q
الحق يبقى ما بقي الدهر، والباطل زاهق مهما تغطرس، وتجبَّر، وتكبَّر، فهو كالماء للحياة، وأما الباطل فهو كالزبد الطافي على وجه الماء الجاري في السيول، فالماء المفيد يمكث في الأرض ليُعطي الحياة لكل شيء، وأما فقاعات الزبد فإنها تذهب وتزول تلقائياً من الواقع رغم أنها...

منطق التاريخ

للتاريخ منطق سليم، ورأي قويم، يؤيد الحق ويدحض الباطل، فلا يصحُّ إلا الصحيح، ولا يبقى إلا ما كان لله فيه رضا، لأن الخالق تعالى خلق الخلق بميزان دقيق، وجعل له أزمَّة الأمور ولكنه أعطى العدو اللدود للإنسان الشيطان الرجيم مساحة بسيطة يتحرك فيها، تتمثَّل بالتسويل، والتسويف، والإغراء، والإغواء، ومن ذلك تشويه صورة الحق بكثير من الباطل، والخير بأشكال من الشر، ليميز الله الخلق بعد هذا الامتحان قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)

والعجيب أن الإنسان مفطور على الخير، والحق، التوحيد، ومُسلَّحٌ بالعقل، الإرادة، ومسدد بالأنبياء وشرائع السماء، والشيطان الرجيم المطرود من الرحمة ليس له سلطاناً على عباد الله إلا بما هم اتبعوه على ضلالته، ولحقوه في غوايته، وهذا ما نقرؤه في آيات الذِّكر الحكيم: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحِجر: 42)

والتاريخ يشهد للحق بأحقه، وإن أنكرته الدنيا بأسرها، وذلك لأن الحق لا يُبطله شيء، والباطل لن يُزينه شياطين الدنيا من الإنس والجن، لأنه وهم وسراب ولا حقيقة واقعية له فهو شبيه أو قرين العدم في النهاية، وما أجمل الأمثال القرآنية الحكيمة، قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد: 17)

فالحق يبقى ما بقي الدهر، والباطل زاهق مهما تغطرس، وتجبَّر، وتكبَّر، فهو كالماء للحياة، وأما الباطل فهو كالزبد الطافي على وجه الماء الجاري في السيول، فالماء المفيد يمكث في الأرض ليُعطي الحياة لكل شيء، وأما فقاعات الزبد فإنها تذهب وتزول تلقائياً من الواقع رغم أنها هي التي تظهر لعين الناظر البسيط الساذج، وماء الحياة مخفي وكامن تحتها ولا ينظر إليه إلا الخبير بعين البصيرة، فيتكوَّن له الوعي بالحقيقة الكامنة في الضمائر الحيَّة في بني البشر.

هكذا هو حق أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي اختاره الخالق لمنصب الأمارة، وبيَّنه ونصَّبه رسول الله (ص) للأمة وأخذ له منهم بيعات عشرة كما قال الإمام التاسع محمد الجواد (ع)، نستعرض بعض ما ذكرته النصوص التاريخية لنقف على الحق المضار والحقيقة المشوَّهة في تاريخنا الإسلامي، لا سيما ونحن نبحث عن ماء الحياة الحضارية لأمتنا الإسلامية التي ظمئت له، وعطشت حتى كان التصحر يأتي عليها، وتكالبت عليها قوى الباطل من كل حَدَب وصوب وهي تُعد ربع سكان المعمورة، فما أحوجنا إلى ماء الولاية، وأنوار الهداية لنعود إلى الواجهة الحضارية في هذا العالم الذي طغى عليه الزبد الحضاري وتحوَّل إلى قرية تتغطى بزبد الأرقام الوهمية الذي أنتجته الحضارة الرقمية.

حديث الدار والإنذار

كان أولها حديث الدار المشهور، بل المتواتر إلا عند خوارج هذه الأمة (الوهابية)، الذي كانت الدعوة فيه موجهة لخصوص بني عبد المطلب، والرواية لأمير المؤمنين (ع) حيث يقول: (لمّا نزلت: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) بني عبد المطّلب وهم إذ ذاك أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً، فقال: أيّكم يكون أخي، ووصيّي، ووارثي، ووزيري، وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرض عليهم ذلك رجلاً رجلاً، كلّهم يأبى ذلك، حتى أتى عليَّ، فقلتُ: أنا يا رسول اللَّه، فقال: يا بني عبدالمطّلب! هذا أخي، ووارثي، ووصيّي، ووزيري، وخليفتي فيكم بعدي) (علل الشرائع: 170/2، وكنز العمّال: 13/114/36371)

فكم لهذه الرواية الشريفة من رواة فالطبري أثبتها في تاريخه وتفسيره ولكن يد التحريف الآثمة غيَّرت فيها ولم تذكر إلا صفة واحدة وعوضت عن الأربعة الأخرى بكذا وكذا للأسف الشديد.

