q
ممارسة القوة والعنف بدواعي أمنية، لا يفضي على مستوى الإدراك المستقبلي إلى إرساء دعائم الأمن الحقيقي في المجتمع.. فالعنف لا يقود إلى الأمن، بل إلى ممارسة العنف المضاد وتحريك كل الغرائز والنزوات التي تساهم في إرباك الواقع على المستويات كافة.. ويخطأ من ينشد الأمن في...

تختزن مفردة الأمن، الكثير من الأبعاد والجوانب في حياة الإنسان الفرد والمجتمع.. إذ لا يمكن أن يتم التطور والاستقرار على المستويين بدون الأمن. بحيث يأمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه، فينطلق في عملية البناء والتنمية والعمران. وحينما يفقد الإنسان الأمن، فإنه لا يتمكن من البناء، ولا يستطيع توفير مستلزمات الاستقرار والطمأنينة.. لذلك فإن الأمن بالمفهوم الشامل، هو بوابة التنمية وسبيل الاستقرار على المستويات كافة.. لذلك فإن مفهوم الأمن، يختزن كل المفردات الأخرى التي لها ارتباط صميمي بحياة الإنسان والجماعة.

من هنا فإن المجتمعات الإنسانية، بحاجة دائما إلى بلورة مفهوم الأمن بشكل سليم، حتى لا تتعارض بعض الإجراءات مع مفاهيم ومفردات ذات صلة مباشرة أيضا بالاستقرار والتنمية والبناء.. فالمجتمع كما أنه لا يستطيع الاستمرار في الحياة بدون الأمن، كذلك هو بحاجة إلى الحرية، لأنها هي الخيط الدقيق التي تؤكد إنسانية الإنسان، وتبلور دوره ومقاصده في الحياة.

لذلك فإن الحاجة جد ماسة، إلى بلورة مفهوم الأمن في مجتمعنا على قاعدة أكثر عدالة وحرية..

مفهوم الأمن:

تستعمل مفردة الأمن، في إطار غياب الأخطار الحقيقية عن المجتمع.. فحينما تغيب الأخطار في أي مجتمع يتحقق الأمن. فالأمن مقولة تطلق على ذلك الواقع، الذي تغيب أو تضمحل فيه الأخطار الداخلية والخارجية. لذلك فإن الأمن هو عبارة عن منظومة متكاملة من القيم والحقائق والواقع والإجراءات التي تفضي إلى تعطيل مفعول كل المخاطر على المجتمع.. وعليه فإن الأمن يرتبط بمستوى الإدراك والاستشراف المستقبلي. حيث أن بعض الممارسات والمواقف، لها تأثيرات مباشرة على الأمن في المستقبل المنظور.. والرؤية الأمنية السليمة، هي تلك التي تحول دون ممارسة فعل أو إجراء أو سياسة، تساهم في خلخلة الواقع المجتمعي..

لذلك نستطيع القول: أن ممارسة القوة والعنف بدواعي أمنية، لا يفضي على مستوى الإدراك المستقبلي إلى إرساء دعائم الأمن الحقيقي في المجتمع.. فالعنف لا يقود إلى الأمن، بل إلى ممارسة العنف المضاد وتحريك كل الغرائز والنزوات التي تساهم في إرباك الواقع على المستويات كافة.. ويخطأ من ينشد الأمن في الواقع المجتمعي، بالمزيد من إجراءات المنع والقهر، وذلك لأن هذه الممارسات لا تفضي إلا إلى المزيد من تنمية العوامل المضادة للأمن.. وعليه فإن الحياة السياسية والوطنية السليمة، هي التي تفضي إلى الأمن الشامل.. فالأنظمة الاستبدادية بإجراءاتها القمعية والإقصائية، تزداد فيها العوامل الدافعة إلى اختراق جدار الأمن وتوسيع الثقوب فيه.. بينما الأنظمة الديمقراطية والتي تفسح بشكل قانوني لقوى المجتمع بممارسة حقوقها في الإدارة والتسيير والمراقبة، هي التي تعيش وضعا أمنيا مستقرا وبعيدا عن كل المخاطر الشديدة.. وعلى ضوء هذه الرؤية هناك علاقة عميقة وجوهرية تربط بين مفهومي الأمن والحرية. بحيث أن المجتمع الذي يتوفر على حريته وحقوقه، هو ذلك المجتمع الذي يمتلك عوامل أمنه واستقراره. أما المجتمع الذي تمارس سلطته السياسية التمييز والإقصاء لقوى المجتمع، فإنه يتوفر على وقائع وحقائق تهدد أمنه الراهن والمستقبلي..

وعليه فإننا مطالبون بتجلية العلاقة العميقة التي تربط بين مفهومي الأمن والحرية. وذلك لأن هذه العلاقة، تضعفنا جميعا أمام حقائق موضوعية جديدة، من أهمها: أن حماية المجتمع والدولة من المخاطر وتهديدات، تقتضي توفير قانون وإرساء دعائمه لممارسة الدولة، والسماح لقوى المجتمع بالقيام بدورها في إطار الدولة والمجتمع.. فالإجراءات الأمنية وفق هذه الرؤية، ليس المنع والاعتقال والتعذيب والتضييق التعسفي على الإنسان، وإنما هي تنمية الوعي والمعرفة، وتطوير مستوى المسؤولية والشعور بها في الواقع المجتمعي، وإرساء دعائم وأطر المشاركة في الشأن العام. وذلك لأن الأمن في حقيقته وجوهره، هو الشعور بالتجانس والمشاركة مع الآخرين في الحقوق والواجبات. ولا تجانس فعال ومشاركة مستديمة، بدون الوعي والمعرفة والمسؤولية ومؤسسات المراقبة والمشاركة. حينذاك يتحرر كل إنسان من هواجسه ومخاوفه، وينطلق في رحاب البناء والتنمية، بدون مخاوف تكبحه أو هواجس تقلقه أو تمنعه من التكيف الايجابي مع الآخرين.

وبالتالي فإن حماية المجتمع، عبر حريته ومشاركته في الشأن العام، والمزيد من أواصر المحبة والتعاون بين مختلف فئاته وشرائحه هو مضمون الأمن، وهو الذي يحول دون بروز مخاطر على مؤسسة الدولة.. فالسياسات الأمنية ينبغي أن تتجه دوما صوب حماية قيم المجتمع الأساسية وتوفير كل مستلزمات وجوده النوعي ورفاهيته وسبل كسب معيشته. وذلك لأن هذه العناصر الحيوية، هي التي تعمق شعور الجماعة الوطنية بالثقة والتحرر من عوامل الانكفاء والخوف والقلق الخاص والعام. والأمن الوطني في كل مجتمع ووطن وأمة، كل لا يتجزأ. لذلك فإن المطلوب باستمرار مراعاة كل مكونات الأمن الثقافية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية. وإن أي خلل يصيب أي مكون من هذه المكونات، سينعكس سلبا على الأمن الوطني كله.. فلا يكفي من أجل تحقيق الأمن الوطني، أن تزداد إجراءات المنع والضبط، لأن هذه الإجراءات تتم في إطار مجتمعي مكبوت، مما يحولها إلى عناصر تزيد من القمع والإرهاب.. وهذا في المحصلة النهائية، لا يخدم المفهوم الاستراتيجي للأمن في المجتمع..

لذلك فإن الخطط والمشروعات الأمنية، في جوهرها وعمقها، ليست هي تلك الإجراءات التنفيذية، وإنما هي تلك الإجراءات والوقائع، التي تزيد من ثقة المواطن بدولته، وتوفر له إمكانية المشاركة في القرار والتسيير بعيدا عن كل أشكال التمييز والإقصاء. فنظرية الأمن، ينبغي أن لا تعتمد على عناصر وإجراءات السلب، وإنما على تلك العناصر والإجراءات الايجابية، التي توسع من القاعدة الاجتماعية والثقافية لمؤسسة الدولة. وبالتالي فإن مفهوم الأمن يعني قدرة الدولة والمجتمع معا على الانسجام الفعال وإرساء معالم علاقة حضارية بين الطرفين، تسمح لكل طرف من احترام خصوصيات ووظائف الطرف الآخر.

الأمن والسلطة:

لعلنا لا نبالغ حين القول: أن الكثير من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، التي حصلت في العديد من دول العالمين العربي والإسلامي، هي من جراء الأساليب والإجراءات الأمنية المستخدمة.. حيث القمع والقهر والعسف بدون أي أفق ومشروع لهذه الممارسات.. فالأجهزة الأمنية تحت مبرر حماية السلطة، تستخدم كل إمكاناتها وإجراءاتها القمعية ضد الناس. ولكن التجارب أثبتت أن الإجراءات التعسفية لأجهزة الأمن في مجالنا العربي والإسلامي، تفاقم نقمة الناس ضد السلطة، وتساهم بشكل أو بآخر في المزيد من التوترات والاختناقات المجتمعية..

لذلك فإن السلطات السياسية في بلادنا مطالبة إلى إعادة رسم طبيعة العلاقة بين الأمن والسلطة، وإن استقرار السلطة، ليس بالمزيد من تكديس الأسلحة وبناء السجون وتضخم مؤسسات الأمن، وإنماء هو بالديمقراطية وغرس عوامل الطمأنينة والثقة، وتطوير مستويات المعيشة. وإن استناد السلطات على مؤسسات الأمن، لا يفضي إلى الاستقرار السياسي العميق.. وذلك لان تكميم الأفواه ليس سبيلا صحيحا لنيل الاستقرار والأمن.

فالأجهزة الأمنية الضخمة في الاتحاد السوفيتي، لم تمنع هذا الاتحاد من الانهيار من الداخل.. بل إننا نعتقد أن المبالغة في استخدام سياسات القمع والإرهاب لشعوب الاتحاد السوفيتي، هو الذي ساهم بشكل كبير في زيادة النقمة الشعبية والانفصال بين النخبة السياسية الحاكمة وقوى المجتمع المتعددة، مما عجل بعملية الانهيار والسقوط وهذا الكلام أيضا، ينطبق بشكل دقيق على دول أوربا الشرقية. حيث تهاوت السلطات السياسية هناك بشكل سريع، مع العلم أنها تمتلك أجهزة أمنية عملاقة ومتمرسة. إلا أن غياب الحريات وامتهان كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، هو الذي فاقم من الأزمات والتوترات، وأدى إلى استفحال المشكلات، دون أن تتمكن أجهزة الأمن من منع ذلك.. فاستقرار السلطة في أي مجتمع مرهون إلى حد بعيد بمستوى قبول الناس وثقتهم بمؤسسات ورجالات السلطة. وإن غض النظر عن ذلك، والاستعاضة عن الناس ورضاهم، بتضخم مؤسسات الأمن لا ينهي المشكلة والأزمة، بل على العكس من ذلك فإن إجراءات القمع، تزيد من فرص الانقضاض على السلطة..

ولعلنا بحاجة في هذا الإطار، إلى القول أن مصالحة السلطة مع الديمقراطية ومتطلباتها السياسية والمجتمعية، هو الخيار الحضاري لاستقرار السلطة السياسية، وامتصاص غضب الجماهير.. صحيح أن التحول نحو الديمقراطية، قد يرافقه في المرحلة الأولى بعض مظاهر الفوضى، إلا أن هذا التحول، في المحصلة الأخيرة، هو الذي يجدد شرعية السلطة، ويوسع من قاعدتها الاجتماعية والسياسية، ويحول دون نشوء تيارات عنفية في المجتمع.

الفعالية السياسية والأمن:

يعتقد البعض أن منع أي فعالية سياسية في المجتمع، هو الذي يحافظ على الأمن. لذلك تسعى أجهزة الأمن في الكثير من البلدان، إلى إجهاض كل مبادرة وفعالية في هذا الإطار. إلا أن هذا المنع والإجهاض، لا يحول دون نشوء حركة سياسية سرية في المجتمع، بعيدا عن أعين السلطات وأجهزة الأمن. ولا شك أن نشوء حركات سياسية سرية، ووجود فعاليات سياسية متنوعة سرية، يعد تهديدا حقيقيا للسلطة السياسية.. لذلك فإن المساهمة في توفير حياة سياسية وطنية علنية وذات أهداف واضحة، وتشجيع الفعاليات السياسية المختلفة في هذا الإطار، هو وسيلة السلطات الحقيقية لضمان الأمن في الدولة والمجتمع.. والفعاليات السياسية الوطنية، ليست ضد الأمن، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أنما ستساهم في استيعاب بعض طاقات الوطن وتوجيهها في إطار المساهمة الايجابية في بناء الوطن.

وإن ركود وترهل المؤسسات السياسية في المجتمع، هو الذي على استيعاب وتوظيف بعض المواطنين لأهدافها وأجندتها الخاصة. وإن الأمن السياسي والاجتماعي في الوطن، مرهون إلى حد بعيد إلى مستوى الفعاليات السياسية المتوفرة في المجتمع، والقادرة على إقناع قوى المجتمع. بمشروعاتها وأهدافها المرحلية والاستراتيجية. فالفعالية السياسية، بما تقتضي من وجود جماعات ومنابر سياسية، ومؤسسات للتنمية السياسية رسمية وأهلية، هي من ضرورات الأمن والاستقرار.

ولعلنا بعد هذه التجارب المريرة على هذا الصعيد، بحاجة أن نعيد الاعتبار إلى السياسية فكرا وممارسة وصلتها بالأمن والاستقرار. وذلك لأن منع السياسة من التداول والوعي والممارسة بكل آفاقها وأبعادها، هو الذي يضر بالأمن ويهدد الاستقرار. وذلك لأن هذا المنع والكبت، هو الذي يدفع البعض أفرادا وجماعات، إلى تبني هذا الخيار بعيدا عن العلنية وأعين السلطات.

فالفعالية السياسية بكل مفرداتها وآفاقها، وحيوية المجتمع تجاه قضاياه وأحواله، هو الذي يضمن المعنى الحقيقي والجوهري للأمن والاستقرار. وتلعب الحياة السياسية الوطنية المفتوحة على كل القوى والشخصيات، دورا هاما في استقرار الأوضاع وتطويرها باتجاه الأهداف والتطلعات الوطنية. حيث يشعر كل مواطن بأنه عضو في جماعة ويسعى نحو تحقيق ذاته واستيعاب الامكانات المتوفرة. لذلك فإن المشاركة في صنع القرار بدوائره المتعددة، هو الذي يحول دون الهامشية بكل صنوفها وأشكالها. وتعلمنا التجارب السياسية في العديد من الدول، أن المشاركة في المسؤولية والقرار، هي التي تخلق الظروف الذاتية والموضوعية للاستقرار بكل مجالاته.

لذلك نجد أن الدول الديمقراطية، تتضاءل فيها حالات اختراق القانون وتهديد الأمن العام. بينما في الدول الاستبدادية، تزداد حالات الاختراق، وترتفع وتيرة الأعمال التي تهدد الأمن في المجتمع.. فالأداء السياسي الحيوي والفاعل والمفتوح على كل قوى ومكونات المجتمع، هو أحد الوسائل المهمة لضمان الأمن والاستقرار. وبالتالي فإن السلم المجتمعي وإشاعة العدالة وروح المساواة، هو الذي يضمن الأمن في المجتمع. وذلك لأن الظلم هو ظلام مرمر، وإن نتيجته المباشرة، هو غياب الاستقرار والأمن. فالطاعة والالتزام بقوانين الدولة، هي ثمرة طبيعية لمستوى الرضا والقبول لدى الناس. لذلك فإن الفرض والقهر والإخضاع القسري للناس، لا يقود إلى الثقة والطمأنينة والأمن.

وخلاصة القول في هذا الإطار، أن مكمن الخطر من جراء غياب الحياة السياسية الوطنية اكبر بكثير من بعض تداعيات الحرية وتوفر حياة سياسية حيوية وفاعلة في المجتمع والوطن.

العدالة السياسية والأمن:

لا ريب إننا بحاجة في البدء، أن نوضح معنى العدالة السياسية كمصطلح ومضمون.. وبعيدا عن المضاربات الأيدلوجية والفكرية، فإننا نعتبر العدالة السياسية هي تكافؤ الفرص على كل المستويات، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان بصرف النظر عن منبته الأيدلوجي أو المذهبي أو القومي أو العرقي، وأن تكون الدولة بمؤسساتها وإمكاناتها وفرصها دولة الجميع بدون تحيز أو تميز..

إن الالتزام بكل هذه القضايا، وتجسيدها في الممارسة والسلوك هو معنى العدالة السياسية.. وإن علاقة العدالة كقانون وسلوك وممارسة بالأمن علاقة عميقة وجوهرية.. بمعنى أن العدالة وفق المفهوم المذكور، هي بوابة الأمن. وبمقدار التخلي أو الانحراف عن مقتضيات العدالة، بذات المقدار يتم تهديد الأمن السياسي والاجتماعي..

فالعدل هو أساس الأمن، وبدونه تبقى كل الإجراءات تعسفية ولها تأثيرات عكسية على مفهوم الأمن ذاته. وذلك لأن الكثير من المشكلات والأزمات التي تهدد الأمن، هي من جراء الظلم بكل صنوفه وأشكاله. ولا أمن في المجتمع إلا بإعطاء كل ذي حق حقه. وإن تجاوز الحقوق والاعتداء عليها، هو بداية مفهوم الأمن على المستوى الواقعي والفعلي. فالعدل الذي يشمل الحقوق المادية والمعنوية، هو جوهر الاستقرار الاجتماعي بوجوهه السياسية والأمنية والاقتصادية.

والعدل على المستوى الذاتي هو" ينتج عن خلو النفس من الأحقاد الناتجة من الحسد والكراهية والقسوة، ومن خلوها من المطامع الناتجة من حب الدنيا والحرص عليها والإغراق في الشهوات، فيكون العدل نتاج المحبة والرحمة واحترام الآخرين والقناعة".

لذلك فإن الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بحاجة إلى نبذ كل أشكال التمييز واللامساواة، والوقوف بحزم ضد الثقافة التي تغدي على الحقد والكراهية، والعمل على إرساء وتأسيس حقائق مجتمعية جديدة، قائمة على أساس المساواة بين جميع المواطنين، وإدارة التنوعات المتوفرة في المجتمع إدارة حضارية وبعيدة عن التهميش والتمييز والإقصاء. فالحفاظ على الأمن ليس بالمزيد من القمع والإرهاب، وإنما بالعمل لتوطيد أركان العدالة في المجتمع والدولة. ويبدو أن الحديث عن الأمن الوطني، دون السعي الحقيقي لتصحيح الأوضاع العامة في المجتمع، يبدو حديثا في غير محله أو غير دقيق على الأقل، وذلك لأننا لا يمكن أن ننجز الأمن في المجتمع، دون ممارسة العدالة في السلطة والسياسة وإدارة المجتمع.

ونشدان الأمن دون توفر هذه الأرضية، سيكلف الجميع (الدولة والمجتمع) الكثير من المشاكل والأزمات والتوترات. لأنه لا يمكن كبت التطلعات الوطنية وقمع الطموحات التي تتجه صوب نيل الحقوق وإنجاز العدالة في الواقع السياسي. ولو تأملنا في العديد من الدول والمجتمعات، التي عانت من التوترات والأزمات، سنجد أن غياب العدالة بالمعنى الحقيقي، هو السبب الجوهري والأخير لهذه التوترات والأزمات. وإن العمل على معالجة هذه التوترات، بالعقلية الأمنية التقليدية التي لا تعرف إلا لغة المنع والقمع، سيفا قم الأزمات، وسيدخل الجميع في نفق الحروب العبثية والانتقامية بكل أشكالها ومجالاتها، والتي لا تزيد الأوضاع إلا سوءا وتدهورا.

وحده العدل السياسي بكل ما تحمل هذه الكلمة من مضامين، هو القادر على توفير الأمن وإنهاء التوترات وتجذير خيار الاستقرار على كل المستويات في المجتمع والوطن.

والحرية السياسية والثقافية، ليست مناقضة لمتطلبات الأمن الوطني، بل على العكس من ذلك، حيث هي ضرورة من ضرورات الأمن الوطني وصيانته من المخاطر الداخلية والخارجية.. صحيح أن لهذه الحريات ثمنا ينبغي أن يدفع على مستوى الصلاحيات وطبيعة تشكيل القرار وتنفيذه، إلا أن هذا الثمن أقل بكثير من الثمن الذي سندفعه جميعا لو استمرت أوضاعنا وأحوالنا بعيدة عن مقتضيات الحرية والديمقراطية.. وما نقوله ليس ضربا في الخيال أو حرثا في الماء، بل هو حقيقة سياسية ومجتمعية ناصعة. فالديكتاتوريات السياسية، كلفتنا الكثير على مختلف الصهد. فلا أوضاعنا الاقتصادية متطورة، ولا أحوالنا الاجتماعية مستقرة، بل على العكس من ذلك، حيث إننا نعيش بفعل الاستبداد السياسي، حاله الانهيار والتراجع في كل شيء.

فالاستبداد السياسي قادنا جميعا إلى المأساة والمأزق، وإننا لا نمتلك أمام هذا الواقع المرير، إلا إصلاح أوضاعنا وامتلاك إرادة حقيقية وجادة لذلك.. وإن أي تراخي أو توقف عن ذلك، سيفضي بنا جميعا إلى الهاوية.

فالاستبداد لا يقود إلى الأمن، بل يؤسس في الواقع المجتمعي لكل الحالات والمظاهر المناقضة للاستقرار والأمن..

وحدها الحرية والديمقراطية، هي التي تقودنا إلى الاستقرار. لذلك كله نحن بحاجة إلى إعادة صياغة مفهومنا ونظرتنا للأمن في مجتمعاتنا. فهو وليد المشاركة والمسؤولية والتسامح وحقوق الإنسان. فكلما تعمقت وتجسدت هذه القيم في واقعنا وفضائنا، اقتربنا وأنجزنا مفهوم الأمن والاستقرار. وأي تراجع أو خرق لهذه القيم، بمقدارها أيضا، تضطرب أحوالنا، وتتدهور أوضاعنا الأمنية والاجتماعية. ولنتذكر دائما أن الإسلام في تجربته التاريخية، قد أشاع الأمن في ربوع الديار الإسلامية، وذلك بفضل قيمة الحرية وتهيئة أسباب العيش الكريم في ظل الإخاء والحب والعلاقات الإنسانية المتميزة. ولولا هذه القيم والمبادئ الخالدة، لما تمكن المسلمون في الأرض. فانتصاراتهم وفتوحاتهم وإنجازاتهم الخالدة هي بفضل تلك القيم، التي أرست دعائم الأمن والاستقرار، وسمحت للجميع من الإفادة من كل منجزات الإسلام في الواقع المجتمعي..

فلولا قيم الإسلام في الحرية والشورى والتسامح والمحبة وحقوق الإنسان، لما تحقق الاستقرار الذي هو أرضية التقدم والتطور.. لذلك فإننا ينبغي أن نتطلع إلى الأمن والاستقرار وفق هذه الروية والمنظور.. فهي خيارنا لإزالة كل المخاطر ومجابهة تلك التحديات، وهي وسيلتنا لإعادة صياغة أحوالنا وأوضاعنا باتجاه التقدم والتطور الشامل.. ومدرسة الحياة تعلمنا أن الحرية بمؤسساتها وأنظمتها ومتطلباتها، هو الطريق الحقيقي للخروج والانعتاق من أزماتنا ومشاكلنا.. وأن مسؤوليتنا جميعا تتجسد في تأكيد قيم الحرية والديمقراطية في واقعنا السياسي والاجتماعي، وأن نمارس القطيعة الحقيقية مع كل موروث الاستبداد وأشكاله التي كلفتنا الكثير على مختلف المستويات..

وجماع القول: إن التحكم في الراهن والقبض على المستقبل، مرهون بقدرتنا على التحول صوب الديمقراطية والتزام متطلباتها، والكفاح من أجل نيلها وإنجازها في واقعنا العام. وإننا بحاجة إلى وعي أخلاقي وسياسي جديد، يعيد تنظيم العلاقة بين الأمن والحرية، بحيث أن ضرورات الأمن، لا تضحي بمتطلبات الديمقراطية.

اضف تعليق