q
الدولة الحضارية الحديثة مفهوم متعلق بالاداء، لكن فلسفتها تقوم على الاستثمار الافضل لعناصر المركب الحضاري الخمسة، اي الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل، في توفير الحياة الطيبة للناس، اي السعادة القائمة على اساس العدل والمساواة والحرية والامان والرخاء. وهذه امور مرتبطة بالاداء، وكنت ازعم، وما زلت، وان صيغة الدولة الحضارية الحديثة...

شعرت بالارتياح وانا اقرأ مقال الكاتب الاميركي فرانسيس فوكوياما الذي يتحدث فيه عن اداء الحكومات الرأسمالية والحكومات غير الرأسمالية، فيما يتعلق بالهجوم العالمي الذي شنه فايروس كورونا على دول العالم المختلفة بغض النظر عن اسمائها وعناوين انظمتها السياسية، ولاحظ فوكوياما ان عناوين هذه الانظمة لم تكن هي العامل الاساسي في رد فعلها على الفايروس، وانما قدرتها على الاداء، ومقدار ثقة شعوبها بها.

والعبارة التي اثارت فرحي أكثر من غيرها هي قوله: "لن يكون المحدد الحاسم في الأداء هو نوع النظام، ولكن قدرة الدولة، وفوق كل شيء، الثقة في الحكومة"، ومما بينه فوكوياما ان جميع الأنظمة السياسية تحتاج إلى تفويض السلطة التقديرية للسلطات التنفيذية، وخاصة في أوقات الأزمات حيث لا يمكن لأية مجموعة من القوانين أو القواعد الموجودة مسبقا توقع جميع الحالات الجديدة والمتغيرة بسرعة التي ستواجهها البلدان. تحدد قدرة الأشخاص في القمة، وحكمهم، ما إذا كانت النتائج جيدة أم سيئة.

وقال انه في صنع هذا التفويض إلى السلطة التنفيذية، فإن الثقة هي السلعة الوحيدة الأكثر أهمية التي ستحدد مصير المجتمع. في الانظمة الديمقراطية كما في الانظمة الديكتاتورية، على المواطنين أن يعتقدوا أن السلطة التنفيذية تعرف ما تفعله.

واشار الى ان الثقة مبنية على أساسين؛ أولاً، يجب أن يعتقد المواطنون أن حكومتهم لديها الخبرة والمعرفة التقنية والقدرة والحياد لاتخاذ أفضل الأحكام المتاحة. تتعلق القدرة ببساطة بالحكومة التي لديها عدد كاف من الأشخاص الذين لديهم التدريب والمهارات المناسبة للقيام بالمهام الموكلة إليهم، من رجال الإطفاء المحليين ورجال الشرطة والعاملين الصحيين إلى المسؤولين التنفيذيين الحكوميين الذين يتخذون قرارات عالية المستوى حول قضايا مثل الحجر الصحي وعمليات الإنقاذ. اما الأساس الثاني فهو الثقة في رأس النظام اي رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء. وفي حالتنا العراقية تتعلق الثقة بما يعرف بالرئاسات الثلاث التي تشكل راس الهرم السلطوي في الدولة.

واختتم فوكوياما مقالته بالقول: "ما يهم في النهاية ليس نوع النظام، ولكن ما إذا كان المواطنون يثقون في قادتهم، وما إذا كان هؤلاء القادة يرأسون دولة كفؤة وفعالة".

ذكرتني هذه الفقرة بما كان يقوله الناس لي في بداية دعوتي الى اقامة دولة حضارية حديثة في العراق. فقد كان تفكير بعض المعلقين منصبا، بل محصور في نوعية هذه الدولة او عنوانها، وهل هي رأسمالية ام اشتراكية، دينية ام علمانية، وغير ذلك من الثنائيات المتقابلة المستقطبة التي تقيد حركة الفكر. كان هؤلاء اسرى هذه الثنائيات ولا يستطيعون التفكير خارجها، بل ان بعض الاكاديميين لم يكونوا قادرين على الخروج من العناوين "المقدسة" لعناوين الدول التي اعتادوا على دراستها او تدريسها ضمن مقررات العلوم السياسية والقانون الدستوري في الجامعات. وكانوا يقولون لي ان هذا العنوان، اي: الدولة الحضارية الحديثة، غير موجود في كتبهم "المقدسة"! وكأن لسان حالهم يقول لي لا نجد ما تقوله في كتب الاولين!

الدولة الحضارية الحديثة مفهوم متعلق بالاداء، لكن فلسفتها تقوم على الاستثمار الافضل لعناصر المركب الحضاري الخمسة، اي الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل، في توفير الحياة الطيبة للناس، اي السعادة القائمة على اساس العدل والمساواة والحرية والامان والرخاء. وهذه امور مرتبطة بالاداء، وكنت ازعم، وما زلت، ان صيغة الدولة الحضارية الحديثة، وانا اجد اكثر من ٢٠ نموذجا لها في العالم الان، تحقق افضل اداء محقق لهذه النتائج المرغوبة. ومعلوم ان حسن الاداء، وقدرته على الانتاج، سوف يكون الاساس المتين لبناء ثقة الناس بالدولة والحكومة و"الرئاسات الثلاث"، على المستوى العراقي!.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق