q
انظروا للأعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كيف تهندس لنا اليوم ازمة فيروس كورونا، كأنها تهندس لنا الموت المفاجئ، وتغلق امامنا ابواب الرحمة والتفاؤل، وتبشرنا بالقادم الاسوء، بمنشورات ملتهبة تجذب الانتباه والذعر، وتغذي أجواء الحياة المتوترة أصلا بالمصائب واليأس بالمزيد من التأزيم والرعب، بينما دورها تقديم المعلومة المتكاملة الذكية...

في عصرنا تكثر المفارقات، وتجتمع المتناقضات في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، فيصبح الأبيض أسود والأسود أبيض، وتمسي الحقائق أكاذيب والأكاذيب حقائق، وتتضخم الاحداث رغم انها لا ترى بالعين المجردة، ويثار الرعب لإشاعة هنا وهناك، وكأنها هندسة افتراضية لتلفيق الاحداث، حيث تتوارى خجلاً قواعد الحكمة، وأسس العقل والمنطق؛ لتبقى القوة الخادعة هي المنطق، وهي القاعدة الأولى والأخيرة، وهي المتربعة الوحيدة على عرش التفكير.

فالبيئة التنافسية القائمة بين وسائل الإعلام تساعد على تسريب بعض المعلومات التي تضر بالمفهوم المهني للإعلام الذي يوجب التقصي والتحقق، وهو الدرس الأول في ابجديات الاعلام. لأن ما يحدث من تسريب وتضخيم كأنه أصبح قاعدة ذهبية لسلوك الاعلام اليوم، التي تشترك أحيانا مع مفهوم الشائعة والثرثرة و(عقلية الغوغاء). والقاعدة الذهبية الاعلام لمواجهة الازمات لا تهويل ولا تهوين.

انظروا للأعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كيف تهندس لنا اليوم ازمة فيروس كورونا، كأنها تهندس لنا الموت المفاجئ، وتغلق امامنا ابواب الرحمة والتفاؤل، وتبشرنا بالقادم الاسوء، بمنشورات ملتهبة تجذب الانتباه والذعر، وتغذي أجواء الحياة المتوترة أصلا بالمصائب واليأس بالمزيد من التأزيم والرعب.

بينما دورها تقديم المعلومة المتكاملة الذكية المرتبطة بتاريخ الامراض، والتوعية بالجانب الوقائي، بمنطق الشفافية والعقلانية وليس بسياسة اسراب الهجمات القتالية بالتضخيم، وقذائف صواريخ الذعر الإعلامية، القاتلة لإنسانية الانسان ووجوده.

لم يكتف الاعلام من هندسة الذعر بالتضخيم والشائعات، وانما هندس لنا القيم الهشة، والأخلاق المريضة المصابة بسادية عصر العولمة وتوحشها، مستثمرا امراض الصراعات السياسية والمنافسات التجارية والعصبيات العرقية والخرافات والاساطير في تناوله لفيروس كورونا، فقد انتشرت في بعض وسائل الاعلام المتخلفة، ومواقع التواصل الاجتماعي رسائل الكراهية والشماتة والانتقام والعنصرية، وكأنها مسلمات حقيقية للتشفي والادانة والموضوعية.

فالصين الكافرة تستحق هذا الوباء لأنها تلذذت بتعذيب المسلمين لديها، والبعض الآخر في الغرب وجدها فرصة لوقف نموها الاقتصادي، واخراجها من التنافس الاقتصادي العالمي، بل ان هذا الاعلام جعل الصين هي سبب كوارث وانتشار الأوبئة في العالم، لأنها موطن القذارة بسبب اكلها للجرذان والكلاب والقطط وحساء الخفافيش والحشرات والصراصير، رغم انهم يأكلونها منذ مئات السنين.

بل ان الشماتة والكراهية انتقلت عدواها من بلاد الكفار الى بلاد المسلمين، حيث نجد الرسائل الإعلامية بأنواعها تشمت بما يجري لبعض الشعوب لأسباب مختلفة، حيث ترى هذه الوسائل ما حدث لهم عقابا من الله، رغم ان هذه الشعوب تواجه فيروس السياسة، ووباء كورونا اللعين معا. والقصة لا تنتهي الى هذا الحد.

فالأعلام هندس لنا السياسة بأفعال انتقامية، وجعل من الفيروس طريقا للابتزاز والضغط السياسي، والتشويه المتعمد، رغم ان محن العباد تفطر القلب، بالمآسي والموت الجماعي، كأننا نعيش عصر (الحيونة) المتوحشة. مثلما أيضا انتشعت ثقافة المؤامرة، لتظهر لنا قصص خيالية تعمق كراهية الآخر. بل أصبحت وسائل الاعلام تهندس لنا الاشاعات المالية والاقتصادية، وتشيع الرعب في عالم السياحة والطيران والنفط والغاز لتزيد (الطين بله) في الانهيار الاقتصادي الذي يسبب المزيد من الكوارث للبشر.

لكن أخطر فيروس اعلامي هو هندسة الخرافات عندما تتبارى هذه الوسائل بأنواعها التقليدية والرقمية لتقدم لنا وصفات للعلاج من الأعشاب الطبية، واوهام لطقوس متخلفة، وتخاريف بشرية جاهلية تعتمد على عباءة السيد والشيخ لشفاء المرضى. وبمنطق العلم والأرقام، فيروس كورنا ليس هو الأول والأخير.

وليس هو الأخطر، فتاريخ الوباء والفيروسات المهلكة تضع هذا الفيروس في آخر السلم من حيث خطورته، واعداد موتاه. هل سمعتم بالأنفلونزا الاسبانية عام 1918 الذي استمر عامين ثم اختفى فجأة كما ظهر، وأصاب مليار شخص، وحصد مائة مليون، وفاق ما حصدته كل الأوبئة عبر التاريخ. اليس فيروس (السارس) الذي ظهر عام 2003 وانتشر بشكل رهيب، وتسبب في وفاة 774 شخصا كان الأخطر، وكان معدل وفياته 10 بالمائة تقريبا، بينما فيروس كورونا لم يبلغ حدود 5 بالمائة.

ولعلنا نتذكر ايضا، فيروس (ايبولا)الذي اودى بحياة أكثر من خمسة الاف شخص، حيث ان معدل نسبة الوفيات بين المصابين بلغ خمسين في المئة. و إذا ما اخضعنا ارقام الموتى لشهرين من عام 2020 في مختلف المرضى كنزلة البرد العادية (70 ألفا)، والملاريا (150 ألفا)، وفقدان المناعة المكتسبة (ربع مليون)، والسرطان (1.2 مليون)، وهذا يعني من ناحية دلالات الأرقام ان الاعلام لم يثقف بها جمهوره بالمقارنات المنطقية والاقناع لتهدئة النفوس، ولم يبرمج له قاعدة بيانات داخل عقل المتلقي للتوعية الطبية بالفيروس.

مما سبب في هذا الهلع والخوف الذي أصبح مرضا يذهب العقل ويشل الإرادة والحركة. من قال ان الاعلام عليه ان يخفض صوته إزاء هذه الازمة، حيث يصيب الفيروس 110 ألف انسان، ويموت اكثر من 4الاف شخص، ويتمدد في أكثر من 95 دولة، لأن واجبه المهني والأخلاقي ذكر الحقائق.

ولكن بمنطق العقلانية والتوازن، فلا يجزئ الخبر من باب الاثارة او الجهل، بل يربطه بمعلومة امل تشحن الناس بالثقة والارادة ، لتخفيف حالة الرعب، فيذكر معها حقيقة اهم، وهي ان موتى الفيروس لا يتعدى 3.5 بالمئة وهي بمنطق الطب والوقائع العلمية، لا تشكل رقما مرعبا، مثلما على الاعلام أيضا ان لا ينتقي الصور، والحقائق الدالة على رعب المشهد الإنساني فقط، حيث الناس يتساقطون في الشوارع ،والجثث تملأ ردهات المستشفيات ، بل يضيف عليها صورا أخرى لجموع من المرضى وهي تغادر المستشفيات.

والا كيف سنتصور شكل العالم، وشكل التغطية الإعلامية، في ظهور اوبئة أخطر، او قيام حروب بيولوجية او كيميائية او نووية تقوم بها دول متغطرسة، وقادة مجانين مهووسون بالموت والقتل. لا أدري ان كان الجميع يتفق معي بأن فيروس الاعلام بدأ يشعل في الناس اليأس والإحباط والرعب، أكثر من الفيروس المرضي، ويتفنن بصناعة الاثارة واللعب على العواطف والاحاسيس، خاصة في بلد مثل العراق، كثرت فيه الفيروسات المرضية والسياسية والاعلامية، فما عدنا نعرف أي فيروس نكافحه، فيروس كورونا، ام فيروس جذام الأحزاب السياسية الحاكمة الذي هو الأخطر فتكا بالعباد. من يدري ما الذي يخبئه الزمن القادم من فيروسات جديدة، فمن سرٌه زمن، ساءته ازمنة.

.........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق