q
يتخرج الشاب ويشعر انه لا يُجيد أي مهارة او حرفة تمكنه من الدخول لسوق العمل، فهو يفتقر لأبسط مقومات النجاح التي يحتاجها في مشوار حياته القادم، وهنا أصبح مصيره مرتبط بتعليمه الجامعي الذي لم يضمن له الوقوف بجدارة امام التحديات ومزاولة الاعمال التي تتطلب خبرة كبيرة ودراية فائقة لإنجازها...

كان لي مدرس بمرحلة الإعدادية يكرر عبارة لا تزال ترن بذهني، اذ يقول: "بوية كملوا دراستكم حتى إذا صرتو عمال بلدية هم تعرفون شلون تلزمون المكنسة"، لم تكن هذه الكلمات الا دليل على أهمية حب هذا الأستاذ بان يرانا في اعلى المراتب العلمية.

وتدلل أيضا على أهمية العلم ليكون مرشدا وجواز سفر لنا في جميع البلدان والمهن، فبالتعليم نحصل على العمل اللائق، وبالمعرفة نصل الى حيث نريد دون منازع، اذ يعد المصباح الذي يُنير طريق المستقبل امامنا وتزهر أيامنا لنعيش الحياة التي نُحب.

قد يمتلك بعض الأشخاص خبرة ومهارة لإدارة مهن ومصالح مختلفة في المجالات المتنوعة، لكن تبقى بعض المناطق مظلمة دون ان يتوجه عليها ضوء المعرفة العلمية والأكاديمية والتراكم العلمي الذي يحمله الفرد المتعلم الذي خاض الغمار الدراسي وانتهى بتخصص دقيق.

تضع الشركات التي تعلن عن وجود وظائف معينة في مجال محدد شرط الخبرة العملية التي يتمتع بها المتقدم، وخلاف ذلك لن يكون له نصيبا بالعمل، وهذا العامل أصبح من اشد الموانع التي تعترض سبيل الانخراط في الاعمال العامة على اختلافها.

وهنا وقع المتخرج ضحية قصور النظام التعليمي السائد بالبلد، فطالب الهندسة يقضي أربعة مراحل يتلقى المواد نظريا، ويغيب بشكل كامل الجانب العملي الذي يعتمد عليه ليكون شفيعا له ومنقذه في رحلة البحث عن العمل.

وكذلك من يتخرج في كلية الإعلام وغيرها من الاختصاصات التي تتطلب نوع من التوازن بين الجانبين، يمر بذات العقدة، ولم نعرف لغاية اللحظة ما هو الحل للخلاص من طوق المهارة الذي وقف بطريق الكثير ومنعهم من التقدم خطوة نحو الامام.

في القاعة الدراسية حين يتوجه الطالب بسؤال معين الى الأستاذ، يقتصر الأخير الإجابة بـــ(ستتعلم غدا)، وهنا المقصود بغدا هو النزول الى الواقع والغوص في عالم حركي قائم على الخبرة وإتقان الأشياء.

في العراق تحديدا لا يكون ذهابك الى الكلية او المعهد بإرادتك بل مرتبط بنسبة كبيرة برغبة الاهل والمعدل الذي حصلت عليه نهاية مرحلة الإعدادية، وهنا قد تُجبر على إكمال دراستك في المجال الذي لا ترغب، والنتيجة هي ركن الشهادة ومزاولة عمل بعيد كل البعد عن التحصيل الدراسي.

يتخرج الشاب ويشعر انه لا يُجيد أي مهارة او حرفة تمكنه من الدخول لسوق العمل، فهو يفتقر لأبسط مقومات النجاح التي يحتاجها في مشوار حياته القادم، وهنا أصبح مصيره مرتبط بتعليمه الجامعي الذي لم يضمن له الوقوف بجدارة امام التحديات ومزاولة الاعمال التي تتطلب خبرة كبيرة ودراية فائقة لإنجازها.

ينقل لنا بعض المعارف الذين ساقتهم الاقدار واستقرت بهم مراكب الحياة بان يعيشوا في بلاد المهجر، يتحدثون عن كمية الاهتمام بالتحصيل الأكاديمي بالنسبة للأفراد، وينصحون على ان يكون المجال العلمي يتماشى او يتطابق تماما مع رغبة الفرد، ذلك كون هذا التطابق سيجعل الفرد ماهر في تأدية اعماله ومبدع في إكمالها على اتم وجه، وبالتالي فسحنا المجال امام الأشخاص للابتكار وجلب الجديد.

البنية التعليمية في العراق بحاجة الى إعادة نظر وفحص دقيق لمخرجاتها، فلم يعد المهندس على قادر أداء المهام وفق ما تقتضيه الحاجة، بسبب فقدان المهارات اللازمة والتي بموجبها نقلل من الجهد ونستثمر الوقت بشكل أفضل دون هدر المزيد منه.

عندما نتكلم عن التعليم وتحديدا الجامعي ونُبدي بعض الملاحظات عليه لا يعني اننا نقلل من أهمية الشهادة الجامعية مطلقا، بل يأتي الكلام والتشخيص لمعالجة الأخطاء التي يمر بها النظام القائم، وهنا نكون قد اسدينا النصيحة لأصحاب القرار ليأخذوا بزمام المبادرة والذهاب بها الى حيث التنفيذ والتطبيق الفعلي.

الى جانب قائمة الملاحظات التي تم ذكرها فيما سبق من السطور فأن بعض التخصصات أصبحت دون فائدة تذكر، فكثيرا ما نرى الطلبة ينخرطون بالكليات الساندة للكليات الاصيلة، مثل كليتي الآداب والعلوم، اذ خذت مخرجاتها بالتراكم عام بعد آخر دون وجود منفذ يضمن لهؤلاء ممارسة تخصصاتهم والمشاركة في عملية التنمية والتطور.

عوضا عن ذلك نحن اليوم بأمس الحاجة لبعض الاختصاصات التي تواكب روح العصر وتماشي الازدهار الحاصل في المجالات التقنية والتكنولوجية، فالعالم يشهد يوميا ولادة علوم جديدة وتطور للعلوم الأخرى، ما يعني ضرورة تتبع الحركة النهضوية ومعرفة مجرياتها اول بأول.

فقد وصلنا الى حد التخمة من المحاميين والتربويين وكذلك المهندسين وامتلئت القطاعات الحكومية والخاصة بشتى الاختصاصات، في الوقت الذي نفتقر فيه الى مهندسي طائرات وصناعات عسكرية ودفاعية، كما اننا بحاجة إلى مهن العصر كالتسويق الإبداعي والتصميم الفني كتعلم الفيديو وغيره الكثير كي نطور من أنفسنا أولًا، ومن دولنا ثانياً.

العالم العربي ومع المتغيرات الكبيرة يحتاج الى ان يحيط بكل المعارف والعلوم، وبالنتيجة يقل الاعتماد على القارة الاوربية التي تصدر لنا التقنيات والمعلومات، مما ادى الى تحكمها بتصدير الاكتشافات التي تحصل في المجال التقني، فالمنطقة العربية ينقصها العديد من الافرع الدراسية يقود ذلك إلى زيادة الرغبة عند الشباب بالخروج والسفر للدراسة وعدم العودة إلى الدول الأم، وفي مثل هذه الحالة تبقى الحاجة قائمة ولا يمكن اشباعها.

بناء الأجيال يعتمد على شقين لا يمكن لهما الافتراق وهما الاهتمام بالتعليم الأكاديمي ودعم المواهب الفردية وتنميتها وتطويرها بما يخدم المصلحة المجتمعية، ولكي يحدث ذلك نحتاج دقة لا متناهية في اختيار التخصص الصائب الذي يفتح الآفاق على العلوم الأخرى.

اضف تعليق