q
لم يعد الأمر قابلا للصمت، أو غض الطرف، حتى الساسة أنفسهم عرفوا الآن بعد موجات الاحتجاج والاعتصام المتلاحقة، ومن ثم مؤشرات العصيان المدني، كل هذه الأمور تستدعي أن تصحو الطبقة السياسية من سباتها وغفوتها، وعليها أن تستعيد صحوة الضمير الجمعي، فهو وحده القادر على تصحيح المسار...

ينظر المراقبون للوضع العراقي بأنه اليوم يمر في لحظة حاسمة، يصفها بعضهم بالمرور من عنق الزجاجة، فأما الإفلات خارج شرنقة الفساد والضعف والترهل العام، وأما الخروج بقوة من العنق الضيق الذي يحتاج إلى قوة دفع استثنائية تخرج بالعراق وشعبه إلى فضاء الدول القوية المعافاة.

البرامج الإصلاحية السابقة كلها باتت في خبر كان، لم يستطع مطلقوها (رؤساء وزراء سابقون وبرلمانيون ورؤساء كتل) من تنفيذها ولا حتى تنفيذ جزء منها، لأسباب عديدة أبرزها غياب الإرادة السياسية الجادة لمعالجة أمراض العراق، وضعف أو انتفاء الضمير السياسي، وتشعب الأزمات والأمراض التي عصفت ولا تزال بالبلاد.

في حوار مع أحد الساسة العراقيين المتنفّذين قال فيه: أصيب ابن صديق لي بمرض غامض، فأخذه أبوه إلى أشهر الأطباء، لكنه عاد بخفيّ حنين، ولم تتحسن حالة ابنه إلا بعد أن استشار رجل (عارفة) كبير السن، لا علاقة له بالطب الحديث، بل أخبر الأب بالكلمات التالية:

عليك أن تصغي إلي جيدا، ابنك لا يعاني من مرض عضوي، جسده ناصح، أفضل من جسدكَ وجسدي، أهم شيء عليك أن تعرف ابنك من الداخل وتلاحظ ما هي المشكلة التي يعاني منها بالضبط، راقب ابنك، في البيت، كيف يتحرك، كيف ينام، ماذا يقول، ماذا يأكل، ماذا يشرب، راقبه من الداخل، وعندها سوف تكتشف سبب مرضه بنفسك.

تراجع الشراهة والاستحواذ والاستئثار

هذه الحكاية تذكّرنا بالمرض الذي يعاني منه العراق، وهو مرض سبات الضمير السياسي، فالعراق في الحقيقة ليس مريضا، لأن جسده معافى ويحفل بالثروات والكفاءات وبكل مقومات الحياة السليمة، ولذلك فهو ليس مريضا مرضا عضويا، إنما مرضه في (قياداته) حصرا، ونعني بها القيادات التي لا تعرف كيف تقود البلد، أو أن بعضها يعرف ولكنه لا يفعل ولا يريد ذلك، لأن إدارة البلد وقيادته بصورة صحيحة، سوف تعالج أمراضه وسوف يستعيد عافيته في الاقتصاد والتعليم والصحة وسواها.

وسوف يرافق ذلك تراجع واضمحلال لشراهة الساسة في الاستحواذ، والإيغال في المنافع والمصالح الفردية والعائلية والحزبية، على حساب مصلحة البلد والشعب، فيؤدي ذلك إلى فقدان القادة السياسيين التعلّق بامتيازاتهم والوجاهة والمناصب ومغريات السلطة، وهذه كلها سوف تسهم بطريقة وأخرى في شفاء العراق من أمراضه أو التخفيف من شدّتها.

أهم ما يحتاج إليه العراق طبقة سياسية معافاة، تتحلى بضمير سياسي ناصح، هكذا طبقة سليمة سوف تنتج قائدا سياسيا يتفوق على نفسه، ويردع أهواءها ورغباتها، ويؤدي عمله القيادي بضمير حيّ، هذا هو بالتحديد التشخيص الصحيح والسليم الذي يحتاجه العراق كي يتخلص من مرضه، بل من سلسلة الأمراض التي تنخر روحه وجسده.

وحين نشرع في فحص المزايا والإخفاقات لدى الشعوب، سنلاحظ توافر المزايا الجيدة لدى الشعب المتقدم وخاصة لدى الطبقة السياسية التي تحكمه، وفي نفس الوقت سوف نلاحظ الإخفاقات تتلبس الطبقة السياسية في الشعب المتخلف، هذه هي أسرع وأبسط مقارنة يمكن أن تحدث بين شعبين، أحدهما ينعم بمزايا التقدم، والآخر يتخبط في وحل الإخفاق.

وهكذا بات الطريق واضحا للجميع، لاسيما لمن يهمهم الأمر أكثر من سواهم، فإذا كان السياسيون العراقيون يمتلكون الحرص الكافي على شعبهم وبلدهم، فها أن الأمور بانت أمامهم، وهذا يعني أنهم سبب ما يعانيه العراق من مشكلات وأمراض، وأن صحوتهم وعودة الضمير السياسي الجمعي إلى جادة الصواب كفيلة بإنقاذ البلد من أزماته المتشعبة.

هل يتحلّى ساستنا بالرقيب العادل؟

في حين أن المزايا معروفة لنا جميعا، وكثيرا ما نتحدث عنها ونشير إليها ونضرب الأمثلة عنها، لاسيما أننا نتحدث كثيرا عن الخطوات العملية الصحيحة والوعود المخمّلية، لكن قادتنا لا يسعون إليها بجدية ولا يهمهم تحقيقها أصلا، فالوعود هي السلالم التي يصعدون من خلالها إلى مناصبهم في البرلمان أو الكابينة الوزارية والدرجات الخاصة.

أي أنهم ببساطة، سياسيون ينقصهم الضمير الفاعل، لأنه الرقيب الحي الذي يحمله السياسيون المتفوقون على أنفسهم فقط، وهؤلاء لن يرضخوا لرغباتهم وأهوائهم، بل يتحكمون بأنفسهم وليس العكس، هؤلاء هم السياسيون الناجحون، أصحاب الضمير العادل والرقيب الفاعل.

لذا نحن نحتاج إلى قادة سياسيين لا تقودهم أنفسهم كما تشتهي هي، نريد سياسيين هم الذين يقودون أنفسهم ويوجهونها لصالح الشعب والبلد، إذا تحققت هذه الخطوة، سوف يستعيد العراق عافيته في غضون أشهر أو سنوات قليلة، كونه بلد فيه المقومات المتكاملة التي تسمح في بناء دولة مدنية متطورة.

من أخطر السياسات التي اتبعتها الطبقة السياسية الحاكمة طرد الكفاءات بعد إهمالها وتهميشها، بدلا من إيقاظ الذات وخدمة البلاد وردع النفس، أما لماذا أصبحت طاردة للمتفوقين وأصحاب الكفاءات، فهذا أمر واضح وأسبابه معروفة جدا، لان المتفوق يشكل خطرا على غير الموهوبين الذين يحتلون المناصب والوظائف بالتزوير والتملق.

لاسيما أننا كعراقيين عشنا في ظل حكومات هي نفسها لا تحب التفوق، إلا إذا كان يعمل في اتجاه تثبيت السلطة وحمايتها، أما البحث عن قادة يتفوقون على أنفسهم فهو أمر يبدو ضمن قائمة الأحلام المؤجلة! مع انه العلاج الذي يحتاجه العراق والعراقيون الآن.

الخلاصة لم يعد الأمر قابلا للصمت، أو غض الطرف، حتى الساسة أنفسهم عرفوا الآن بعد موجات الاحتجاج والاعتصام المتلاحقة، ومن ثم مؤشرات العصيان المدني، كل هذه الأمور تستدعي أن تصحو الطبقة السياسية من سباتها وغفوتها، وعليها أن تستعيد صحوة الضمير الجمعي.

ليس أمام قادة العراق اليوم سوى أن تتوافر لديهم الإرادة القوية القادرة على معالجة أوضاع العراق، والنهوض به، ومعالجة أمراضه وأزماته المتشعبة، وهو هدف ضخم كبير ومصيري لا يمكن تحقيقه دون أن تسعى الأحزاب والساسة جميعا إلى إيقاظ الضمير الجمعي، فهو وحده القادر على تصحيح المسار وإنقاذ البلاد من لحظة مصيرية يمكن أن تطيح به إلى الأبد، أو تجعله يرتقي سكة الحياة الحرة الكريمة.

اضف تعليق