q
لقد مضت عشرات السنين على تلك الخطة، وانطفأ وهج الجنون بعد أقل من سنة، وبعد تدريب شاق لنفسي، استطعت أن أفهم عالم الكتب، وأتعامل مع الأفكار على أنها مقترحات وليست ثوابت، وأن الخيال من المحال تحويله إلى واقع، ولكن لازلت أؤمن بأن جنون القراءة، تمكّن من تغيير عقليتي...

(كل فكرة جديدة تُضاف إلى أفكارك، قد تنفعك، وقد تضرّك)، هذه الكلمات التي سمعتها من أحد أساتذتي في الدراسة المتوسطة، لا تزال ترتسم أمامي بحروفها وكلماتها إلى الآن، ولا يزال معناها مشعّاً في بصيرتي، لقد سمعتُها وأنا في الصف الثاني المتوسط، وحينها دخلتُ سنّ البلوغ توّاً، في ذلك الوقت لم تكن تعني لي شيئاً ذا بال، بل مرّت مرور الكرام مثل سواها، لكنني لكي أكون دقيقا لم أنسَها، لأنها ظلَّت تدور في رأسي كناقوس لا يكف عن القرع والرنين.

ومع مرور الزمن بدأتُ أشعر بالجوع لتعلّم أشياء خارج المناهج المدرسية، وعرفتُ أنني بحاجة إلى أفكار جديدة، لم أكن أفكر بالمفيد والمضِرّ، كنتُ فقط أحاول أن أملأ الفراغ والجوع الفكري الذي يعاني منه رأسي أو دماغي، بحثتُ عن علاج، فوجدتُ في قراءة القصص ملاذا مهدِّئا، ثم انتقلتُ إلى الروايات، ومع كل سنة جديدة تمر، تتّسع حاجتي للأفكار الجديدة، لكن الشخصيات القصصية والروائية هدَّأت قليلا من شعوري بالجوع الفكري.

مثلا وجدتُ في شخصية الهذال بطل رواية (مدن الملح) لمنيف عبد الرحمن بعضا من حاجتي، وأدهشتني روح البطولة الأسطورية التي كان يتحلى بها بين قومه الصحراويين (البدو)، وحين عشتُ عذابات (رجب) بطل رواية (شرق المتوسط) لمنيف أيضا، كنتُ أتخيّل نفسي بطلا سياسيا طامحا نحو الحرية بلا خوف أو تردد، كان الألم الذي يعانيه رجب بمثابة ألمي، وكنتُ أبكي بدموع صادقة حين أدخلوه زبانية السلطة عاريا في كيس مصنوع من الجنفاص وأدخلوا معهُ قططا جائعة، وأغلقوا الكيس بإحكام بواسطة حبل قوي، تخيّلتُ نفسي عاريا محبوساً مع القطط في هذا الكيس المغلق، عشتُ الحالة كأنني رجب، كنت أجد معنى لحياتي وأنا أعيش مع هؤلاء الأبطال الذين لم نكن مثلهم ولم نعانِ معاناتهم، ولكنّ القراءة كانت وحدها الحل لملء معدة الأفكار.

ومع مرور الزمن تخلى السرد (القصة والرواية) عن مهمة نقل الأفكار من الكتب إلى رأسي، لم تعد مغرية لي حين تجاوزتُ مرحلة الاندهاش الأولى، بعد أن قرأت عشرات المجاميع القصصية والروايات العراقية والعربية والعالمية، ولازلت حتى اللحظة أتذكّر بطل رواية (حبة قمح) للروائي الكيني نغوغي وا ثينغو، وهو يتقافز حافيا فوق الرمال وكيف كانت قدماه تشعان لحظة ملامسة الأرض، وكيف كان جسده كلّه عبارة عن شبحٍ مشعّ، وكم تمنيتُ في لحظات قراءة (حبة قمح) أن يصبح جسدي كتلة من شعاع وليس من لحم يابس لا يشعَ ولا ينفع في شيء خارج نطاق الواقعي الرتيب، ولكن مع تقادم الزمن أصبح الإبهار الروائي أقلّ تأثيرا، وتلاشت مع الوقت قدرتي على تلبّس الشخصيات الروائية الرهيبة.

بقيَ الجوع الفكري ينهش رأسي من الداخل، وكنتُ أعاني من هذا الجوع حقا، لدرجة أنني غالبا ما أنسى إطعام جسدي، وكنتُ أكتفي بوجبة واحدة كفيلة بجعل جسدي مستكينا هادئا طوال 24 ساعة، لكن ما الفائدة من هجوع الجسد ورضاه، إذا كان الرأس يتضوّر جوعا للأفكار المغايرة، كانت هذه المعادلة توجعني كثيرا، وأقصد بها إشباع الجسد من أحد طرفيّ المعادلة، وإبقاء الرأس يتضوّر جوعا من الطرف الثاني.

هنا بدأت أتحوّل إلى بعض الروايات الفلسفية والكتب النقدية الفكرية، فقرأتُ رواية (طقوس في الظلام) لكولن ولسن الانكليزي الذي لمع نجمه بقوة في العالم العربي أكثر من بلده، ثم قرأت روايته (ضياع في سوهو) ثم قرأت روايته (رجل بلا ظل)، وبدأتُ أقرأ كتبه الفلسفية والفكرية، كالمنتمي و اللامنتمي و سقوط الحضارة و الشعر والصوفية وكتابه النقدي المهم (فن الرواية)، ثم قرأتُ أصول الدافع الجنسي، والإنسان وقواه الخفية، وكتب أخرى له قد يكون أهمها كتابه (رحلة نحو البداية)، أدخلني ولسن إلى عالم فكري فلسفي لم أعهدهُ من قبل.

كنتُ في وقتها جندياً مكبّلا بالأوامر العسكرية المعروفة بصرامتها، وكان معي في الغرفة أربعة جنود آخرين، ليس فيهم من يقرأ الرواية أو الفلسفة، بل ينظرون إلى القراءة غير المدرسية ترفاً أو ضربا من العبث، وكانوا يستغربون شغفي الكبير بالقراءة، لكنهم لم يتدخّلوا في شأني وأظهروا لي احتراما جيدا، في ذلك الوقت كنتُ اشعر بضآلتي، كأنني مسخ كافكا، لا يُسمح لك بقراءة ما ترغب، وسلسلة الكتب الممنوعة كبيرة، ومعظم ما نقرأه كان يتم بالخفاء، وقد يكون هذا السبب الذي يقف وراء ولعي بكتابات الفيلسوف (المجنون) نيتشة الذي يذكره كولن ولسن كثيرا في مؤلّفاته، ويُسهب بشكل نقدي تطبيقي لفلسفته.

كنتُ قرأت عن الإنسان السوبرمان الذي اشتهر به نيتشة، قرأته في كتابات ولسن وآخرين من الكتاب والفلاسفة، وسمعتُ عنه في بعض جلسات النقاش التي تدور في النوادي والمقاهي الأدبية، وخطر في ذهني حينها أنني لكي أتخلص من ضآلة شخصيتي، وبلوغي مرتبة الاحترام الذاتي الأهم من احترام الآخرين لي، لابد أن أقرأ (هكذا تكلّم زرادشت)، وهو كتاب نيتشة الذي يدور في لبّهِ حول فلسفة الإنسان (السوبرمان)، وبالفعل اقتنيت هذا الكتاب، وتفرّغتُ له بشكل تام، ودخلتُ في عالمه الذي يصطخب بالجنون، ومع تعاقب صفحات الكتاب وتعاقب الأيام، رحتُ أغوص في لجّة الجنون، فقد تحوّلت إلى إنسان آخر يختلف عمّا كنتُ عليه، وأخذَ ذلك الشخص الضئيل المغلوب على أمره يتحوّل بالتدريج إلى الـ (السوبرمان) الذي يطرحه نيتشة بكتابه هكذا تكلم زرادشت.

في غرفتنا التي تضم أربعة جنود معي، كان لدينا مخزن مربع الشكل أبعاد أضلاعه متر ونصف المتر، دخلتهُ وأقفلتهُ عليَّ من الداخل، وواصلتُ الغوص في عوالم نيتشة، كنتُ أقضي طوال ساعات الليل فيه، ومعظم ساعات النهار غائصا في القراءة وتدوين الملاحظات والهوامش، لم يعكّر عليّ زملائي الجنود عزلتي، تركوني مع نفسي وعالم القراءة، حتى الطعام الذي كانوا يجلبونه لي يبقى مكدّسا فوق بعضه، لم أكن أرغب بالأكل، جسدي لم يشعر بالجوع، ما كنتُ أشعر به هو الأفكار الغريبة التي اقتحمت رتابة حياتي.

ومع الوقت بدأتُ أتحوّل إلى إنسان (سوبرمان)، وتغيّرت ضآلتي إلى شعور متفاقم بالقوة، صرتُ متمردا على كل شيء، نسيتُ تماما بأنني جنديّ محكوم عليه بالانضباط التام طالما كان جنديا، لم أعد أحضر (تعداد العرضات الصباحي ولا المسائي) حيث كان (الأمراء والعرفاء) يعدّون الجنود كي يتأكّدوا من تواجدهم في الثكنة، كذلك لم أتواجد في الدوام العملي، ولم أختلط بالجنود في المطعم، ولا في البهو المخصص للتسلية والراحة ومشاهدة شاشة التلفاز، عشتُ عزلتي كنوع من الاحتجاج ضد الظلم والصرامة وقلّة الاحترام.

ثم استجدت رؤية جديدة لي بسبب نيتشة، فقد تحوّلت إلى سوبرمان، ورحتُ أحلّقُ في خيالي عاليا، فوق رؤوس الضباط الأمراء، وكنتُ أنظرُ إليهم من أعالي فضاء (وحدتي العسكرية)، فأراهم (ديدان) صغيرة كما كان (سوبرمان) نيتشة يرى الناس الآخرين، لم تعد الأوامر العسكرية تخيفني أو ترهبني، ولم أعدْ أخاطب الضباط بكلمة (سيدي) كما تنص الأوامر، ألقوا بي في السجن لمخالفتي الأوامر، لكنني وجدتُ بالسجن فرصة لمواصلة القراءة مع انعدام الواجبات العسكرية كوني داخل السجن، وأثناء ذلك قمتُ بوضع خطة ذاتية حياتية خاصة بي بعد الانتهاء من قراءة (هكذا تكلم زاردشت)، وهذه الخطة تمتد على ساعات اليوم الواحد (24 ساعة)، وبعضها يتجاوز الإطار اليومي إلى الشهري، ويتم تطبيقها على مدار الوقت.

تضمنت خطة حياتي الجديدة ما يلي:

- يُسمَح لي بتناول وجبة طعام واحدة طوال اليوم.

- يُسمح بصلاة واحدة طوال اليوم.

- يُسمح بالخروج من الصومعة عشر دقائق باليوم فقط.

- لا يُسمح بالحديث إلى الآخرين إلا إذا كانوا من نوع (سوبرمان).

- لا يُسمح بصرف الوقت في أي نوع من الملّذات أو التسلية خارج الخطة.

- يُسمح الاستحمام مرة كل عشرة أيام.

- عدم الخضوع للأوامر العسكرية حتى لو كان مصدرها أعلى الضباط.

- هناك فقرة شهرية، إذ يُسمح بممارسة الجنس مرة واحدة بالشهر فقط.

- الاستعداد لأعلى قدر من التضحية لتطبيق هذه الخطة، ومواجهة ديدان الواقع لاسيما الضباط وأوامرهم.

لقد مضت عشرات السنين على تلك الخطة، وانطفأ وهج الجنون بعد أقل من سنة، وبعد تدريب شاق لنفسي، استطعت أن أفهم عالم الكتب، وأتعامل مع الأفكار على أنها مقترحات وليست ثوابت، وأن الخيال من المحال تحويله إلى واقع، ولكن لازلت أؤمن بأن جنون القراءة، تمكّن من تغيير عقليتي، وحفّز عندي رغبة الإطلاع وشراهة القراءة والكتابة بوصفها علاجا وملاذا، بل أكثر من ذلك خفف من وطأة الأجواء العسكرية التي كنتُ أعيشها مرغما، وقلّل من مخاطر الإصابة بالجنون الفعلي، لقد كانت سنوات صعبة لكنها غنية بالحماسة والابتكار والهروب بعيدا من طوق الحياة الروتينية البائسة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق