q
يجب أن يكون التعاون بين القطاعين العام والخاص محكوما بالمصلحة العامة، مع عدم تكرار الإخفاقات المرتبطة بالاقتصاد الرقمي اليوم، الذي نشأ في هيئته الحالية بعد أن وفرت الدولة الأساس التكنولوجي ثم أهملت بعد ذلك تنظيم ما بُـني على هذا الأساس. نتيجة لهذا، بَـشَّـرَت قِـلة من شركات التكنولوجيا...
بقلم: ماريانا مازوكاتو

لندن ــ كشفت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) عن نقاط ضعف لا حصر لها في الرأسمالية الحديثة. وفي العديد من البلدان، أفضت تخفيضات الخدمات الاجتماعية والصحة العامة في أوقات سابقة إلى تضخيم الضرر الذي أحدثته الجائحة، في حين أدت جِـراح أخرى جلبتها الدول فرادى على ذاتها إلى نقص تنسيق السياسات وتنفيذها. وانعكس هذا سلبا على ضرورات مهمة مثل الاختبارات الجماعية، وتتبع المخالطين، وإنتاج المعدات الطبية، والتعليم، أثناء عمليات الإغلاق.

على النقيض من ذلك، كان أداء البلدان والدول التي استثمرت في قدرات القطاع العام أفضل كثيرا في الإجمال. وقد تجلى هذا بوضوح في العالَـم النامي، حيث تبرز فيتنام وولاية كيرالا في جنوب غرب الهند.

بدلا من الاضطلاع بدور الملاذ الأول للاستثمار، تحولت حكومات عديدة إلى ملاذ أخير سلبي للإقراض، وأصبحت غير قادرة على معالجة المشكلات إلا بعد نشوئها. ولكن كما كان ينبغي لنا أن نتعلم خلال فترة الركود العظيم التي أعقبت أزمة 2008، فإن إنقاذ الاقتصادات الوطنية أثناء الأزمات يكلف أكثر بأشواط من الحفاظ على نهج استباقي في التعامل مع الاستثمار العام.

فشلت حكومات عديدة في استيعاب هذا الدرس. وفي مواجهة تحد آخر شامل للمجتمع بالكامل، بات من الواضح الآن أن هذه الحكومات تخلت عن دورها اللائق في تشكيل الأسواق، مما سمح بتفريغ المؤسسات العامة من خلال الاستعانة بمصادر خارجية وغير ذلك من الكفاءات الزائفة. لقد أفسح تراجع القطاع العام المجال لفكرة مفادها أن ريادة الأعمال وخلق الثروة حـكـر على الأعمال التجارية الخاصة ــ وهو المنظور الذي يؤيده حتى أولئك الذين يدافعون عن مبدأ "قيمة أصحاب المصلحة".

الواقع أننا كلما زاد اقتناعنا بأسطورة تفوق القطاع الخاص، كلما ساءت أحوالنا في مواجهة الأزمات في المستقبل. إن "إعادة البناء على نحو أفضل" من مكاننا الحالي، كما التزمت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وحكومات أخرى عديدة، تتطلب تجديد القطاع العام، ليس فقط من خلال إعادة تصميم السياسات وتوسيع قدرات الدولة التنظيمية، بل وأيضا من خلال إحياء وصف الحكومة باعتبارها مصدرا لخلق القيمة.

كما أوضح في كتابي الجديد بعنوان "اقتصاد المهمة: دليل رحلات القمر إلى تغيير الرأسمالية"، فإن إنزال رجل على القمر تَـطَـلَّـب قطاعا عاما شديد الاقتدار وشراكة يدفعها الغرض مع القطاع الخاص. ولأننا عملنا على تفكيك هذه القدرات، فلا يمكننا أن نأمل في تكرار النجاحات السابقة، ناهيك عن تحقيق أهداف طموحة كتلك التي حددتها أهداف التنمية المستدامة واتفاقية باريس للمناخ.

لقد أوضح لنا برنامج أبولو كيف يمكن لنتيجة محددة بوضوح أن تدفع التغيير التنظيمي على المستويات كافة، من خلال التعاون المتعدد القطاعات بين القطاعين العام والخاص، وعقود الشراء الموجهة تبعا للمهام، والإبداع وخوض المجازفات بقيادة الدولة. علاوة على ذلك، تميل مثل هذه المشاريع إلى إحداث تأثيرات غير مباشرة ــ مثل البرمجيات، والهواتف المزودة بكاميرات، وحليب الأطفال ــ تعود بفوائد بعيدة المدى.

يقدم نموذج رحلة القمر الأصلي الرؤى والإلهام للسعي إلى إطلاق "رحلات إنقاذ الأرض" اليوم. على سبيل المثال، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، ينبغي لنا أن نعمل على تحويل كل منها إلى مهام عديدة محددة بوضوح من شأنها أن ترسي الأساس للمزيد من الإبداع المتعدد القطاعات من القاعدة إلى القمة. على سبيل المثال، يتطلب تحقيق هدف جعل المحيط خاليا من البلاستيك الاستثمار والإبداع في مجالات مختلفة مثل النقل البحري، والتكنولوجيا الحيوية، والكيماويات، وإدارة النفايات، والتصميم. هذا ما فعله برنامج أبولو من خلال إشعال شرارة الإبداع والابتكار في علوم الطيران، والتغذية، وعلوم المواد، والإلكترونيات، والبرمجيات، ومجالات أخرى.

لا يقوم النهج الموجة تبعا للمهمة على "اختيار الفائزين" من قِـبَـل الحكومة، بل يستند إلى اختيار اتجاهات التغيير ــ مثل التحول الأخضر ــ التي تتطلب الاستثمار والإبداع في قطاعات عديدة. ومن الأهمية بمكان استخدام الطاقة الكاملة لأدوات السياسة لإنشاء مشاريع تستخلص الحلول من العديد من الجهات الفاعلة الراغبة. صممت وكالة ناسا عقود مشترياتها بحيث تركز على الأهداف، في حين تعمل على تشجيع الحلول من القاعدة إلى القمة وإدراج بنود تشترط "عدم السعي إلى تحقيق أرباح زائدة" وأخرى خاصة بالتكاليف الثابتة، حتى ينطوي الذهاب إلى القمر على المشاركة في المخاطر والمكافآت. وهذا درس مهم للعديد من الحكومات التي عانت من ارتفاع التكاليف وانخفاض الجودة بسبب الاستعانة بمصادر خارجية.

الواقع أن رحلات إنقاذ الأرض تشترك في الكثير مع رحلات القمر، ولكن لا ترادف بين الاثنين. من أوجه التشابه الواضحة بين الأمرين أن كلا منهما يتطلب قيادة جريئة ذات رؤية من جانب الحكومات التي جرى تجهيزها على النحو اللائق لـ "تحديد أهداف كبرى والسعي إلى تحقيقها بكل الأدوات الممكنة".

لنتأمل هنا مسألة لقاح كوفيد-19. لقد استرجعت الروح الجماعية والنهج القائم على النتائج في إدارة مشاريع البحث والتطوير لإنتاج اللقاح في العام الماضي روح برنامج أبولو.

في حين توفر الاختراقات التكنولوجية أدوات جديدة، فإنها ليست بالضرورة حلولا في حد ذاتها. تتطلب "رحلات إنقاذ الأرض" الانتباه إلى التغيرات السياسية والتنظيمية والسلوكية. جرى تصنيع واختبار اللقاحات الآمنة والفَـعّـالة في وقت قياسي من خلال التعاون بين القطاعين العام والخاص، في حين أثبت الاستثمار العام أهميته البالغة. لكن التفاوت في الحصول على اللقاح بين البلدان المرتفعة الدخل والمنخفضة الدخل سرعان ما ظهر وازداد عمقا.

عندما يتعلق الأمر برحلة لإنقاذ الأرض مثل التطعيم العالمي، لا يكون الإبداع التكنولوجي مفيدا إلا بقدر تطبيقه في العالم الحقيقي. إن "الفصل العنصري في توفير اللقاح" ــ بدلا من "لقاح الشعب" ــ من شأنه أن يشكل كارثة أخلاقية وكارثة اقتصادية. وإذا كانت شركات الأدوية جادة بشأن دعمها المعلن لمبدأ قيمة أصحاب المصلحة، فينبغي لها أن تشارك براءات اختراع لقاحات كوفيد-19، وبياناتها، والدراية اللازمة لتصنيعها من خلال مجمع الوصول إلى تكنولوجيا كوفيد-19، الذي يظل غير مستخدم إلى الآن.

يتعين على الحكومات أيضا أن تتبنى حقا مبدأ قيمة أصحاب المصلحة، الذي لا ينطبق فقط على حوكمة الشركات. كما يجب أن يكون التعاون بين القطاعين العام والخاص محكوما بالمصلحة العامة، مع عدم تكرار الإخفاقات المرتبطة بالاقتصاد الرقمي اليوم، الذي نشأ في هيئته الحالية بعد أن وفرت الدولة الأساس التكنولوجي ثم أهملت بعد ذلك تنظيم ما بُـني على هذا الأساس. نتيجة لهذا، بَـشَّـرَت قِـلة من شركات التكنولوجيا الكبرى المهيمنة بقدوم عصر جديد من استخراج القيمة الخوارزمية، على النحو الذي أفضى إلى استفادة قِـلة على حساب كثيرين.

لا شك أن التكنولوجيا وحدها لن تحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية أبدا. وعند تطبيق مبدأ "الرحلة إلى القمر" على التحديات المعقدة هنا على الأرض، يتعين على صناع السياسات أن ينتبهوا إلى عدد لا يحصى من العوامل الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية والسلوكية الأخرى، وأن يعكفوا على تكوين رؤية مشتركة عبر المجتمع المدني، والشركات، والمؤسسات العامة.

بالتالي، يجب أن تتضمن "رحلات إنقاذ الأرض" مشاركة مكثفة من جانب المواطنين. على سبيل المثال، يجب أن يكون الحياد الكربوني مصمما مع المواطنين حيث يعيشون، مثل الإسكان الاجتماعي. ومن خلال تبني نهج أصحاب المصلحة الشامل حقا، يصبح من الممكن تطوير المهمة إلى منصة مدنية قوية ومحرك للنمو المستدام، كما هو متصور في الدعوات التي تطالب بصفقة جديدة خضراء، والصحة للجميع، والخطط الرامية إلى سد الفجوة الرقمية.

الواقع أن هذه الدروس شديدة الـصِـلة بإدارة بايدن، التي ستكون قادرة على الاستفادة من قوة دولة ريادة الأعمال القائمة والتي تضم منظمات مثل مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة والمؤسسات الوطنية للصحة، التي تستثمر ما يصل إلى 40 مليار دولار سنويا في الابتكار في مجال الأدوية.

الواقع أن فرصة هائلة باتت سانحة الآن لملاحقة السياسات الصناعية بما يتجاوز الصوامع القطاعية والتكنولوجية التقليدية، واستعادة الحوكمة المدفوعة بالمهمة لتحقيق الصالح العام. على سبيل المثال، تتطلب الاستراتيجية الصناعية الحديثة التي تستهدف النهضة الخضراء أن تكون جميع القطاعات ــ من الذكاء الاصطناعي والنقل إلى الزراعة والتغذية ــ مبدعة ومبتكرة وأن تتبنى اتجاها جديدا. لقد حظي الرئيس جون ف. كينيدي برحلته إلى القمر. وتتلخص مهمة بايدن الآن في إعادة هذه الرحلة إلى الأرض.

* ماريانا مازوكاتو، أستاذة اقتصاديات الابتكار والقيمة العامة في كلية لندن الجامعية والمديرة المؤسسة لمعهد UCL للابتكار والأغراض العامة، هي رئيسة مجلس اقتصاديات الصحة للجميع التابع لمنظمة الصحة العالمية. مؤلفة كتاب "قيمة كل شيء: صنع الاقتصاد العالمي وأخذه في الاقتصاد العالمي، والدولة الريادية: فضح أساطير القطاع العام مقابل القطاع الخاص"، واقتصاد المهمة المقبل: دليل القمر إلى الرأسمالية المتغيرة
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق