q
لا تزال بلدان عديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عالقة في عملية انتقالية معقدة من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق. وفي حين أحرزت بعض هذه البلدان تقدما أكبر من بعضها الآخر، فإنها جميعا تظل تواجه مجموعة عريضة من التحديات الاقتصادية والسياسية. تنقسم العقبات الاقتصادية...
بقلم: رابح أرزقي

واشنطن، العاصمة ــ لا تزال بلدان عديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عالقة في عملية انتقالية معقدة من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق. وفي حين أحرزت بعض هذه البلدان تقدما أكبر من بعضها الآخر، فإنها جميعا تظل تواجه مجموعة عريضة من التحديات الاقتصادية والسياسية.

تنقسم العقبات الاقتصادية الرئيسية إلى فئتين عامتين: هياكل الملكية المبهمة وعجز الشركات عن الدخول إلى ــ أو الخروج من ــ الأسواق بسهولة. من الناحية السياسية، تحكم أنظمة استبدادية أغلب بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ــ تُـعَـد المنطقة واحدة من آخر مناطق العالم التي تضم أنظمة ملكية استبدادية مطلقة، فضلا عن الحكم العسكري ــ وتشكل هذه الحقيقة العائق الرئيسي الذي يحول دون التغيير الاقتصادي.

مع ذلك، تزايدت شدة الضغوط الاجتماعية مع ظهور جيل أفضل تعليما تتخطى طموحاته غالبا الفرص المحدودة المتاحة في أسواق العمل التي يهيمن عليها التوظيف من قِـبَـل القطاع العام. يعاني القطاع الخاص في معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الهزال المزمن، وقد أفضى تسييس عملية التوظيف إلى تجريد العديد من الشباب من حقوقهم فعليا، مما أدى إلى اندلاع شرارة احتجاجات شوارع غاضبة.

الواقع أن الثورات الواسعة النطاق التي بدأت مع "الربيع العربي" في عام 2011 كان لها وقع المفاجأة الصادمة على الأنظمة السياسية في المنطقة، لكن النتائج النهائية كانت متباينة إلى حد كبير. ففي حين سقطت بعض الأنظمة، أصبحت أنظمة أخرى أكثر استبدادا، وظلت النخب في عموم الأمر غير مقتنعة بالحاجة إلى إعادة الهيكلة الاقتصادية العميقة وإصلاحات سوق العمل.

يشبه الوضع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وضع الكتلة السوفييتية في ثمانينيات القرن العشرين. لبرهة من الزمن، نجح أولئك الذين يمارسون الضغوط ضد الإصلاحات ــ وخاصة النخب المنتقاة الراسخة ــ في منع ذلك النوع من التدابير الجريئة والشاملة التي كانت مطلوبة. ولكن في نهاية المطاف، أدى فشل النخب في التكيف إلى انهيار سياسي كامل النطاق، مما ساعد أخيرا في تمكين تحويل النظام.

على نحو مماثل، تعمل حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اليوم في ظل غموض استراتيجي. فلا تتبنى العديد من البلدان مبدأ المكاشفة إلا في ما يتصل بكميات محدودة من البيانات الأساسية اللازمة لإدارة مناقشات مستنيرة بشأن السياسة العامة. وفي عموم الأمر، تتدفق هذه المعلومات من الهيئات الحكومية إلى مراكز الأبحاث المفضلة لديها والتي تناقش وسائل الإعلام تحليلاتها بعد ذلك.

تسمح عملية الوساطة هذه للحكومات بالبقاء بمعزل. إذ تتجنب السلطات المحلية والإداريون العموميون المسالة بشكل روتيني، بينما يُـصـان الوضع الراهن من جانب المطلعين الأقوياء الذين يستفيدون من الريع من عائدات النفط على سبيل المثال، أو من الأوضاع الاحتكارية في قطاعات رئيسية.

تتمثل عقبة صارخة بشكل خاص تحول دون الإصلاح في أولئك الذين يحملون تراخيص الاستيراد القصرية للمنتجات الاستهلاكية. فبموجب هذا الترتيب، تتلقى الواردات في العديد من البلدان إعانات الدعم فعليا بسبب سعر الصرف المبالغ في تقديره، في حين يقدم النظام المالي المحلي القروض للحكومة لتمويل أنشطة الاستيراد المربحة لمصلحة قِـلة من النخب. ومن الواضح أن القادة السياسيين كانوا عاجزين عن التصدي لهذه المصالح المكتسبة، حتى عندما تعرضوا لضغوط متزايدة من جانب الأجيال الشابة المجردة من حقوقها.

