q
تختزن الثقافات الإنسانية، طاقة هائلة للتواصل مع الآخرين، وذلك لأنها عبارة عن مجموعة القيم والمعتقدات والاتجاهات والعواطف التي تخلق معنى محددا على العملية الاجتماعية والحضارية. من هنا فإن الثقافة من الروافد الأساسية للتواصل بين بني البشر وذلك للتعارف، وإغناء الخبرات والتجارب الإنسانية، وتضمين حركة التنمية

تختزن الثقافات الإنسانية، طاقة هائلة للتواصل مع الآخرين، وذلك لأنها عبارة عن مجموعة القيم والمعتقدات والاتجاهات والعواطف التي تخلق معنى محددا على العملية الاجتماعية والحضارية.

من هنا فإن الثقافة من الروافد الأساسية للتواصل بين بني البشر وذلك للتعارف، وإغناء الخبرات والتجارب الإنسانية، وتضمين حركة التنمية بمضامين حضارية، وذات آفاق إنسانية.

وانطلاقا من أهمية الثقافة في التواصل الإنساني، ومشروعات التنمية انطلق الكاتب الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم في كتابه الموسوم بـ (الثقافة وإشكالية التواصل الثقافي في مجتمعات الخليج العربي) في رسم معالم ووظائف الثقافة في هذا المجال. إذ يقول: هذا الغياب (البعد الثقافي في التنمية) يمثل صورة مكفهرة حقا، وتبعث على الكثير من التشاؤم ولكنها تمتثل أمامنا بقوة ونحن نتحدث عن الواقع الثقافي في دول المنطقة أو عن التنمية الثقافية وأساليب وخطط التواصل الثقافي، ولا نعتمد النظر إلى هذا الجانب المكفهر من هذا الواقع من أجل إشباع الرغبة في النقد والمعرضة ولكن من أجل إرضاء مطالب المصلحة العامة/القومية التي تشترط أول ما تشترط أعمال شروط البحث عن الحقيقة من غير مراهنة لأحد أو الولاء لمصلحة فردية، وهذه رغبة طبيعية لا ينبغي التشكيك في نوايا المثقفين حولها لأنها تنطلق لديهم من الإحساس بضرورة أن يكونوا عناصر فاعلة، منتجة ومشاركة في بناء الإنسان وفي تحديد احتياجاته الفكرية والروحية.

ولا يعني ذلك سوى وضوح الحقيقة التالية وهي أن التخطيط للثقافة ضرورة تاريخية من أجل أن يكون للإنسان في هذه المنطقة يد أقوى في البناء والعمل والتغيير وخاصة في الفترة الراهنة التي يتلقى فيها النفط أعنف الضربات في السوق العالمية دون أن تنبئ جميع المؤشرات عن إمكانية استعادة النفط لسنوات الازدهار، وبسبب ذلك فقد بدأت نذر المستقبل تهدد وجودنا وأمننا، فقد كان يفترض لهذا النفط أن يطلق جميع إمكانياتنا الثقافية والحضارية ويوظف مكاسبنا الوطنية والقومية في حين أنه أطلق إمكانيات العالم الخارجي ضدنا ووظف إمكانياتنا الداخلية لضرب حركة القوى الاجتماعية في ظروف متعددة وحالكة السواد (الخمسينات ـ الستينات) وأودع في داخلنا التواكل والرغبة العنيفة في الاستهلاك، والاستعراض واستمراء مظاهر الرفاه.. وكل ذلك لا يعني سوى أننا في مرحلة تاريخية ينبغي فيها ألا تنصرف بصيرتنا النقدية عن الصورة المكفهرة المتشائمة، بل ينبغي أن نحدّق ونتأمل فيها كثيرا كي نكون قادرين على التفكير، والتخطيط في كيفية إطلاق إمكانياتنا وطاقاتنا التي نثق ثقة تامة في وجودها وقدرتها على بناء مجتمعنا بناءاً متوازناً.

لذا فإن الخطوة الأولى في طريق توظيف الثقافة وأبعادها وتأثيراتها المجتمعية في حركة التنمية، هو إطلاق الإمكانية الذاتية، وتوظيف الطاقة الحيوية التي يختزنها الإنسان في هذه المنطقة.. وهذا لا يتم في نظر الكاتب إلا من خلال إستراتيجية للنهوض بالمجتمع نهوضا شاملا يكون فيها البعد الثقافي خطاً متقاطعا مع خطوط البعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي والبعد السياسي عن نقطة يتمركز حولها الهدف الإستراتيجي الشامل وهو بناء الإنسان ماديا وفكريا، وإقرار حقوقه الأساسية في التعبير عن رأيه، وصياغة سلوكه، مشاركته وحصوله على المساواة والعدالة والثقافة باعتبارها حقا من حقوقه ومكتسباته الوطنية والقومية.

وحتى يصل المؤلف إلى مفهوم التواصل الثقافي وضرورته وطرائقه ودوره في عملية التنمية، يبدأ الكاتب بدراسة بعنوان (الوضع الثقافي الراهن ـ استبصار لمنظومات الحركة الثقافية في دول الخليج العربي).. جاء فيها: إن محاولتنا في تحديد واقع " الثقافي " في دول الخليج من خلال تحديد مجموعة المنظومات/المشكلات إنما هي محاولة للانحياز منذ البدء نحو ما هو تاريخي ضد ما هو سكوني أو لا تاريخي. وهي محاولة لإيجاد ما يمكن تسميته بالنسق وراء تراكمات الخبرة الثقافية في دول المنطقة، وربما كانت معالجة الواقع الثقافي بهذا النهج لا تقل ملاءمة، وإصابة عن نهج آخر ما دامت مقاصد المعالجة تنحصر في البحث عن صيغة للعمل الثقافي المشترك: ذلك أن إيجاد صيغة من هذا القبيل لا يمكن لها أن ترتكز على طبيعة المنظومات والفروض المتصارعة تناقضاً وتغايراً.

والفاعلية في حركة المجتمع بديناميكية مستمرة قادرة على الفوز والانتخاب، وخاصة في إطار الانقسام الجوهري بين ما هو من فكر وإبداع التحرك الشعبي، وما هو من إنفاق وتخطيط التحرك الرسمي. فالتواصل في سياق أي صيغة للثقافة المشتركة لن يكون بكتابة أعمال أدبية مشتركة في ميدان الشعر والمسرح والقصة أو نحو ذلك. كما أنه لن يكون في أي شكل متبسط للتعاون والتبادل بين الخبرات الثقافية، بل إنه بالإمكان أن يكون على نحو آخر أعمق وأبعد أثرا. وخاصة حين يتصل مثلا بمجال تحويل المكاسب الشعبية والحضارية إلى واقع شامل، فاعل، متوثب، قابل للتغيير، واستيعاب جديدات الحياة، واكتشافاتها اليومية ومفاجآتها غير المتوقعة.

وحتى تتسع الرؤية، وتتضح يؤسس المؤلف خمس منظومات جوهرية للتشكيل الثقافي خلال المرحلة التاريخية الراهنة التي تمر بها دول المنطقة.. وهذه المنظومات كالتالي:

منظومة الثقافي السائد والإبداعي المتحرر:

لا يستطيع أي متتبع أو مهتم بالحركة الثقافية في دول الخليج أن ينكر أن جانيا جوهريا يميز مقولاتها وأفكارها وقيمها يكاد لا يغدر أغلب ما يتجه إليه المجتمع العربي في الخليج في ميدان الثقافة وخاصة في الشعر والقصة والمسرحية والنقد والفن التشكيلي. هذا الجانب هو تعارض الخلق والابتكار في سياسية واجتماعية واقتصادية. ويصل هذا التعارض إلى درجة الصراع والتوتر وفقدان الثقة. فالثقافة الإبداعية من خلال تلك الأشكال الأدبية والفنية تبعث مواقفها وانفعالاتها من تفاعلها الحي مع الواقع، وهي غالب مواقف وانفعالات تتلبد بمنهج واقعي وتلتزم بأفكار تقدمية، ربما لا تختلف عن الأفكار السائدة في تيار الواقعية الجديدة في الأدب العربي الحديث ومن الطبيعي لمثل هذا المنهج أن يستفز البحث عن أوجاع المجتمع والإنسان ومعاناة الطبقات الشعبية وإن يدفع نحو التعبير عن النقمة على أرباب الاستقلال الاجتماعي والثورة على الأوضاع السائدة في مختلف أوجه الحياة..

ولسنا في حاجة إلى إثبات أن الصراع بين الثقافي/الشعبي والثقافي الرسمي في مجتمعات الخليج واحد من أهم مظاهر الثقافة المعاصرة في هذه المنطقة منذ بدايات القرن الحالي وحتى هذه الفترة، وتعتبر صيغة هذا الصراع امتداد طبيعي لصيغته في المجتمع العربي الكبير.

ويصل بعد ذلك الكاتب إلى استنتاج مفاده: أن الثقافة الرسمية لم تتفاعل مع شرط الحرية الفردية إلا في حدود ضيقة بحيث بقيت الكثير من متطلباته وضروراته معطلة تجلّت في ضعف إنتاجي شامل يبدأ مند أن تعمل القوانين والمعايير على أن تضع طاقة الاختيار عند الفرد على الهامش وتنتهي إلى تلك الإشكالية المحددة في عدم استيعاب الثقافة الرسمية لشرط الدخول في المجتمع الحديث.

منظومة الالتزام بالمفاهيم الصلبة:

إن الظاهرة الثقافية التي أمامنا قد ترتبط على نحو مباشر بالمشكلة السابقة التي ناقشنا تفاقمها في إطار منظومة الثقافة والحرية، ولكن ارتباطها هنا لا على أن الحرية مجرد حرية التعبير عن شتى الموضوعات والأفكار التي يتواصل معها الفرد/المثقف. وإنما وجه الارتباط هو أن الحرية ينبغي أن تكون ذات حضور حيوي داخل الثقافة الإبداعية، بمعنى أنها تتجرد عن كونها موضوعا للتعبير عن الأشواق والأحلام لتصبح منظومة من الأدوات والأشكال التي يتفتح عليها خيال المبدع. فما هو وجه تمثل هذه الظاهرة الثقافية في الواقع الاجتماعي لدول الخليج وفق ذلك المعنى؟

يتلخص التمثل لتلك الظاهرة في أن جزءا كبيرا من الثقافة في هذه المنطقة إنما يرد بسهولة شديدة إلى نتاج "المفاهيم الصلبة" التي إما أن نستوردها من الثقافة العربية بعد أن تكون قد استهلكت وتهرأت. وإما إننا نستوردها من الثقافة الأجنبية ـ خاصة الأوروبية ـ ضمن ما نستورده في سياق نمط التنمية المتبع في كمجتمعات الخليج. وهو النمط الذي تسيطر عليه مظاهر الإعجاب، والانبهار بكشوفات هذه الثقافة وتقنياتها إلى درجة أصبح المثقف يجد فيها بديلا للجوانب غير المكتملة في شخصيته فكأنه يلوذ إليها، ويتماهى بسيطرتها في إطار الظرف التاريخي للتبعية أو التخلف الثقافي الذي يعيش فيه.

وعلى ضوء هذا: فإن الثقافة في مجتمعاتنا تبدو وكأنها تبتكر لعناصرها وأشكالها وأفكارها أقفاصا من المفاهيم السائدة جنبا إلى جنب مع قفص الواقع المسيّج بالقيود والشروط والأوامر والنواهي.

ونحن نعتقد أن المفاهيم السائدة منظومة من شأنها أن تقّوص دعائم الحرية/التلقائية باعتبارها شرطا إبداعيا في الأساس، وليست شرطا اجتماعيا فحسب، وبالتالي فإنها يمكن أن تقوّص الكثير من إمكانيات التواصل الثقافي أيضا. وما ذلك إلا لأننا نرى المفاهيم السائدة على أنها تخطيط ثقافي فكري يرمي إلى احتضان التجارب الإبداعية في الحياة الثقافية ليجعلها خاضعة لشروطه وقوانينه النظرية/الأيدلوجية من غير أن يكون هذا الخضوع نابعا من ضرورة حتمية الواقع على الدوام.

ومن المؤكد إن أخطر ما كرسته المفاهيم السائدة في حياتنا الثقافية المعاصرة، هو عدم وضوح رؤية الكاتب/المبدع. ذلك إن أي منظومة ثابتة من الأفكار، إنما تعمل على وضع مواقف الكتّاب وعواطفهم في دوائر مغلقة، الأمر إلـي يحول دون تواصلهم في حوار مشترك. وفي ذلك مؤشر على وجود ظاهرتين ثقافيتين خطيرتين وهما:

إن المفاهيم السائدة قد تحوّل منطقة ثقافية بأسرها من كونها ميداناً لإنتاج الثقافة المبدعة إلى كونها ميدانا للاستهلاك والإتباع للشروط السائدة، المستجلبة من الخارج..

عدم حدوث توازن بين وضوح مواقفنا ورؤيتنا الأيدلوجية ووضوح مواقفنا ورؤيتنا على صعيد الثقافة والإبداع.

منظومة الثقافة والماضي التقليدي:

تمثل الأفكار والأشكال التي تنعقد حول الماضي منظومة ثقافية تلعب دورا كبيرا في عملية وصف وتحليل الإشكاليات الجوهرية في الواقع الثقافي الراهن لدول الخليج العربي. ولعل مما يساعد على وصف تلك المنظومة الملاحظة الأساسية التي ساقها أغلب الدارسين لمجتمعات الخليج، والتي تنحصر في مصطلح "الهوة الثقافية" التي تقوم على عدم التوازن بين بطء المتغيرات الحاثة في مجال الثقافة غير المادية في مقابل سرعتها الشديدة في مجال الثقافة المادية..

والجانب المفيد في تجريد المشكلة على هذا النحو هو ما ينطوي عليه الوصف/المصطلح من نقد لظواهر التطور التكنولوجي المتسارعة، والتي تنقل بشكل مبتور من حضارة دون الرأسمالية المتقدمة من غير أن يهيأ لها المناخ الاجتماعي والثقافي الذي يساعد على تمثل ردود أفعالها دون أن يتعرض المجتمع للإجهاد والقلق. ومن ناحية ثانية فإن التجريد السابق يكشف عن عمق ارتباط مجتمعاتنا بتقاليد الماضي ومعاييره إلى الدرجة التي جعلته غير قابل للانهيار التام أمام ضربات الثقافة الجديدة التي أتت بها على نحو متسارع طوارئ الاقتصاد والتكنولوجيا.. والوجه الأعمق لهذه المشكلة ينجلي في أن العلاقة الجدلية بين هذين القطبين قد خلف لنا في فترة قصيرة من الزمن (لا تتجاوز الثلاثة عقود الأخيرة) انقساما حادا في كل جزء من المركب الثقافي العام..

منظومة التنميات المعزولة عن الثقافة:

حيث النظرة الأحادية لمفهوم التنمية، تلك النظرة التي جعلت التخطيط الرسمي في دول المنطقة يلهث وراء خطط تنموية متمفصلة عن التخطيط الشامل للتنمية الوطنية (النهوض الشامل بالمجتمع) ولست أبالغ إن قلت بأن مصدر ذلك ليس في مجرد سوء الفهم لعملية التنمية، وإنما في تبعية حركة التنمية في مجتمعاتنا لمطالب العالم الرأسمالي بدلا من أن تكون ملبية - أساسا - مطالب الواقع الاجتماعي المتخلف وحاجاته التي لا تكف عن التوسع والاطراد. وتنعكس التنميات المتمفصلة على طبيعة الأفكار والقيم والعناصر المتوالدة في إنتاج الثقافة.

وقد أنبتت هذه السياسات في السنوات الأخيرة ثقافة مغتربة قوامها العناصر التالية:

الانفصال عن أسس الوعي القومي، وروح الوطنية انفصالا يصل إلى درجة تنكر الأجهزة والمؤسسات الرسمية لتشكيلات الثقافة الجديدة في ميدان الشعر والقصة و والمسرحية، واعتبار أصواتها عابثين بالأدب متطفلين عليه وقد ترجمت وسائل الإعلام الرسمية هذه النظرة بتعتيمتها التام على النتاج الأدبي الجديد، وبتضييقها مجالات نشره، وسبل توزيعه وخاصة في الصحافة اليومية.

استغلال الفنون والآداب استغلالا سيئا لصالح نمط الحياة الاستهلاكية هذا الاستغلال عطل الاشتغال بالإبداع اشتغالا جادا، وفتح جميع الأبواب للقرصنة والاختلاس من الثقافة الشعبية أو من إبداع الآخرين أو لإنتاج ثقافة متآلفة مع نمط الاستهلاك ومتواصلة معه.

عزلة الكتاب عن السوق الاستهلاكية، لأن الكتاب واحد من رموز الثقافة الوطنية المحلية والقومية التي ترفد من الاتجاه المضاد لنمط التنمية المفروضة علينا من الخارج. لذات فقد حاصرته أدوات هذه التنمية بمزيد من استعراض ظواهر النمو الاقتصادي، وبمزيد من الاحتفاء بآلات الاستهلاك والترويح لكشوف التكنولوجيا البصرية. وقد بات الكتاب يواجه بنفس الحواجز التي تفصل بين سلسلة التنميات المعزولة عن الثقافة.

تكريس الإعلام الرسمي لسياسات التنمية المعزولة عن التنمية الثقافية. فالإعلام في مجتمعات دول الخليج يلبي مطالب نمط الاستهلاك الذي يغمر حياتنا ولكنه لا يلبي جزءاً من احتياجات المواطن لإشباع نزعات الفردية في تنمية مواهبه وقدرته وإمكانياته في الخلق والابتكار.

منظومة الهوّة بين الثقافي الرسمي والثقافي الشعبي:

ذلك أن التناقض بين الحرية والسلطة، وبين الثقافة والماضي التقليدي وبين السائد والمغاير، وبين الثقافة والتنميات المعزولة إنما يؤكد على وجود ازدواجية ثقافية قوامها الانفصال التام بين مصادر وخصائص وقيم الثقافة الرسمية ومصادر وخصائص وقيم الثقافة الشعبية.

ونحن نذهب إلى أن المصدر الأساسي للثقافة الرسمية، عبارة عن مجموعة من الرواسب الثقافية التي عولجت بنمط التحديث الغربي، الذي لا يمس صميمها بشيء من التغيير الهام، في حين أن المصدر الأساسي للثقافة الشعبية هو الذات الفردية/الجماعية المتحررة المنطلقة من حاجات التجدد الاجتماعي. ومن ثم فإن هذا التناقض يرسم في وضعنا الثقافي الراهن مؤشراً واضحاً لإمكانيات التواصل الثقافي.

وعلى هذا فإن التواصل الثقافي هو تحويل المكاسب القومية/الوطنية إلى مشاريع عملية يلمس المواطن إمكانياتها في إطلاق طاقاته وتغيير حاجاته. وهو قدرة متطورة على الاستفادة مما هو تاريخي/خصوصي في حياة المجتمع سواء عن طريق تفجير ما فيه طاقات الخلق والابتكار التي ينبئ بها لمصلحة شعب المنطقة بأسره، وليس لمصلحة طبقة محددة ببعض الإمتيازات الاجتماعية والاقتصادية، أو عن طريق توظيف ما هو تاريخي/خصوصي مشترك في إزاحة جميع الآثار الانفصالية، كأن تتحول الإستقلالات المتعددة إلى استقلال واحد وكأن، تتجه العملية الإعلامية إلى التكامل في إطار إستراتيجية إعلامية موحدة وتتجه وسائل الاتصال إلى القضاء على حواجز الماء والصحراء.

أما الفصل الثاني للكتاب فكان تحت عنوان (التواصل الثقافي في دول الخليج العربي ـ نحو ثقافة وطنية مستقلة وتنمية ثقافية شاملة).

وحاول المؤلف في بداية هذا الفصل، أن مفهوم التواصل الثقافي الذي قال فيه: أن التواصل الثقافي الذي نعنيه ليس هو ذلك الذي يصب في معنى الاستمرار والامتداد في عملية قوامها انتقال السمات الثقافية من جيل إلى آخر وفق سلسلة ما كما تقرر نظرية التطور، وإنما التواصل الذي نعنيه هو عملية شاملة قوامها تماسك المجتمع، والتئام أجزائه، ووحدة أهدافه وتشابه عناصره الثقافية، واتصال أنماطه الاجتماعية، وهذه العملية الشاملة الهائلة لا يمكن التخطيط لجماعها عادة، وإنما يجري الكثير منها وفق ما هو كائن متحقق في المجتمع من مظاهر التماسك. وعوامل الوحدة والانسجام، بمعنى أن جانبا كبيرا منها إنما يحجب بصورة تلقائية دون تخطيط مسبق.. وهذا المعنى الذي نؤكده لـ (التواصل) إنما نستمده من مادة فعل اللفظة العربية (وصل) الذي تؤكد أغلب تقلباته المعجمية على معنى ضم الشيء بالشيء وجمعه ولأمه وعدم تصارمه.

ولا نعني بـ (الثقافي) غير المعنى الشامل للثقافة، المعنى المفتوح الذي يستوعب مجموعة من الأفكار والقيم والمعايير والأشكال.. الخ. التي قد تنعكس في قصيدة أو قصة أو مسرحية أو كتاب أو عنصر من عناصر التراث.. وقد تنعكس في أي تشكيل فني أو في أي تصريح أو تشريع أو مطبوع رسمي.

وانطلاقا من هذا المعنى والفهم لمصطلح التواصل الثقافي. يحدد الكاتب مفهوم التواصل الثقافي من خلال تحديد خصوصية دلالة هذا المصطلح من ناحية، ومن منطلقاته الشاملة من ناحية ثانية.

وتبرز خصوصية مصطلح التواصل الثقافي في أربع نقاط، تسهم جميعا في تحديد مفهومه تحديدا واضحا:

دلالته الشاملة المستوعبة لأغلب مفهومات العمل الثقافي المشترك، التعاون، التكامل الثقافي، التفاعل الثقافي.. الخ.

دلالته على عنصري التخطيط والتلقائية بسبب استيعابه لما هو متواصل في مؤشرات الواقع الطبيعي في تاريخ الثقافة، أو ما هو متواصل في مؤشرات خطط التنمية المعمول بها في المجتمع.

استيعاب هذا المصطلح لجميع إشكاليات المجتمع الحديث، وذلك لارتباط مؤشرات التواصل الثقافي بالبنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهو يرتبط بمصلحة الفرد والمجموعة، وبالذاتي والموضوعي، وبالرسمي وغير الرسمي وباختصار فإن البحث في قضايا التواصل الثقافي بحث في قضايا مجتمعنا الحديث.

استيعاب هذا المصطلح للدور الوظيفي للثقافة نظرا لأنه يربط الثقافة بوظيفة التواصل، وهي وظيفة إنسانية، ولا يختلف عليها اثنان.

أما أبعاد التواصل الثقافي فهي متعددة، محورها الإنسان المتفاعل مع عناصر الثقافة لدرجة يبدو فيها (التواصل الثقافي) هو آلة هذا الحور ومحركه الباعث لديه حالات التوازن أو التكامل الثقافي.. ويمكننا تحديد هذه الأبعاد في الآتي:

التفاعل بين الإنسان وروابط الثقافة القومية يعتبر منطلقا أساسا في عملية التواصل الثقافي، قوامه إدراك الإنسان لكيفية الاستفادة من العناصر المشتركة في الثقافة القومية من أجل مقاومة أي شكل من أشكال التصرم والانعزال وأهم الروابط التي نعنيها: (اللغة القومية – التراث – الدين).. وهي عوامل تؤسس لقيام البيئة المناسبة لتحويل عملية التواصل الثقافي إلى عملية تلقائية تتضمنها جميع عناصر وأشكال الثقافة دون الحاجة إلى الخطط والبرامج المباشرة.

التكامل الثقافي بين مجموعة من الأنماط أو التشكيلات الاجتماعية يعتبر منطلقا أساساً في عملية التواصل الثقافي..

يندمج مفهوم التواصل الثقافي أيضا في منطلق الأبعاد الثلاثة المعروفة.. وإن المبدع يتصل بذاته من خلال حوافز ومشاعر شتى أو من خلال حركة داخلية متبلورة في وعيه أو لا وعيه.. ويتصل هذا المبدع أيضا بالواقع الخارجي مشدودا إلى مظاهر عدم الاكتمال في هذا الواقع، ومتواصلا مع عوامل الخلل والقلق من أجل خلق صورة (المثال) أو الصورة الأكثر اكتمالا للواقع.. هذه العملية الشائكة المركبة يبلورها نص الإبداع بوجه خاص الأمر الذي يجعل منه محورا يلعب دورا هائلا في عملية التلقي والاتصال. ذلك أن وجود المتلقي يجعل المبدع – بالضرورة – مشغولا بالكيفية التي سيكون عليها نص الإبداع. لأن هذا النص هو الذي سيقوم بدور التبليغ برسالة النص، أو أنه سيكون محك الاتصال أيا كان شكله وحجمه وطبيعته. من هنا تنشأ علاقة قوية، ومتشعبة بين المبدع (ممثلا في نصه الإبداعي) وبين المتلقي، قد نختلف في فهم طبيعتها أو تفاصيلها الدقيقة، ولكننا لن نختلف في كونها محورا للتواصل بين مصدرين أو مرقعين في ديناميكية الثقافة.

يتبلور مفهوم التواصل الثقافي من منطلق التفاعل الإيجابي والإنساني بين المثقف والمثقف سواء من منطلق التوافق الأيدلوجي أو من منطلق الاختلاف والتناقض الأيدلوجي.

فالتواصل الثقافي قضية أساسية وجوهرية من أجل أمن الإنسان، باعتباره كائنا ثقافيا. وعلى هذا فإنه يكون وسيلة هامة في تغيير المجتمع وازدهاره وأداة قوية من أدوات مقاومة أشكال الاستلاب والغياب الحضاري.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق