q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

منهج السلام وصناعة الحياة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

الصديق انسان، والعدو انسان كذلك، كلاهما يمتلكان الصفات والمواصفات التي تحيلهم الى صنف البشر، وقد ورد في قول للامام علي عليه السلام: (الناس صنفان، اما اخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)، لذلك فهو شبيه لك وقريب منك في جميع الاحوال، لاسيما اذا كان السلام رابط مشترك بينكما، ولا شك أن نظرة العدو وافكاره وتفكيره وسلوكه، تختلف عن القريب او الصديق، ولكن العدو والصديق يلتقيان بصفة الانتماء الى الانسانية، وهذه الصفة يمكن أن تجعل منهما متشابهان حتى في الافكار والسلوك، وعندما يصبح العدو صديقا، فإن الحياة التي نرسم لها سوف تكون تحت اليد، وان الهدف الذي يسعى إليه الانسان السويّ، هي حياة الاستقرار والابداع والتطور، وهذه الحياة لا يمكن أن تتحقق إلا في اجواء السلام.

لذلك على صاحب القوة، مهما كان شكلها، أن يلجأ الى السلام في تعامله مع المؤيد له والمختلف معه، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يجعل من الاعداء اصدقاء له، وسوف يكون هو الرابح في هذه الحالة، لأن العكس يعني زيادة الخط المعادي له وهذا يعني زيادة في ضعف سلطته وقوته، هذا الكلام ينطبق على الافراد وعلى السلطات الرسمية وسواها.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين) حول هذا الجانب: (يجب أن تتصف - السلطة- بالسلام تفكيراً وقولاً وعملاً مع الأعداء والأصدقاء. فإن السلام أحمد عاقبة وأسرع للوصول إلى الهدف).

وهذا دليل واضح على أن الابتعاد عن منهج السلم، سوف يشكل حاجزا عازلا بين اصحاب القوة وعامة الناس، اذا كان العنف سبيل القوة والسلطة في تحقيق اهدافها، لأن اللجوء الى استخدام القوة يعني فقدان السلطة لشرعيتها، وعندما تكون السلطة عنيفة مع اعدائها، فهذا السلوك المخالف للسلام واللين، سوف يدفع الناس المؤيدين، الى التفكير بأن من يتعامل اليوم مع الاعداء باسلوب العنف يمكن أن يتعامل معنا غدا باسلوب العنف نفسه، وهكذا تنفصم عرى الصدق والثقة بين الطرفين، وتكون القوة واصحابها محل شك وخسارة حتمية لتأييد عامة الناس لها، فمن يستخدم القوة والبطش مع غيرك، سوف يلجأ الى الاسلوب نفسه معك ذات يوم، وهذا يدفع الناس الى التخلي عن تأييد السلطة واصحابها.

لذلك يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (إذا كان شعار السلطة العنف فإنها ستفقد الشرعية عند الناس، ويأخذ الناس بالتفكير، اذا كانت السلطة عنيفة ضد أعدائها لا بد وأن تكون عنيفة ضدهم أيضاً يوماً ما).

العنف يجعلك وحيداً

صناعة الحياة تستدعي بيئة مستقرة، لأنها لا يمكن أن تتأسس وتنمو وتتطور في اجواء العبث والفوضى والعنف، وطالما أن الفطرة الانسانية تدفع باتجاه بناء الحياة، فإن من يعمل بالضد من ذلك لا أحد يتفق معه او يلتقي به إلا ما ندر وفي ظروف ودوافع معينة، أما اذا تعلق الامر بفطرة الانسان وميوله الطبيعية فإنه يبحث دائما عن الاجواء المشجعة على تطوير الحياة، لذلك نلاحظ انتعاش روح المنافسة بين الناس اذا كان السلام هو الشائع بينهم، اما العنف فهو يعمل بالضد من ذلك، لهذا نلاحظ أن الناس يبتعدون عن الانسان الفضّ، أو الانسان الذي يتعامل بغلظة وخشونة مع الاخرين، لهذا مطلوب من الانسان أن يبتعد عن اساليب العنف بصورة دائمة، وأن يغفر للآخرين اخطائهم ويعفو عنهم، فهو بهذه الطريقة يكسبهم جميعا، اما اذا كان العنف ديدنه فإنه لن يجد احدا حوله.

يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بكتابه نفسه: (إن الإنسان إذا قدر ينبغي أن يغفر يعفو، ويكون ليّن الكلام، أي لا يكون عنيفاً، وإلا فسوف يكون بعيداً عن الناس).

ويلاحظ العلماء المعنيون أن العنف أو اللين، يمثل طريقة حياة سوف تترسخ في شخصية الانسان، فكرا وسلوكا، واستنادا الى ذلك، فإن الانسان المسالم سوف يتعامل بهذا المنهج مع الجميع، اصدقاء او غرباء او اعداء، لهذا من يرغب أن يلتف حوله الناس ويتعاونون معه، عليه أن يبتعد عن العنف والغلظة في التعامل معهم، فالإنسان المسالم يكون محط ثقة الجميع ومحبتهم، اما الانسان العنيف فإنه يثير حفيظة الناس ويجعلهم ينظرون إليه بشك وامتعاض، وقد يكون صاحب سلطة سياسية او مالية او نفوذ، وربما يجامله البعض من اجل مصلحة ما، لكنهم في الحقيقة يمقتونه ويحاولون الابتعاد عنه قد الامكان، لذلك تدعو الاحاديث الشريفة الناس الى السلم واللين من اجل خلق بيئة سلام تسهم في صناعة حياة تليق بقيمة الانسان ومكانته.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (إن العنيف سوف يكون عنيفا مع الأصدقاء ومع الغرباء، أما الليِّن سيكون كذلك مع الأصدقاء ومع الغرباء، ولذا ورد في أحاديث كثيرة التوصية باللين والرقة والشفقة والحب).

السلم مع العدو والصديق

وهكذا يكون السلام واللاعنف ركيزة من الركائز الاساسية التي تُبنى عليها الحياة المستقرة، وهي الحياة المنتجة لبيئة الابداع والانتاج والتقدم على نحو مضطرد، ومن المهم كما سبق ذكره، الابتعاد عن الاساءة والتعامل بالمثل، واعتماد الخشونة في القول والفعل، فحتى أقسى الاعداء واكثرهم عنادا، عندما يشعر بأنك أقرب للسلام، وانك لا تعامله بعنف ولا تنوي استعمال الخشونة والشر ضده، فإنه سوف يتغير شيئا فشيئا، ليقترب منك (إن المعاملة السلمية تجاه الصديق والعدو، هي من الأسس الحيوية التي يلزم أن يقوم عليها النضال). ويضيف الامام الشيرازي: (إن السلم في أول أمره مر وصعب، ويحتاج إلى ضبط الأعصاب وإلى عفو وإغماض، وإلى مقدرة نفسية توجب أن يعمل الإنسان بحزم وبالتي هي أحسن).

ولهذا يُقال أن محبة الاصدقاء لا جديد فيه، فهو أمر متوقّع، بمعنى من البديهي أن يحب الناس اصدقاءهم، فأين الغرابة في هذا، ولكن ماذا لو سمعنا أن هناك أناساُ يحبون أعداءهم، ويحاولون كسب رضاهم ومودَّتهم، هنا لابد أن يكون هناك امر جديد خارج السياق المتوقَّع، وهذا بالضبط ما دعا إليه الانبياء وبُناة الامم، عندما كانوا يدعون الى التعامل مع الجميع بمحبة وسلام، حتى مع الاعداء، وكلنا نتذكر في واقعة الطف، كيف تعامل الامام الحسين عليه السلام مع الحر الرياحي وقواته عندما جاء لمقاتلة الامام وفريقه، وكان العطش قد أخذ منهم مأخذا، فما كان من الامام الحسين عليه السلام إلا وبادر بمنح الحر ومن معه ما يكفيهم من الماء في قيظ النهار، مع انه كان عدوا للإمام، ثم ما هي نتيجة هذا التعامل، لقد عاد الحر الى جانب الحق والتحق بركبه، واعلن توبته وانسحابه من الجيش المعادي للامام عليه السلام، فكسب بذلك حريته وخلوده مدى الحياة، ولا شك أن موقف الامام الحسين عليه السلام من اعدائه هو السبب الذي جعل من قلب الحر يميل إليه ويلتحق به قبل فوات الاوان، وهذا يؤكد اهمية أن يحب الانسان اعداءه ويتعامل معهم وفق المنظور الانساني السلمي.

لذا نقرأ في كتاب الامام الشيرازي اشارة واضحة حول هذا الموضوع عندما يقول سماحته: (لقد ورد عن عيسى -عليه السلام- في كلمة جميلة تنسب إليه: قيل لكم أحبوا أصدقاءكم ولكن ليس ذلك بمهم فإن العشارين أيضاً يحبون أصدقاءهم، وإنما أقول لكم أحبوا أعداءكم).

اضف تعليق