q
نعم لقد ربحت أمريكا حربين عالميتين، وأعطت العالم السيارة، والطاقة النووية، والإنترنت، ووضعوا الرجال على القمر، وأسست لها دستور حضاري، وقوانين ديمقراطية رائعة. لكن شرايينها تصلبت ودخلت مرحلة الشيخوخة. وحان الوقت الآن للاعتراف بأن أمريكا قد قفزت على شكل سمكة القرش. وكل هذه الانتصارات لا تعني أنها فنّدت بشكل نهائي اتجاهات الإمبراطوريات...

سيضحك البعض على مفردات العنوان: القبيلة والتقسيم. مثلما ضحك الكثير على تنبؤات علماء المستقبليات وكتّاب الخيال العلمي في بداية القرن الماضي على فكرة صعود الأنسان إلى القمر، واكتشاف الأقمار الصناعية والسليكون والإنترنت واختراع القنبلة الذرية. كما استهزئ الكثير على توفلر في كتابه (الموجة الثالثة) عندما صدر في أواخر ثمانينيات من القرن الماضي متنبأ بانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، والذي حدث فعلا بعد صدوره بثلاث سنوات. فالتاريخ عقل كبير يغذي البشرية بالأفكار والتجارب. ليس هناك عائق للعقل البشري في التوقف والحلم والتفكير بالمستقبل. والزمن دورات تاريخية متوالية الحدوث. فلا إمبراطورية تدوم إلى الأبد، وكل مملكة تولد لتموت.

نعم ممكن إن يكون عنوان المقالة نوعا من الفانتازيا السياسية، شطط في التصورات، وأحلام افتراضية أمام السؤال الصعب: هل يمكن لمجتمع بهذه الوفرة المادية والقوة العسكرية أن ينقسم دون أسباب ضرورية؟

يقول الصحفي الأمريكي اللامع كولن وودارد على هذه الفنتازيا السياسية: لا توجد أمريكا ثقافة واحدة، وإنما أمريكا متعددة، لأنها لم تنشأ أصلا كمؤسسة واحدة، بل مجموعات منفصلة كليا، كونت عناقيد من مستعمرات منفصلة لها مثل عليا، وأهداف مختلفة. وأحفاد المؤسسين لهذه الأقاليم على امتداد أجيالهم لا يستوعبون ثقافة أمريكية محددة، بقدر ما يستوعبون ثقافة هذه الأقاليم. وهي التي تقود روح الشعب والسمات العامة المستمرة لهذه الأمم.

العودة للزمن الماضي لفهم الحاضر

والعودة للتاريخ ودوراته الزمانية ينعش الذاكرة: فالقرن الخامس عشر كان برتغاليا، والسادس عشر كان إسبانيا، والسابع عشر ألمانيا، والثامن عشر فرنسيا، والتاسع عشر بريطانيا بامتياز، وقد وصل توسع الإمبراطورية البريطانية إلى أقصى حدوده في العام 1935 ثم ظهرت أميركا كقوة اقتصادية، وعسكرية وسياسية، وعلمية، وتكنولوجية طاغية ومهيمنة، أطاحت بالإمبراطورية البريطانية واحتلت مكانها. فما المانع أن تنهار هي الأخرى ضمن حركة التاريخ ومنطق المتواليات الهندسية السياسية، والنظريات الدائرية لانهيار الدول.

لست معنيا بما سيحدث لأمريكا من باب الموضوعية، ولا بتفسير أصوات الدعاء الذي يشق عنان السماء من ملايين البشر الذين شردتهم أمريكا، وقسمت بلادهم إلى دويلات، وأحزاب وطوائف وقوميات متناحرة، وقتلت الملايين منهم ظلما وتعسفا، ويتمنون انهيارها وتقسيمها من باب تشفي غليل المظلوم من ظالمه. لكنني سأكتب عن وقائع وتفسيرات وتنبؤات قد تسهل فتح الباب الخلفي والسري لمشاهدة المشهد العام لكي أترك عقل القارئ يختار الحقيقة بحلوها ومرّها.

عندما كانت الإمبراطورية البريطانية تسيطر على العالم، يوم كانت لا تغيب عنها الشمس. ظهر من ينتقدها من سكانها الأصليين بعد إن ظهرت عليها بوادر العنجهية والقوة ومنطق السيطرة ونهب الثروات، وتوزيع الظلم على المستعمرات، حيث يختلط التاريخ والمأساة. يعود التاريخ مرة أخرى من داخل أمريكا، حيث الأصوات المبشرة بالانهيار والتقسيم. بدأها الثلاثي القائل بفكرة (نظرية الانحطاط) وهم (إيان موريس والمؤرخين الشهيرين بول كيندي ونيال فرغيس)، حيث يعتقد كيندي بأن قوتها هو نتاج تراكمي لنموها الاقتصادي السريع ما بين 1870-1950 بينما سقوطها القادم يعود إلى الهيمنة والعجرفة، والحروب التي استنفدت الكثير من ثرواتها. ويتوقع موريس أن تبقى الولايات المتحدة بلدا لا غنى عنه لجيل آخر وربما جيلين لكن ربما ليس ثلاثة. فمع زيادة التطور الاجتماعي أكثر فأكثر، تشرع الثورات في علم الجينات والحوسبة والروبوتات وتكنولوجيا النانو في إعطاء مفعول لتكويننا البيولوجي، مما يحدث تحولات في ما معنى أن تكون بشرا.

بمنطق التاريخ، فكل إمبراطورية أو تحالف سابق، كان مآلها التّدهور والسّقوط في نهاية المطاف من دون استثناء. وكما أشار جورج فريدمان، ربّما تكون الهيمنة الأميركية أقوى هيمنة شهدها العالم، لكنّها تخضع هي الأخرى إلى الحدود نفسها التي خضعت لها سابقاتها.

تنبؤات السقوط والانهيار

وعندما نتحدث عن السقوط والانهيار، لابد من التذكير بالمفكر الأمريكي توفلر أحد علماء دراسة المستقبل الذي تنبأ بانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي حدث بالفعل بعد صدوره بثلاث سنوات. لكن المفارقة تنبأه أيضا بتفكك الولايات المتحدة الأمريكية نفسها إلى ولايات مستقلة. فتوقع أن تندلع ثورة للسود في أمريكا، وأن تمتد إلى كل الولايات. وأن تشهد أمريكا حرائق ومظاهرات وأعمال شغب وقتل وانهيارا أمنيا، مما سيقود إلى الانهيار والانفصال. وحسب توصيف توفلر فقد شاهدنا اليوم نصف الكوب الأمريكي، بانتظار أن نرى نصفه الآخر في لاحق الأيام.

وهذه النبوءة تذكرنا بالأحداث والتطورات التي شهدتها الولايات المتحدة في الفترة الماضية وتحديدا في أعقاب مقتل المواطن الأسود فلويد. وفي إطار هذه الحركة شهدنا تمرد العديد من حكام الولايات على الإدارة الأمريكية، ورفض تنفيذ أوامرها وقراراتها. بل ينكرون عليها التدخل فيما يعتبرونها شؤونا مستقلة في ولاياتهم. ويطالبونهم بتفكيك مؤسسات الدولة المركزية، كالمطالبات مثلا بتفكيك جهاز الشرطة. مثلما حدث لمطالبة ولاية كاليفورنيا باستقلالها عن الولايات المتحدة الأمريكية تحت حملة (كاليفورنيا وطنا). مما دفع الكثير من الباحثين والمحللين الأمريكيين إلى أن يثيروا قضية الانهيار والتفكك والحرب الأهلية صراحة.

ويُذكر أن عالم الاجتماع النرويجي يوهان كالتونج، المختص بعلوم السلام والمعروف توقع الأحداث السياسية الكبرى وأبرزها انهيار الاتحاد السوفيتي. كذلك تنبأ أيضا بانحسار دور الولايات المتحدة كقوة عالمية خلال فترة تولى دونالد ترامب الرئاسة، وأكد أن توليه للرئاسة سيسرع من عملية (الانهيار الأمريكي). وإن الهيمنة الأميركية ربما تنهار في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أو تتآكل بفعل الشك في الذات.

وبعيدا عن التنبؤات والتوقعات بالعقل الأمريكي، والتفسيرات النظرية الماركسية اللينينية، فإن شواهد الواقع تنتصر لفكرة التآكل السياسي الذاتي، وانهيار في بنية المجتمع الأمريكي. هناك خلل في الهوية داخل المجتمع الأمريكي وانقسامات خطيرة تبدو اليوم في مأزق، وتكاد تتسبب في حرب ثقافية أول الأمر. فالشرخ حادث في الجدار المجتمعي الأميركي، وإرهاصات الانفصال وراء أبواب عدّة ولايات كبرى قائمة وقادمة، وعنصرية تتجذر في الثقافة المجتمعية لتصبح كأنها جزء من حياة الفرد الأمريكي.

لقد أدت الحوادث البسيطة، ومعارك الطبقات الاجتماعية إلى زيادة لهب الاحتجاجات وأصوات الانفصال. فاشتعلت شرارة الفوضى في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ظهور فيروس كورونا المستجد في الولايات المتحدة، حيث رأينا أن الاستجابة الفيدرالية لفيروس كورونا فشلت. وانقسمت الولايات بالفعل إلى مجموعات من أجل البقاء.

وأزدادت الفوضى وحمى الصراعات السياسية والمجتمعية. وتحولت العاصمة الأميركية واشنطن إلى ما يشبه الثكنة العسكرية؛ إذ انتشر في الأرجاء نحو 20 ألف جندي من الحرس الوطني وقوات الشرطة والمباحث الاتحادية، خوفاً من أعمال عنف متوقَّعة من قبل الرافضين لنتيجة الانتخابات، والاعتقاد بأنها كانت انتخابات مزورة.

المثير حقا في الحياة الأمريكية خلال السنوات القليلة الأخيرة ظهور ميليشيات مسلحة منقسمة بين الدفاع عن العرق البيض، وأخرى عن العرق الأسود. وهي تعمل طبقا لمعتقدات سياسية معينة، وبشكل منفصل عن قوات الأمن الرسمية. آخر تلك المجموعات تسمى (الميليشيا السوداء) وهي مجموعة مسلحة للأمريكيين الإفريقيين يتزعمها ضابط سابق بالجيش الأمريكي قال إنها تعمل على مواجهة العنف الشرطي ضد المواطنين أصحاب البشرة السوداء. تقابلها مجموعات أخرى أسسها أمريكيون من أصحاب البشرة البيضاء ينتهجون سياسات عرقية ويمينية متطرفة مثل حركة (بوغالو) وحركة (حفظة القسم) و(الثلاثة في المئة)، إضافة إلى مجاميع أخرى. وكلها مليشيات تنشط مع الفوضى السياسية والمجتمعية، والممارسة العنصرية من قبل الشرطة. مما ينذر بحروب أهلية مستقبلا في ظل نظام البيع المباشر للأسلحة، وانتشارها في البيوت.

الصدع لا يمكن التغلب عليه

ما يحدث في أمريكا اليوم، ليس سببه ترامب فقط، بل هو عرض أو علامة من علامات مرضها المزمن! فهو خلل بنيوي ووظيفي للنظام. وكما أشار الاقتصادي الأمريكي والحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيجليتز في كتابه الأخير، (الناس، والسلطة، والأرباح) (2019): (أنتجت عصور كلينتون وبوش وأوباما المجتمعات الأكثر انعدامًا للمساواة على الرغم من تسمياتها السياسية المختلفة. إن تحديد سياسات الرؤساء الثلاثة هو عدم المساواة المذهل الذي يمثله الأمريكيون الثلاثة الأكثر ثراءً الذين جمعوا ثروة تفوق 168 مليون أمريكي مجتمعين).

كذلك هي ازمة مجتمع يبحث عن هوية مفقودة بسبب العنصرية، وأزمة نظام سياسي قبلي منقسم بين حزبين ودولتين أمريكيتين واحدة سوداء، وواحدة بيضاء، منفصلة وغير متكافئة. وأمزجة رئاسية فردية تخرج قراراتها على مزاجها الخاص. جورج دبليو بوش لم يعجبه بروتوكول كيوتو فأخرج أمريكا منها. باراك أوباما يؤمن بتغير المناخ ودعم اتفاق باريس. دونالد ترامب لا يسحب ولايخرج بفوضويته وعنجهياته. جو بايدن سيعكس المسار مرة أخرى في ظل إحباط الناس وتخوفهم من المستقبل. أنه العقم، حيث تتغير الأرض باستمرار من تحت أقدام الأميركيين.

وحسب رأي كلين أحد المفكرين، فإن أمريكا مستقطبة، أولاً وقبل كل شيء، من خلال الهوية. كل من يشارك في السياسة الأمريكية ينخرط، على مستوى ما، في سياسات الهوية. خلال السنوات الخمسين الماضية في أمريكا، اندمجت هوياتنا الحزبية مع هوياتنا العرقية والدينية والجغرافية والأيديولوجية والثقافية. لقد اكتسبت هذه الهويات المدمجة ثقلاً كبيراً في سياستنا وتمزق الروابط التي تجمع هذا البلد معاً. لدينا هويات لا تعد ولا تحصى، بعضها في صراع نشط مع الآخر، والبعض الآخر يصبح خاملاً حتى يتم تنشيطه عن طريق التهديد أو الثروة.

والقصة لا تنتهي إلى هذا الحد لصورة الانهيار. هناك أمور حدثت كأنها جرت في دول الموز، وليس في أمريكا، تعطي إشارات حمراء حول مستقبلها. فالفشل الأمريكي في إدارة أزمة كورونا، وارتفاع أعداد الوفيات يعود إلى فشل النظام الصحي المصمم في الأصل لرعاية النخبة الثرية، وإلى عدم وجود شبكة أمان اجتماعي للضعفاء، وكبار السن، والمعاقين، وإلى عدم وجود مساواة حقيقية بين المواطنين في إمكانية الحصول على خدمات الرعاية الصحية عند الضرورة. لقد شاهد العالم كيف كانت الكوادر الصحية في المستشفيات الأميركية تنتظر بفارغ الصبر وصول الإمدادات من المستلزمات، والأدوية، والأجهزة الصينية الصنع لإنقاذ أرواح المرضى الأمريكيين.

بالمقابل أظهر الوباء انتشار ممارسات الشرطة غير العادلة، ونظام العدالة المعطل، وقمع الناخبين على نطاق واسع، وعدد كبير من أشكال التمييز العنصري المتأصلة ثقافيا. لكن ما رأيناه في واشنطن العاصمة كان تجسيدًا لعدم الرغبة الفطرية في إنفاذ القانون لمواجهة العصابات البيضاء التي شجعها الامتياز الأبيض.

الأخطر، هو تدمير الطبقة الوسطى الفاعلة والمؤثرة، التي يعود الفضل لها في صناعة التفوق الأمريكي في النصف الثاني من القرن الماضي وفي بداية القرن الحالي، لصالح فئات معينة من الأفراد والعائلات الأثرياء، والمؤسسات مثل؛ البنوك، والأسواق المالية الوهمية. ففي أميركا، يمتلك 1% من الأميركيين 30 ترليون دولار، بينما البقية غارقة في الديون، وديونها أكبر من ممتلكاتها. كما خلقت مغامراتها العسكرية في الخارج أزمات متتالية، فهي أكبر دولة مدينة في العالم بمبلغ يتجاوز 30 ترليون دولار. مقابل تفاقم ظاهرة العنصرية في مجتمعها والتي تتجلى في التمييز بين المواطنين في: التوظيف، والتعليم، والرعاية الصحية. يبدو أن الصدع لا يمكن التغلب عليه!

وعزل الرئيس ترامب ليس هو الأول في الحياة السياسية الأمريكية. فقد حدث في الماضي بروائح كريهة: أندرو جونسون الديمقراطي صعد إلى سدة الحكم عام 1865 بعد اغتيال الرئيس الأمريكي (أبراهام لينكولن) أي بعد الحرب الأهلية، حيث تصاعدت الحملات ضد عزله بسبب خرقه قانون إعفاء الوزراء، وإطلاق نار العنصرية تجاه العبيد المحررين حديثا. وهو أول رئيس يخضع للمحاكمة منذ ميلاد أمريكا لكنه نجح من قرار العزل. أما الرئيس الثاني فهو بيل كلنتون 1998 بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي، لكنه استطاع الإفلات من العزل أيضا. بالمقابل استقال ريتشارد نيكسون من منصبه عام 1974 قبل إمكانية مساءلته بسبب فضيحة ووترغيت ليقطع الطريق أمام إجراءات عزله. والخوف أن يتحول العزل في ظل التنافر الحزبي إلى ثقافة دائمة!

المشهد الأمريكي المختصر

سأختصر لكم المشهد الأمريكي بالخطوط العامة: فنتازيا التقسيم والانهيار ليس جديدا، فعند تأسيس الولايات المتحدة، حذر الرئيس الأول للولايات المتحدة، جورج واشنطن، من مخاطر الحزبية في خطاب الوداع: (إنها تثير الغيرة في المجتمع وتثير الشغب والعصيان أحيانًا)، وتحولت مخاوفه إلى واقع مخيف بعد أقل من 100 عام عندما أدت قضية العبودية إلى اندلاع الحرب الأهلية. لقد فقدت الولايات المتحدة 750 ألف شخص في تلك الحرب، أو ما يقرب من 2 من سكانها. ومن الكساد الكبير إلى حرب فيتنام، تميز القرن العشرين بفترات من الانقسام بسبب عدم المساواة الاقتصادية والأيديولوجية السياسية واستخدام القوة العسكرية.

وكما يقول كسينجر عراب السياسة الأمريكية: إن التاريخ منجم زاخر بالحكمة التي قد نجد فيها المفاتيح الذهبية لمشاكل حاضرنا. كذلك التاريخ في (باطنه نظر وتحقيق) كما يقول ابن خلدون. فما يحدث اليوم في أمريكا هو جزء من الماضي بمفاتيحه الذهبية لفتح الحاضر، وباطنه نظر لاكتشاف الحقيقة. فما يحدث اليوم في أمريكا هو التاريخ المتراكم المتصل بحلقات مترابطة. لكن الدهون اَلْمُتَشِّحمَة بالمشكلات والثقافات المتناحرة والمتنوعة تصلبت على شكل بركان نار بدأ يطلق علامات تحذيرية لانفجار قوي، باهتزازات مجتمعية، وحمم بركانية سياسية مميتة، وغازات عنصرية، بسبب تشققات في قشرة المجتمع الأمريكي ونظامه السياسي الذي قد يؤدي إلى حرب أهلية. كما هو الخطر المتأصل بسبب سياسات الهوية الذي يدفع الأفراد إلى قبائلهم السياسية، حيث يصبح جزء من حمضهم النووي التطوري.

أصبحت الولايات المتحدة مجتمعا محطما. الجمهور يحتقر الطبقة السياسية. الدين العام يتراكم بوتيرة مذهلة لا تلين. ستبقى البطالة مرتفعة. ويستغرق التعافي الكامل من الأزمة المالية سنوات. والمؤسسات تتدهور أو تحتضر، والفردانية هي المنتصرة. والعنف يزداد بشكل متوالي هندسي بسبب الانقسام السياسي وثقافة الكراهية. لقد جاءت الفردية والديناميكية والتحرير على حساب تضاؤل التضامن والتماسك والنظام الاجتماعي. وترك هذا خيارات أكثر لأمريكا أن تحيا، ولكن أقل في الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية.

نعم لقد ربحت أمريكا حربين عالميتين، وأعطت العالم السيارة، والطاقة النووية، والإنترنت، ووضعوا الرجال على القمر، وأسست لها دستور حضاري، وقوانين ديمقراطية رائعة. لكن شرايينها تصلبت ودخلت مرحلة الشيخوخة. وحان الوقت الآن للاعتراف بأن أمريكا قد قفزت على شكل سمكة القرش. وكل هذه الانتصارات لا تعني أنها فنّدت بشكل نهائي اتجاهات الإمبراطوريات، بل هي تعني فقط أنّها عاشت لتقاوم يوما آخر. فهناك دولتين تخوضان معارك سياسية بعيدا عن المجتمع وانقساماته، وثقافة انتقامية تذكرنا ما كان يتردد في أثينا القديمة (إن أردتَ الانتقام فعليك أن تحفر قبرين)؟

غالبًا ما ترتبط المستويات المتزايدة من التوتر بزيادة مخاطر الإصابة بألم الصدر والصداع ومشاكل النوم. ليس من المستغرب إذن أن العديد من الأمريكيين سيفتقدون أيضًا نومهم ويعانون من نوبات اكتئاب بسبب التوترات السياسية والمجتمعية.

تذكرني أمريكا اليوم بهؤلاء المتزوجين الذين يحاولون البقاء معًا من أجل الأطفال، ولكن ينتهي بهم الأمر بجعل كل من حولهم بائسين!

الخلاصة والاستنتاجات

ربما يراهن البعض على ما انتهت عليه وقائع تنصيب بايدن من هدوء وسلاسة. لكن الصورة ليست كذلك. فالمشهد الأمريكي الجديد للتنصيب وسط ثكنة عسكرية يثير الشك بأن البركان مازال عند اعلى مستوى للانفجار.

ولابد من الاعتراف بأن الولايات المتحدة تعاني من أزمه حقيقية، بعض جوانبها دستورية تتعلق بآلية إجراء الانتخابات، وأخرى تتعلق بالنظام السياسي نفسه، وتوحشه الرأسمالي، وانحيازه لطبقة الأثرياء والشركات والبنوك. وبعضها يعود إلى انحسار ثقافة التعايش وظهور ممارسات عنصرية تعود لعقود قديمة مضت.

هناك أزمه قيم، وفي مقدمتها قيمة الحريات الشخصية التي بدأت تتآكل لمصلحة الأمن بسبب التهديدات الناجمة عن الإرهاب. وبعضها يتعلق بطبيعة المجتمع الأمريكي وتركيبته العنصرية والمادية. فيما يرتبط جانب آخر بالسلوك السياسي الفردي غير السوي لبعض الساسة والقادة. ولطبيعة واتجاهات السياسة الخارجية الانتهازية، والحروب الدائمة والممنهجة التي انسحبت على حياة المجتمع. وأخيرا جاء تفشي وباء كورونا ليكشف المخفي، وفضح المستور، ويضرب النموذج الأمريكي السوبر في مقتل اقتصاده، ويغرق البلاد بالبطالة، ويجعل هذا السوبر أكثر بلدان العالم تضررا من الفيروس إصابة وموتا ورعبا.

ما نتوقعه ما بعد بايدن هو اضطرابات مستمرة على مستوى الشارع الأمريكي، وثكنات عسكرية متنقلة، وانقسامات سياسية بنوية، كذلك انقسام على مستوى المجتمع وتركيبته الاجتماعية والثقافية. وتصاعد العنف المبرمج، وزيادة الكراهية. وتنافر مجتمعي في المزاج السياسي، وانقسام في اختيار أدواة التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية. ونشاط واضح لميليشيات مسلحة للبيض والسود. وخروج بعض الولايات عن طاعة البيت الأبيض في تنفيذ القرارات. ومحاولات لاغتيال الرئيس بسبب الصراعات الحادة. واستقطاب بين السلطة والمجتمع ووسائل الإعلام.

فاحتمال التفكك أو الضعف وارد، وقد ينذر ببداية حرب أهلية في المستقبل إذا لم يتم العمل بمنهج جديد للأحزاب المتناحرة، وللمجتمع المنقسم بين القبائل السياسية الحاكمة، والمسألة لا تتعلق بما نرغب أو لا نرغب، مع أو ضد، وإنما بالمعرفة، لا أحد في أمريكا يبدو سعـــيدًا اليوم. اليمين غاضب. اليسار يائس. الشعب مكسور. والصحافة شديدة الاستقطاب. الكل يحتاج إلى قسطرة سياسية.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق