q
تعاقب الحضارات والدول لايعني تبدّل السكان، وانما تبدّل العقائد التي تنقّل بينها العراقيون، ما انتج لاحقا هذا التعدد والتجاور الثقافي اللاّفت، وثنية، صابئية، يهودية، مسيحية، فالإسلام، وكل منها استحضر صراع البدايات مع ماسبقه، ودوال الدول وتغير عواصمها في الرقعة الجغرافية المسماة بلاد الرافدين...

يرى البعض، ان فتح العراق بعد معركة القادسية، كان احتلالا عربيا بقناع الاسلام. ويرى آخرون ان ماحصل هو تحرير العراق من الاحتلال الساساني. ويرى المؤمنون، ان جيوش الفتح دخلت العراق وبلاد فارس لتنشر الاسلام! ثلاث قراءات لحدث تاريخي واحد .. وسط هذا الجدل يغيب سؤال كبير؛ هل كان العراق منقطعا عن جواره وعمقه الانساني الذي تكرّس عبر حقب تاريخية طويلة، والمتمثل ببلاد الشام والجزيرة العربية قبل الاحتلال الساساني؟.. المعروف ان التواصل بين (الدول العراقية) الكبرى الثلاث (السومرية والبابلية والآشورية) وبين الجزيريين والشاميين، ترك آثاره الثقافية، لاسيما على الجزيرة العربية، فالتماثيل (الاصنام) هي عراقية بامتياز، وهذا الحراك القديم ارهص لما يعرف ب (الدورة الابراهيمية) المتمثلة برحلة النبي ابراهيم من العراق (أور) الى بلاد الشام فمصر، رجوعا الى الجزيرة العربية.

وينقل عن الامام علي بن ابي طالب قوله (نحن قوم من كوثا) اي من العراق، ولعل اختياره الكوفة عاصمة لدولة الاسلام يؤكد هذه الحقيقة، مع انه والأرومة الهاشمية ولدوا في الجزيرة العربية (قريش)، وتعود جذورهم لإبراهيم الخليل العراقي (الأوري)، والمؤكد انها ليست الأرومة العراقية الوحيدة التي سكنت الجزيرة العربية.

من هنا فالعراق والجزيرة والشام في العهد البيزنطي، يمثلون عمقا متبادلا لبعضهم، وان تحريره من الساسانيين، بقدر ما كان بدافع نشر الاسلام، استبطن ايضا حلم (العراقيين الجزيريين) في استعادة بلدهم المضاع منذ سقوط بابل، ومعركة ذي قار وموقف النبي محمد منها، ينهض دليلا على ذلك.

تعاقب الحضارات والدول لايعني تبدّل السكان، وانما تبدّل العقائد التي تنقّل بينها العراقيون، ما انتج لاحقا هذا التعدد والتجاور الثقافي اللاّفت، وثنية، صابئية، يهودية، مسيحية، فالإسلام، وكل منها استحضر صراع البدايات مع ماسبقه، ودوال الدول وتغير عواصمها في الرقعة الجغرافية المسماة بلاد الرافدين.

دور العراقيين الحضاري هذا سيتضح لاحقا من خلال اعادة انتاج الاسلام، اي فلسفته وسط مشغل ثقافي غني، اندكت فيه ثقافات سابقة، وسيكون على شكل مدارس ثقافية، تمثل الان الطيف المذهبي الاسلامي المعروف والحركات التنويرية والراديكالية الكثيرة الاخرى، ولتصبح البصرة والكوفة اكبر مدرستين في اللغة والفقه.. العراق الحضاري يتجلى بالتعدد الثقافي الذي يختزنه، والعراق العربي آخر تبدياته.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق