q
ان التخلف الحضاري عقبة كبيرة كأداء امام اي تغيير سياسي او تحرك حضاري. والتخلف الحضاري عبارة عن خلل حاد في المركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة به. وبالتالي، فان القضاء على التخلف خطوة تمهيدية ضرورية لاي مشروع تنموي ونهضوي على مختلف المجالات. ومعالجة التخلف تعني اصلاح الخلل الحاد في المركب الحضاري...

توفرت للمجتمع العراقي عدة فرص لبناء دولة حضارية حديثة، ولم يتوفق الى ذلك. وحين استخدم مصطلح "المجتمع" فاني اقصد طبقتي المجتمع، اي طبقة الحاكمين وطبقة المحكومين، حيث تتحمل كل طبقة حصتها من "عدم التوفيق".

الفرصة الاولى كانت في الفترة من تأسيس المملكة العراقية الى عام ١٩٥٨. والفرصة الثانية في الفترة من ٢٠٠٣ الى عام ٢٠١٩. والفرصة الثالثة وفرتها اللحظة الشعبية في التظاهرات الاحتجاجية في تشرين الاول من عام ٢٠١٩.

ولم توفر الفترة من ١٩٥٨ الى ٢٠٠٣ فرصة مماثلة لانها كانت في الحساب الاجمالي نكوصا عن المسيرة الحضارية التكاملية للمجتمع بالمعايير الدولية المعروفة.

لكن المؤلم ان المجتمع العراقي لم ينجح في استثمار الفرص المذكورة لاسباب لست بصددها تفصيليا، لكني اجملها كما فعلت في مقالات عديدة بحالة الخلل الحاد في المركب الحضاري ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة. ولست انسى ان بعض الفعاليات الاجتماعية والفكرية حاولت معالجة هذا الخلل الحاد، كما حاول الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر ذلك، لكنه ايضا لم يتمكن من ذلك. ولربما كان الحزبان الشيوعي والدعوة يفكران بشيء من هذا القبيل لكنهما كانا بعيدين عن تشخيص جوهر المشكلة لاسباب تخصهما.

الفرصة الثانية (٢٠٠٣-٢٠١٩) كانت انموذجية للاخذ بالمجتمع العراقي خطوات نحو الدولة الحضارية الحديثة التي تتألف من مواطنين فعالين، ومجتمع مدني، و سلطات تشريعية وتنفيذية كفوءة. لكن اسبابا كثيرة حالت ايضا دون استثمار تلك الفرصة التاريخية. وهي اسباب يجمعها العنوان العريض الذي استخدمته منذ فترة مبكرة، وهو: "عيوب التأسيس".

وكادت الفرصة الثالثة تفتح الباب امام سلوك الطريق الموصل الى الدولة الحضارية الحديثة، لكن اختراق تلك اللحظة من قبل قوى خارجية وداخلية كثيرة، وتسييسها، فضلا عن عوامل اخرى، اجهضها رغم الدعم الشعبي والمرجعي الهائل وانتهت بتسليم السلطة والحكم على طبق من ذهب الى اعجز الناس عن قيادة المجتمع والدولة نحو الهدف المنشود.

ضياع تلك الفرص ليس سببا لليأس او الاحباط او الانكفاء نحو الذات، انما هي خبرات سياسية يكتسبها المجتمع وتدفعه الى البحث عن مسالك وطرق اخرى للوصول الى الهدف. وهذا ما تقوم به كل المجتمعات الواعية. ولهذا فان على المجتمع، ممثلا بقواه السياسية والمدنية العاملة، ان يواصل العمل والحضور الميداني وخوض التجارب تلو التجارب.

واذا كان في التجربة علم مستأنف كما يقول الامام علي، فان التجارب الماضية علمتنا الدرسين التاليين:

الدرس الاول، ان التخلف الحضاري عقبة كبيرة كأداء امام اي تغيير سياسي او تحرك حضاري. والتخلف الحضاري عبارة عن خلل حاد في المركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة به. وبالتالي، فان القضاء على التخلف خطوة تمهيدية ضرورية لاي مشروع تنموي ونهضوي على مختلف المجالات. ومعالجة التخلف تعني اصلاح الخلل الحاد في المركب الحضاري، وهذه مسألة ليست عقائدية او ايديولوجية او حزبية، وبالتالي فلا تستدعي خلافا بين القوى الفاعلة، انما هي دائرة اتفاق واشتراك بغض النظر عن المسوغات التي يملكها كل فريق.

الدرس الثاني، ان غياب الرؤية المشتركة للهدف الاعلى للتغيير يتسبب في تمزق الصفوف وتشتت الجهود وبالتالي ضياعها وفشلها في تحقيق الهدف. وهذه حقيقة علمية تاريخية اشار اليها القران الكريم بقوله :"وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا". والتنازع هو عدم وحدة الهدف، والفشل عدم القدرة على تحقيقه، وذهاب الريح فقدان القوة، والصبر هو تحمل تبعات الوحدة. والوحدة المطلوبة هي الاتفاق على الدولة الحضارية الحديثة كهدف اعلى للمجتمع العراقي بوصفها اتجاها تاريخيا عاما قابلا للقياس.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق