q
الترابط الاقتصادي والتبادل التجاري بين روسيا ودول الاتحاد يمكن ان يكون عامل التوازن ونقطة العودة الى الرشد السياسي وعدم الذهاب باتجاه تعميق هذه الخلافات التي لا تكون بمصلحة أحد إثارتها او السعي لإشعال فتيل الحرب الفعلية او الباردة ذات التأثير الأكبر على الطرفين...

لم تكتف العلاقات الروسية الاوربية بالبرود الحاصل بينهما بل شهدت تأزما مؤخرا على خلفية مشاركة دبلوماسيين من المانيا والسويد وبولندا في مظاهرات غير مُرخصة في موسكو، الفعل الأخير لم يكن وحده دليل على توتر الأوضاع، حيث قام ممثل الاتحاد الأوربي جوزيف بوريل بزيارة الى روسيا، وكأنه يريد ان يجلدها بصورة علنية وتحميلها مسؤولية الاضطراب الذي تعيشه علاقة الجانبين.

الزيارة كان المؤمل لها ان تفتح صفحة جديدة لطبيعة العلاقات الروسية الاوربية التي بنيت على مبدأ التسابق والمواجهة المباشرة وغير المباشرة فيما يتعلق بالكثير من الملفات التي تعتبر نواة الخلافات القائمة.

ولكن يبدو ان برويل لم يفلح في تحقيق الغاية التي جاء من اجلها، فالتصريحات التي ادلى بها لا تنم عن رضى اوربي لما تقوم به حكومة موسكو من تحالفات وتحركات دولية بعيدة كل البعد عن التطلعات الاوربية التي تريد ان تبقي روسيا داخل السرب وتحت تحكمها لكيلا يكون لها كلمة اعلى من كلمتها في المضمار الدولي.

علاقات موسكو مع الاتحاد الأوربي من الواضح انها لا يمكن ان تتحسن، طالما دخلت الولايات المتحدة على خط المواجهة الى جانب دول الاتحاد، وبدأت تطلق الحجج واحدة تلو الأخرى، تتعلق بعضها بحقوق الانسان، وبعضها الآخر بسباق التسلح.

ودول الاتحاد تسعى لتنفيذ نفس السيناريو الذي ظللت به الشعوب العربية واخذت تحرض المجتمع الدولي على أهمية الاهتمام بملفات حقوق الانسان وما يتعرض له الافراد من مضايقات بشتى الأساليب، بينما نجد في اوروبا ذاتها انتهاكات واضحة وصارخة لحقوق الانسان، نذكر حول ذلك مثال بسيط وهو ما طالب ويطالب به سكان إقليم كتلونيا الاسباني الذين يريدون الانفصال وتحديد مصيرهم بعيدا عن الحكومة الاتحادية، وشاهدنا ما تعرض له المتظاهرون من قمع وبطش غريبين.

الاتهامات الاوربية وبدون شك تبنى على الأيديولوجيا التي ترتكز على التدخل في الشؤون الداخلية، ورفع شعارات فارغة تماما، فأثبتت بذلك انها لا تحترم مبادئ الديمقراطية التي تنادي بها، ولا حقوق الانسان التي تريد تدعيم أركانها بالمجتمعات الاوربية بصورة عامة.

هذا التناقض في التعامل مع الملفات المتعددة شعرت به روسيا ولا تريد ان ينطلي عليها كما انطلى على سابقاتها من الدول في العالمين الأوربي والعربي، وبالتالي طفت الخلافات الى السطح وانتقلت الى مستوى متقدم من الحدة بحيث لا يمكن تجاوزها بسهولة ممكنة دون وضع قواعد تحكم التعاملات والمداخلات بين طرفي النزاع.

العالم اليوم يريد من روسيا ان تقدم شيء يرطب الأجواء ويذيب الجليد المتراكم، وفي الحقيقة ان من يتوجب عليه تقديم التنازلات هي دول الاتحاد التي لا تريد ان تذهب الى التوازن في معادلة القوى الدولية، فهي تريد ان تكون السيدة والمتحكمة والجميع يأتمرون بأوامرها وينتهون لنواهيها.

الترابط الاقتصادي والتبادل التجاري بين روسيا ودول الاتحاد يمكن ان يكون عامل التوازن ونقطة العودة الى الرشد السياسي وعدم الذهاب باتجاه تعميق هذه الخلافات التي لا تكون بمصلحة أحد إثارتها او السعي لإشعال فتيل الحرب الفعلية او الباردة ذات التأثير الأكبر على الطرفين.

لا يمكن ان نعزي عمق الخلافات الى السبب الأخير، (مشاركة الدبلوماسيين بالمظاهرات)، لكن السبب الحقيقي هو التدافع الدائم على الجلوس في القمة بالمجالات الصحية والتسليحية، كان آخر ما أثار الحفيظة هو التفوق الروسي بإيجاد لقاح لجائحة كورونا وتصديره الى عدد كبير من دول العالم.

من جهة أخرى فان التحركات الروسية بمنطقة الشرق الأوسط وتكوين تحالفات مع المحور المعادي للكفة الامريكية والغربية على وجه الخصوص، يعد التصرفات المثيرة للغضب، فأمريكا تخشى من التقارب الروسي في مجال التصنيع العسكري والتبادل التجاري وما يشكله هذا التوافق من ثقل امام المعسكر الغربي.

ممكن جددا ان المرحلة المقبلة سيكون قوامها الانكفاء على سياسية العقوبات التي تتبعها السياسية الدولية الغربية مع جميع الخصوم المنتشرين في مختلف المحاور، فالأسلوب هذا يتم اتباعه مع إيران التي تمادت كثيرا بحسب القادة الاوربيون في برنامجها النووي الذي يشكل تهديدا حقيقيا على السلم الدولي.

اما في الوقت الحالي فان العقوبات المتبادلة بين روسيا وأوروبا انعكست بشكل إيجابي على الواقع الصناعي والتجاري لروسيا، فقد زادت نسب انتاج المعامل المحلية تعويضا عن السلع والبضائع التي حُرمت منها بعد تقنينها التصدير الى الروس بسبب الخلافات الناشبة والتي تزداد حدة بين الفينة والأخرى.

ربما الأيام القادمة سنرى روسيا مرفوعة على مقصلة الحكم وتجلد بسوط القسوة من قبل الاتحاد الأوربي الذي يرى فيها العامل الوحيد الذي يشوه سمعة الاتحاد ويبين ثغراته عبر الإعلام الفعّال والموظف لكشف الحقائق الغائبة عن اغلب الجماهير الاوربية.

ومن بين اهم التغطيات التي أرقت الجانب الأوربي هي تغطية ثورة السترات الصفراء التي اندلعت في فرنسا ولم تتمكن من السيطرة عليها بحكم القوى الإعلامية الموجهة لفضح الممارسات الخفية ضد المواطنين المطالبين بحقوقهم المشروعة بعد ان ضاق الخناق عليهم.

في الختام فان روسيا لا تريد قطع خيط الارتباط مع الاتحاد الأوربي حرصا منها على بعض الأطراف التي تعتقد تحمل بداخلها نسبة ضئيلة من التأييد للنهج الروسي لكنها تسير مع القطيع الأوربي كالأسير الذي لا يستطيع التعبير عما بداخله، فالعلاقة مع هذه الجهات ستكون حبل المودة الذي لا ترغب بقطعه.

اضف تعليق