فمنذ اليوم الأول للدعوة الخاصَّة ببني عبد المطلب (العشيرة الأقربين) أخذ عليهم البيعة بعد أن عرضها عليهم شخصياً ولم يقبلها إلا أصغرهم سِنَّاً علي بن أبي طالب فأمرهم بطاعته ولذا: (قام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع). (تاريخ الطبري: 2/321-319، تاريخ دمشق: 42/48/8381، تفسير الطبري: 11/الجزء19/121، شرح نهج البلاغة: 13/210، شواهد التنزيل: 1/486/514 وص 543/580، الكامل في التاريخ: 1/487، كنز العمّال: 13/131/36419 وص 114/36371؛ الأمالي للطوسي: 582/1206، تفسير فرات: 301/306 وص 299/404، مجمع البيان: 7/322، بحار الأنوار: 38/223/24 وراجع السيرة الحلبيّة: 1/285 وتفسير القمّي: 2/124 والإرشاد: 1/48)

فالأمر هو أمر الله وليس فيه فوضى، ولا محاباة الأهل، ولا مراعاة الأقربين، بل هو رسالة ودين وعقيدة لله تعالى، أمرنا الله ورسوله فعلينا الطاعة المطلقة له، والانقياد والخضوع لوليه الذي اختاره ونصبه علينا، وأما أولئك الذين حليت الدنيا في أعينهم، وطمعوا بالخلافة والحكم، والسلطة والسلطان والذين بهرهم بريق الصولجان فانساقوا وراء أهوائهم، فلأولئك حسابهم عند الله ولا نحن ولا أحد يُحاسب أحداً فالله الرقيب هو الحسيب ولكن حسابه بميزان، وقوانين وتشريع فمَنْ يخالفها يُوبَّخ ويُعذَّر على الصغيرة، ويُعاقب على الكبيرة، وقد يخلد في النار عليها إذا كانت من الموبقات المهلكات السبعة.

عرضُ بني عامر

ومن تلك الحوادث التاريخية التي تحمل الكثير من الإشارات إلى تلك المسألة الحيوية (القيادة) من بعد النبي (ص) في بداية الدعوة العلنية وحيث راح صلوات الله عليه يعرض نفسه على كل أحياء العرب وقبائلهم ووفودهم الى البيت في أيام الموسم (الحج)، وممَنْ عرض الرسول (ص) نفسه عليهم كان بنو عامر قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بْن فِرَاسٍ: وَاَللَّهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ، ثُمَّ قَالَ: أَ رَأَيْتَ إنْ نَحْنُ بَايَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟

قَالَ: (الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ).

قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَ فَتُهْدَفُ نَحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ". (السيرة النبوية لابن هشام 2/66; الكامل في التاريخ 2/93; تاريخ الطبري 2/350; السيرة الحلبية 2/3; السيرة النبوية لابن كثير 2/158)

وفي رواية قال لهم: (الأمر لله فإن شاء كان فيكم، وكان في غيركم)، فمضوا ولم يبايعوه، وقالوا: "لا نضرب لحربك بأسيافنا ثم تحكم علينا غيرنا" (بحار الأنوار 23/74، 75)

إذن الأمر واضح؛ بيعة لك ولكن الأمر والقيادة لنا من بعدك، وبما أن رسول الله (ص) يُبيِّن لهم أن أمر القيادة والإمامة هي شأن إلهي، وأمر رباني لا شأن له فيه إلا التبليغ عن الله وإرادته فيه، ولكن بعضهم يُريد أن يتعاطى به كأمر دنيوي وسياسي ولا علاقة ولا شأن لله والدين الحنيف فيه، كما يُصوِّرونه في هذا العصر ويدعون إلى الدولة العلمانية.

عَرضُ بني كِندة

وفي ذات السياق وفي نفس المضمون عرض (صلى الله عليه وآله) دعوته على بني كندة فقالوا له: "إن ظفرتَ تجعل لنا الملك من بعدك؟"، (هنا الأمر واضح وصريح (الملك من بعدك))

فقال (صلى الله عليه وآله): (إنّ الملك لله يجعله حيث يشاء).

فقالوا: "لا حاجة لنا فيما جئتنا به". (السيرة النبوية لابن كثير 2/159)

عامر بن الطفيل

وفي ذات الأمر وعندما قويت الأمة وظهرت ملامح الدولة، وفي العهد المدني جاءه (ص) عامر بن الطفيل الشاعر المعروف، وساومه على ذلك، وقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟

فقال (صلى الله عليه وآله): (لك ما للإسلام، وعليك ما على الإسلام).

فقال: "ألا تجعلني الوالي من بعدك؟"

فقال (صلى الله عليه وآله): (ليس لك ذلك ولا لقومك). (بحار الأنوار 23/25)

فمسألة القيادة، والملك، وما أطلقوا عليه من بعد الخلافة، والحكم، والسلطة، التي سماها الله تعالى الإمامة والولاية، وهي خاصَّة بأهلها الذين اختارهم الله على علم على العالمين، وربَّاهم على عينه، وجعلهم خزان علمه، وقادة خلقه، وحجته عليهم، بما وهبهم من الطهارة والنزاهة والعصمة حيث قال سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33)

وجعل محبتهم والصلاة عليهم واجبة في كل صلاة، ومودتهم أجراً للرسالة الخاتمة بقوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى: 23)

ولم يكتفِ رسول الله (ص) ببيان ذلك نظرياً، بل كرَّسه عملياً في كل حياته الشريفة من قبل البعثة وحتى آخر لحظة من حياته المباركة في هذه الدنيا حيث فارقها وهو على صدر علي (ع) كما يصف لنا ذلك في خطبته في نهج البلاغة حيث يقول: (وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي، وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي، وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ (ص)، وَالْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ، وَالْأَفْنِيَةُ مَلَأٌ يَهْبِطُ، وَمَلَأٌ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ؛ فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟!)

كما أنه كان يُرافقه في كل حياته المباركة منذ أن كان فطيماً كان يحمله على صدره، ويدور به في جبال مكة، ولما نزل الوحي كان أول مؤمن ومصدِّق به، وصلى سبع سنوات قبل الخلق جميعاً، وفداه بنفسه يوم الهجرة، وأدى عنه كل الأمانات وائتمنه على أغلى ما عنده وحيدته فاطمة الزهراء (ع)، ثم زوجه غياها وكان صاحب لوائه في الدنيا والآخرة في كل المواطن، ورئيس أركانه في كل الغزوات الحروب.

وكان أخوه عند المؤاخاة، وفتح بابه عندما سدَّ الأبواب المشرعة على المسجد، وناجاه حين نزلت آية النجوى التي لم يعمل بها غيره في هذه الدنيا، وكان هو المبلِّغ عنه ولم يرضَ ربنا سبحانه أن يبلغ الأول ستة آيات من سورة البراءة (التوبة) فنزل جبرائيل وقال له: (لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك) (الكامل في التاريخ 2/291; البدء والتاريخ 3/241، السيرة النبوية لابن كثير 4/72)

وفي رواية: (لا يبلِّغ هذا إلاّ أنت أو رجل من أهلك) (تاريخ اليعقوبي 2/76)

وفي رواية: (لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو علي) (إعلام الورى بأعلام الهدى: 132)

فمَنْ لم يكن أهلاً ليُبلِّغ آيات من سورة التوبة كيف يكون مؤتمناً، وأهلاً لتبليغ الرسالة الإسلامية، والقرآن الحكيم كله تفسيراً وتأويلاً يا أمة الإسلام؟!

بيعة الغدير الربانية النورانية

ونأخذها من الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي حيث يروي: "لما انصرف رسول الله (ص) من حجة الوداع والمسلمون معه وهم على بعض الروايات زهاء مائتي ألف نسمة، سار (ص) نحو المدينة، حتى إذا كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وصل - رسول الله (ص) ومن معه من المسلمون - إلى غدير خم من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين عن غيرهم، ولم يكن هذا المكان بموضع إذ ذاك يصلح للنزول، لعدم وجود الماء فيه والمرعى، فنزل عليه الأمين جبرئيل (ع) عن الله بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (( المائدة: 67)

وكان نزوله هذا بهذا الشأن هو للمرة الثالثة، فقد نزل (ع) عليه(ص) قبلها مرّتين ـ وذلك للتأكيد: مرة عند وقوفه بالموقف، وأخرى عند كونه في مسجد الخيف، وفي كل منهما يأمره بأن يستخلف عليّ بن أبي طالب (ع)، وأن يسلّم إليه ما عنده من العلم وميراث علوم الأنبياء (ع) وجميع ما لديه من آياتهم، وأن يقيمه علماً للناس، ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية، وفرض الطاعة على كل أحد، ويأخذ منهم البيعة له على ذلك، والسلام عليه بإمرة المؤمنين، ورسول الله(ص) يسأل جبرئيل أن يأتيه من الله تعالى بالعصمة، وفي هذه المرة نزل عليه بهذه الآية الكريمة التي فيها: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وكان أوائل القوم، عند نزول جبرئيل بهذه الآية التي أمرت رسول الله (ص) في تبليغ ما اُنزل إليه في علي (ع)، قريباً من الجحفة، فأمر رسول الله (ص) بالتوقّف عن المسير وأن يردّ من تقدّم من القوم ويحبس من تأخّر منهم في ذلك المكان، فنزل (ص) ونزل المسلمون حوله، وكان يوماً قايظاً شديد الحرّ، فأمر بدوحات هناك فقمّ ما تحتها وأمر بجمع الرحال فيه، ووضع بعضها فوق بعض.

ثم أمر (ص) مناديه فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا إليه وإن الرجل منهم ليضع بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحرّ، فلما اجتمعوا صعد (ص) على تلك الرحال حتى صار في ذروتها، ودعا علياً (ع) فرقى معه حتى قام عن يمينه ثم خطب (ص) الناس خطبة بليغة لم يسمع الناس بمثلها فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ الموعظة، ونعى إلى الاُمّة نفسه، وأشار إلى أمر الإستخلاف فنصب علياً (ع) بأمر من الله تعالى خليفة عليهم بعده (ص)، ومما قال (ص) فيها ما يلي: (معاشر الناس، إن الله أوحى إليّ يقول: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ( المائدة: 67)

وأنا مبيّن لكم سبب نزول هذه الآية: إنّ جبرائيل هبط عليَّ مراراً ثلاثاً يأمرني عن ربّي جلّ جلاله أن أقوم في هذا المشهد، فأُعلم كل أبيض وأسود، أنّ علي بن أبي طالب أخي، ووصيّي، وخليفتي على أُمّتي، والإمام من بعدي، وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس وهو الله الكافي الكريم.

فاعلموا معاشر الناس؛ أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً، مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، وعلى كل موحّد.

معاشر الناس؛ إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا، وانقادوا لأمر ربّكم، فإنّ الله هو مولاكم وإلهكم، ثم من بعده رسوله محمّد وليّكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدي علي وليّكم وإمامكم بأمر ربّكم، ثم الإمامة في ذرّيتي من ولده إلى يوم تلقون الله ورسوله، لا حلال إلاّ ما أحلّه الله، ولا حرام إلاّ ما حرّمه الله، عرّفني الله الحلال والحرام وأنا أفضيت لما علّمني ربّي من كتابه وحلاله وحرامه إليه ـ إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).

ثم ينقل سماحته الخطبة الغديرية مختصرً إلى أن يقول (ص): (معاشر الناس، من يطع الله ورسوله وعلياً أمير المؤمنين والأئمّة من ولده فقد فاز فوزاً عظيماً.

فناداه القوم: سمعنا وأطعنا أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا.

ثم إنّ رسول الله (ص) نادى بأعلى صوته ويده في يد علي (ع) وقال: (يا أيّها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم؟)، قالوا بأجمعهم: بلى يا رسول الله.

فرفع رسول الله (ص) بضبع علي (ع) حتى رأى الناس بياض إبطيهما، وقال على النسق من غير فصل: (فمَنْ كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، وانصر مَنْ نصره، واخذل مَنْ خذله، والعن مَنْ خالفه، وأدر الحقّ معه حيثما دار، ألا فليبلّغ ذلك منكم الشاهد الغائب، والوالد الولد).

الصحابة يبايعون عليّاً (ع)

ويصف لنا سماحته بيعة الصحابة وفرحهم: "ثم نزل رسول الله (ص) وكان وقت الظهيرة فصلّى ركعتين ثمّ زالت الشمس، فأذّن مؤذّنه لصلاة الظهر، فلما صلّى بهم جلس في خيمته وأمر عليّاً (ع) أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثم أمر (ص) المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنّؤوه (ع) بالولاية، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ويبايعوه على ذلك.

ففعل الناس ذلك كلّهم حتى أنّ أبا بكر وعمر بايعاه وعمر يقول له: بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة". (بحار الأنوار: ج21 ص388)

ولهذا قال ابن عبّاس: "قد وجبت والله بيعته في رقاب الصحابة إلى يوم القيامة". (عيد الغدير أعظم الأعياد في الإسلام السيد الشيرازي: ص62 بتصرف)

هكذا تمَّت آخر بيعة لأمير المؤمنين الإمام علي (ع) في يوم الغدير الأغر، ولذا جُعل أعظم الأعياد في الدين الإسلامي الحنيف، فهو عيد الله الأكبر.

اضف تعليق