لكن على الرغم من كل الجهود التي تبذلها النخب لقمع الضغوط التي يفرضها المنادون بالتغيير، بدأت موجة ثانية من الاحتجاجات تجتاح المنطقة في عام 2019، مما يشير إلى أن مخزون القادة من رأس المال السياسي بدأ ينفد. في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُـعَـد الاحتجاجات طريقة جديدة نسبيا للضغط من أجل المساءلة. والآن، يبدو أن الصدمة المزدوجة المتمثلة في جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) وانهيار أسعار النفط وجهت ضربة قاتلة لعقد اجتماعي كان متصدعا بالفعل تحت وطأة التغيير الديموغرافي (السكاني).

تفتح هذه المطالبة الجديدة بالمساءلة الباب مرة أخرى للتغيير. والفرصة سانحة الآن لتثقيف شعوب المنطقة بالكامل حول أوجه القصور التي تعيب النظام الحالي، ورسم المسار نحو تحول مطلوب بشدة. وهذا ضروري لبناء جمهور من الأنصار يتسم بالديناميكية والاستقرار لدعم الإصلاح الأكثر عمقا وشمولية كلما سنحت الفرصة. وبدعم من جمهور الأنصار العريض القاعدة، ربما يجد القادة السياسيون آنئذ الشجاعة اللازمة لبدء التغيير وإقصاء وتحجيم القِـلة الحاكمة التي أصابها الضعف الآن.

لكن التحول من غير الممكن أن يحدث بشكل تدريجي أو على هيئة مشروع واحد في كل مرة. بل تحتاج بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى إعادة التوازن بين الدور الذي تضطلع به الدولة وشركاتها المحمية وعمالها والدور الذي تلعبه سوق غير رسمية إلى حد كبير. وللحصول على فرصة ولو بعيدة للنجاح، يجب أن تحظى الأفكار الكامنة وراء التحول الكامل النطاق بدعم شعبي واسع، وخاصة بين الشباب.

لن ينجح نهج يتجه من أعلى إلى أسفل لتجديد العقد الاجتماعي. ذلك أن النوع المطلوب من التجديد يتطلب عملية غير مركزية لصناعة القرار، تستند إلى تغيير المواقف الاجتماعية حول خوض المخاطر الفردية. ولن يستطيع القادة السياسيون، حتى لو كانوا منتخبين ديمقراطيا، إصدار التوجيهات للسكان ببساطة بشأن هذه التغييرات؛ بل يجب أن يحتضنها كل فرد.

مع وضع كل هذا في الاعتبار، ينبغي للمجتمع الدولي أن يبحث عن وسيلة لتوسيع القدرة على دعم الفِـكر الجديدة في المنطقة ــ بين المسؤولين الحكوميين والمواطنين الأفراد. ومن الممكن أن تساعد استراتيجية لنشر الأفكار حول الإصلاح في خلق الثقافة اللازمة لدعم الأسواق وعملية صنع السياسات القائمة على الأدلة.

يتمثل النمط الذي تحتاج إليه المنطقة من المشاركة الناعمة في تقديم أفكار ونماذج جديدة قبل أن تتمكن من الاضطلاع بالمهمة الصعبة المتمثلة في تحويل ذاتها. الأمر الأكثر أهمية هو أن بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتاج إلى مجال للحوار المستقل حول السياسة الاقتصادية. وعلى هذا، يتعين على المجتمع الدولي أن يركز على رعاية المراكز الفكرية المستقلة، والتي تحتوي المنطقة على قِـلـة منها، بسبب السياسات الحكومية الرامية إلى تثبيطها أو حظرها.

الواقع أن نظاما بيئيا جديدا لإنشاء ونشر الأفكار من شأنه أن يعمل بدوره على تزويد الصحافيين وغيرهم بالمعلومات التي يحتاجون إليها لمحاسبة الحكومات. وأكثر ما تحتاج إليه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الآن هو المزيد من ضوء الشمس.

* رابح أرزقي، كبير الاقتصاديين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالبنك الدولي، هو كبير الاقتصاديين ونائب رئيس الحوكمة الاقتصادية وإدارة المعرفة في بنك التنمية الأفريقي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق