإيران، إنما لها أطراف دولية أخرى. وتعني لإيران مسألة مشروع استراتيجي يتوقف إزاءه مستقبلها كدولة مهيمنة وكنظام سياسي مسيطر. أما الولايات المتحدة تعدها مسألة حاسمة في تأكيد عودتها للزعامة العالمية، ومواجهة القوى الكبرى الصاعدة من الشرق كالصين والاتحاد الروسي، والقوى الإقليمية البازغة كما هو الحال مع كوريا الشمالية.

ولا شك في أن الصراع والتنافس في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وهي منطقة الخليج العربي، هو صراع حضاري وصراع مصالح الذي يؤثر تفاعلاتها في تحقيق الزعامات العالمية للقوى الكبرى ومن ثم قيادة العالم.

من هنا تنبع أهمية البرنامج النووي الإيراني والذي لابد من حسمه سريعاً وفق الحسابات الأمريكية. إذ انتهجت الإدارات الأمريكية مسالك مختلفة لحله دون أن تفلح، فقد اتبعت مفاوضات دبلوماسية بمعونة حلفاءها الغربيين كدول الإتحاد الأوروبي، فضلاً عن الصين والاتحاد الروسي، وما عرف لاحقاً بالدول الــ(5 + 1) (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا الاتحادية )، والتي تكللت بالاتفاق بينهم في العام 2015 على خطة عمل شاملة ومشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني، في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.

وهذا الاتفاق-الخطة، ما لبثت إدارة الرئيس دونالد ترامب، في الانسحاب منه بعد أن رأت فشله في احتواء إيران وتنامي قدراتها ونفوذها في منطقة الخليج العربي ومناطق هامة في الشرق الأوسط، واتساع رقعة تأثيرها من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط. ما دفع هذه الإدارة الى إتباع استراتيجية جديدة لاحتواء إيران وإرغامها على انتهاج سياسة مغايرة، تتماهى مع الرغبات والسياسات الأمريكية أو العمل بهدوء لإسقاط نظامها السياسي، فاتبعت سياسة الضغوط الاقتصادية القصوى حيالها، فبلغ عدد قرارات العقوبات حوالي 800 قرار.

وقد أطلق الرئيس الإيراني حسن روحاني على هذه السياسة بالحرب الإرهابية الاقتصادية ضد بلاده. لم تنثن إيران عما أسمته بسياسة الصمود بوجه تلك العقوبات، وما انفكّت تطالب الولايات المتحدة بالعودة للاتفاق واحترام تعهداتها الدولية، كما استثمرت المواد التي تضمنها الملحق الإضافي للاتفاق في زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% والعمل على إنتاج معدن البلوتونيوم، كرد فعل على تلك العقوبات والضغط على الولايات المتحدة للعودة للاتفاق النووي، وكذلك على الإتحاد الأوروبي الذي وصفته بأنه تنصل عن التزاماته في تعويض إيران اقتصادياً نتيجة الأضرار التي لحقت بها جراء انسحاب الولايات المتحدة.

وجاءت الإدارة الأمريكية الجيدة وبصمات الحيرة والتردد تعلو محياها، فرئيسها جوزيف بايدن قد عاصر الحقبتين السياسيتين قبل رئاسته، وكان أحد مهندسي الاتفاق مع ايران فترة نيابته للرئيس الأسبق أوباما، وكذا فترة دونالد ترامب وانسحابه من ذلك الاتفاق، في الوقت الذي دعا ويدعو إيران للعودة إلى الاتفاق بينهما، إلا انه يدرك أن الظروف قد تغيرت كثيراً ما بين عقدها والانسحاب منها، وانها بحاجة إلى تعديلات كثيرة بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وأمنها وأمن حلفاءها الرافضين العودة لها، خاصة الكيان الصهيوني، الذي هدّد بقصف المفاعلات النووية الإيرانية اذا ما يا إيران لامتلاك سلاح نووي، وقد اعلن رئيس أركان جيش الكيان الصهيوني انه قد اعد خططاً كاملة لذلك، وإن عاد وانسحب مما صرح به، لكنه عبّر عن مدى امتعاض وخوف كيانه من عودة الاتفاق بين أطرافها. كما صرح رئيس وزراء الكيان الصهيوني بالتهديد لإيران وتحذير الولايات المتحدة من عودتها لتفعيل الاتفاق. ومما يسعى لإضافته الى الاتفاق موضوعة الصواريخ والطائرات المسيرة، ونفوذ إيران في المنطقة.

لقد رفضت إيران أية مفاوضات مع الولايات المتحدة من دون رفع فوري للحصار عنها والإفراج عن أموالها المحتجزة. وإصرارها على موقفها هذا، زاد من إرباك الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن. فهو بين ضغوط داخلية وخارجية هائلة بين العودة للاتفاق من عدمها، شعوره باليأس من تراجع أو تغيير في الموقف الإيراني. لعله أدرك أنه باتت أفق الحلول الدبلوماسية ضيقة، وأن المواجهة مع إيران غدت مسألة وقت، ورهن المقادير في أي فعل ربما تقوم به إيران أو حلفاءها إزاء الولايات المتحدة بما يهدد امنها ومصالحها وهيبتها، كتكرار قصف قواعدها العسكرية كما حدث بالهجوم الصاروخي بحوالي 14صاروخ غراد على قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار. والسؤال ما ذا لو أصابت مثل هذه الصواريخ في مرات قادمة مثلاً، القوات الأمريكية وأوقعت فيها خسائر جسيمة في الأرواح؟

وتأصيلاً على ما تقدم، قد يذهب حدثان في تفسير ما سوف يقدم عليه الرئيس الأمريكي بعد أن أيقن بأن المواجهة مع إيران باتت وشيكة ويمكن أن تتفجر في أية لحظة وبأي فعل مفتعل أو غير مقصود.

الأول: إعلان رئيس وزراء الكيان الصهيوني عن تحالف صهيوني خليجي لمواجهة إيران، سبقه بزمن قصير، اتصال الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن بملك السعودية سلمان بن عبد العزيز، وكشف الاستخبارات المركزية الأمريكية لتقرير يكشف تورط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وهي محاولة للضغط على الملك وولي عهده للتطبيع مع الكيان الصهيوني، والولوج في الحلف آنف الذكر وما سيتبعه من دور في المشاركة أو التمويل أو الدعم اللوجستي المطلوب.

الثاني: يتمثل في زيارة البابا للعراق ولقاء سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني.

وثمة تساؤل يطفو على سطح الذهن، حول وقت الزيارة، ودلالاتها، وفي ظرف أمني وصحي متأزم يعصف بالعراق والمنطقة، وفي أجواء يحفها التوتر والاحتقان الشديدين؟

يمكن أن نطرح فرضية لها ما يسندها وفق كل ما تقدم: أن قداسة البابا يحمل رسالة إلى سماحة السيد السيستاني، منتظراً رأيه فيها ورده عليها. فيما لو وقعت مواجهة عسكرية محدودة لإيران أو حرب معها، فما هو موقفه منها؟ علما بأن للسيد السيستاني نفوذا واسعاً في كثير من المسلمين الشيعة في مختلف البلاد الإسلامية وسواها، وكذلك في ايران، وموقفه يهم الإدارة الأمريكية اذا كان مع أو ضد، ولها تجارب معه في ذلك منها ما ذكره المبعوث الأممي للعراق بعد الاحتلال الأستاذ غسان سلامة، إذ ذكر انه وقتما زار السيد السيستاني لأجل استيضاح رأيه في كتابة الدستور العراقي، وأن الولايات المتحدة متمثلة بحاكمها المدني بول بريمر يعتزمون كتابة دستور للعراق عبر محامين أمريكيين، فرد سماحته : أنه إذا اقدم الأمريكان على ذلك فسوف أصدر فتوى ضد هذا الدستور. ويضف المبعوث الأممي انه حين نقل ما سمعه لبريمر، رد بأنه ماذا يخص هذا رجل الدين بالسياسة؟ وهو إيراني وليس عراقي فما علاقته بالعراق؟ رغم كل ما قاله بريمر إلا أنه أدرك قوة وتأثير سماحة السيد السيستاني وبالتالي أذعن لإرادته.

كما أن موضوعة فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها سماحته حين اجتاحت عصابات داعش واحتلالها لثلث مساحة العراق تقريباً، وقد لبّاها كثير من الشعب وخاصة المسلمين الشيعة منهم مما حفظ وحدة وسلامة البلاد.

هذه المواقف وسواها يدركها صانع القرار الأمريكي، ويدرك كذلك قوة وتأثير واحترام العراقيين ومعظم المسلمين للمرجعية الدينية في النجف، ولا بد من استيضاح موقفها حيال أي فعل قد تقدم عليه.

ولا جرم أن المرجعية العليا لن ترضى عن أي عدوان أو حرب تشن ضد أي دولة أو شعب مهما كان دينها أو مذهبها، لكن ما هو خيار الإدارة الأمريكية أمام هكذا موقف؟ لا بد من أن ثمة رسالة أخرى يحملها قداسة البابا، قد تحمل في ثناياها تهديداً متعلقاً بأمن ووحدة واستقرار العراق تحديداً، وهو ما تحرص المرجعية الدينية في النجف على الحفاظ عليه وتثبيته.

وتبقى الساحة العراقية هشة وسريعة الاتقّاد إذا مالم تلملم جميع النخب والأحزاب السياسية أمرها وبقرار سياسي وطني موحد، وتعد العدة لأي ظرف قادم، آخذةً بنظر الاعتبار كافة الاحتمالات لمواجهة أي خطر داهم، والعمل على تأصيل أسس المواطنة الصحيحة وتعميق مرتكزات النظام السياسي بآليات ديمقراطية دستورية يسهم المواطنين في تبنيها والذود عنها، فقوة الدولة الخارجية تبثق من قوتها الداخلية، فالفاعلية الخارجية تتأتى من الفاعلية الداخلية.

* تخصص: علاقات دولية /دبلوماسية

اضف تعليق