q
تجنّب الفلاسفة الخوض في مبحث معنى الوعي واعتبروه من القضايا الفلسفية الشائكة الاشكالية المرتبطة بفلسفة العقل واللغة والتكوين البيولوجي النفسي للإنسان، وعاد رد الاهتمام به مجددا كمبحث فلسفي معّقد مع ظهور الاهتمام بفلسفة اللغة وفلسفة العقل والمعنى في القرن العشرين، وأصبح البحث عن معنى الوعي فلسفيا...

تجنّب الفلاسفة الخوض في مبحث معنى (الوعي) واعتبروه من القضايا الفلسفية الشائكة الاشكالية المرتبطة بفلسفة العقل واللغة والتكوين البيولوجي النفسي للإنسان، وعاد رد الاهتمام به مجددا كمبحث فلسفي معّقد مع ظهور الاهتمام بفلسفة اللغة وفلسفة العقل والمعنى في القرن العشرين. وأصبح البحث عن معنى الوعي فلسفيا لا يقل أهمية ولا أمكانية انفصاله عن العناية بفلسفة العقل واللغة في نظرية المعنى.

اللغة والفكر لا يحضران سوّية ألا في محاولة تنفيذ إيعازات مصنع الحيوية البشرية في الاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به عقليا واكتملت مهمة أعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء.

بمعنى أن ادراك ووعي العقل للاشياء ليس لمجرد أدراكها ومعرفتها ولكن لهدف تخليقها من جديد حسب مقولات العقل التجديدية لها كما يذهب له كانط أن كل مدرك عقلي زمانا ومكانا هو موضوع خاضع لمقولات العقل في تخليقه ثانية بالاضافة وليس خلقه كموجود ثان من جديد فالفكر أعزل عندما يفهمه البعض هو خلق موجودات من عدم سابق على موجودات متعينة انطولوجيا.

لذا أرتبط الوعي قصديا بهدف مدرك يروم تحققه مسبقا وكان فرانز برينتانو (1838 – 1917) هو الفيلسوف الذي يرجع له الفضل الاول في بذره البذرة الاولى التي تجاوز بها مثالية الوعي عند ديكارت وأخذ بالوعي القصدي عنه تلامذته أقطاب الفلسفة الوجودية هوسرل وسارتر ومن قبلهما برجسون وأختتم هذا المبحث الفلسفي الاشكالي جون سيرل الفيلسوف الامريكي الذي تقوم فلسفته على الوعي القصدي حصرا في القرن العشرين الذي يرجع الفضل له في تثويره الاهتمام بالوعي وماهيته وكيف نعرفه.

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له فلسفة اللغة وجميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز أدراك العقل للأشياء التفريق بينهما أي بين الفكر واللغة وبينهما وبين الوعي أيضا رغم ترابطهم ثلاثتهم ضمن منظومة الادراك العقلي جميعا كحلقات لا يمكن انفراط واحدة منها كي لا تسبب شللا تاما في أدراك العقل المنّظم للأشياء.

وهل الفكر واللغة والوعي تحمل مدلولات فلسفية منفصلة ومختلفة خارج منظومة العقل الادراكية؟ أذا كانت هذه المفردات تحمل منفردة مدلولات متباينة مختلفة في التعبير عن الموضوع الواحد بأكثر من أدراك وتأويل واحد؟ وهل التفريق بين الفكر واللغة والوعي والعقل هو لغرض مصطلحي مجازي غير حقيقي ولا واقعي في التطبيق؟.

بالحقيقة التي ليس بالمستطاع القفز فوقها هو نعم يكون التفريق بين الحواس والوعي والذهن والجهاز العصبي واخيرا العقل هو لمقتضيات التفلسف المصطلحي على حساب منظومة العقل البيولوجية كما يعرفها العلم وليس الفلسفة.

هنا اللغة والفكر والوعي الملازم لهما في التعبير ليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل أحدهما عن الاخر أي بمعزل اللغة عن الفكر ولا الفكر عن الوعي، أو الفكر عن اللغة لأن في ذلك أستحالة أدراكية تعجيزية للعقل في أمتناع الفكر واللغة والوعي عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا انطولوجيا بوسيلة اللغة التي هي وسيلة نقل تفكير العقل بالاشياء والمواضيع التي يدركها.

أن في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة أن الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، أو أن اللغة هي وعاء الفكر حسب دي سوسير، أو أن اللغة هي بيت الوجود كما عند هيدجر، وأن اللغة مبتدأ ومنتهى أدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي كما هي عند ولفريد سيلارز (1912 – 1989)، جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على أنها فعالية أدراكية عقلية في تحديد الفكرة أو الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم أدراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبير ولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل والوعي وأدراكهما الموجودات والاشياء.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل وعي العقل في تمّثلاته مواضيع الادراك المستمدة من الذاكرة والخيال وتكون اللغة متموضعة خارج العقل حين يكون الموضوع المعبر عنه ماديا في وجوده المستقل في عالم الموجودات والاشياء خارج العقل، عندها في كلتا الحالتين يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة أو الموضوع المعّبر عنه بهما.

فبهما (الفكر واللغة) أصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا و متعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه بمقولات العقل الاثنتي عشر حسب كانط ببعضها وليس بمجملها حسب نوعية الموضوع المدرك عقليا ونوعية تخليقه ثانية بالفكر اللغوي بعد تمثله وعيا ادراكيا، وفي هذا يكون وعي العقل خارجيا أو بالاحرى من أجل فهم الوجود الخارجي في مكوناته المستقلة ليس من أجل معرفتها فقط كما ذكرنا سابقا بل بهدف تغييرها حيث يكون الوعي قصديا.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الصامت بالذهن خياليا أي هو الوعي الصوري اللغوي الاستبطاني في تمّثل موضوعاته، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل في وعيه واقعيا ماديا وموجودا.

وفي الواقع أن هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا بصور لغوية وخارجيا بوسيلة اللغة ايضا، أنما هما في الاصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي أو متخيّل مصدره الذاكرة، أي أن العقل والوعي واللغة والفكر يجمعهم جميعا (وحدة الموضوع) المدرك لشيء في زمن واحد وهكذا هي الحال في تناول أي موضوع أو شيء من موجودات العالم الخارجي المادي أو خيالي مصدره الذاكرة.

نذّكر أن فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة، بأعتبار اللغة هي فعالية العقل في تعيين أدراكاته للموجودات والاشياء الخارجية. كذلك يكون العقل والوعي هما وجهين لعملة واحدة ايضا.

نأتي الآن الى معالجة أصل أمكانية فصل الفكر عن اللغة أو عن الوعي، على أنها أستحالة أدراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في أستقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك وأعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها بالوعي العقلي، أو لم يدركها في وجودها المستقل التي أيضا تستطيع الحواس و اللغة التعبير عنها وهذا لا يتم من غير الوعي العقلي الادراكي لموضوعه وبغير ذلك لا تمتلك اللغة فاعلية التعبير عن الموضوع وكذا الحال مع الحواس في أدراكها الموجودات فلا قيمة لها من غير مرجعية أسنادها بمدركات العقل فالحواس تدرك المحسوسات على وفق منظومة الجهاز العصبي التي ترتبط بالدماغ الذي هو جزء العقل الفاعل بالادراك، كما أن الحواس لا تستطيع التعبير عن واقع الاشياء دونما وصاية العقل عليها وتوجيهها.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، أي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فأن العقل وسيلة تفكيره هو الفكر الصامت ذاته فقط ولا يحتاج اللغة تعبيرا خارجيا عن موضوع تفكيره الا على أنها جزء من الفكر كتصور لغوي فالوعي الادراكي يتمثل الموجودات بصور وعلامات ومرموزات اللغة التي هي جميعها تجريد ذهني يعبّر عن موجودات العالم الخارجي وعن موضوعات الخيال الداخلية.

وملازمة الفكر الذي هو وسيلة العقل في الادراك غير المنفصل عن تعبير اللغة فاللغة والفكر وجهان لعملة واحدة في ادراك العقل للاشياء والموجودات في العالم الخارجي، خارج الدماغ أو العقل في وجود الاشياء مستقلة كموجودات، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه ثانية، فلا يدرك الموضوع أو الشيء خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر تواصليا من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.وبنفس الآلية يكون تفكير العقل بمواضيع الخيال في تمثُلها صمتا صوريا لغويا قبل نقلها لغة مكتوبة أو لغة مسموعة أو لغة صامتة كما في الفنون التشكيلية.

وعندما يتجسد ويتّعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا أو بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية أو المكتوبة بخلاف مواضيع (الخيال والذاكرة) في الذهن، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات أهمية كبيرة فيها، ولكن تبقى اللغة في أثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها بأولويتها التعبير عن الموجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة أدراك الحس والعقل لها بعد تخليقها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات في العالم الخارجي.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون أدراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة عنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن العقل، وأيضا من الفكر واللغة. وجميعها تشكل منظومة العقل الادراكية للاشياء المادية والمواضيع المتخيّلة عل السواء.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا... فالموضوع المفكّر به صمتا من غير تعبير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل أهمية أنشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

أن اللغة أثناء زمانية تفكير العقل بموضوعه صمتا استبطانيا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل، فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم عنه حضور اللغة الافصاحية عنه ومعه لكنه يلزم حضور الفكر وحده في صمت اللغة الصورية، والتفكير داخل العقل الصامت لا يستطيع التفكير من غير صور لغوية وهذه أشكالية تؤكد أستحالة فصل الفكر عن اللغة بالمطلق والاستحالة القطعية لا في تعبير العقل عن موضوعات أدراكه الخارجية ولا في تعبيره عنها بالفكر الصامت داخله.

وعي الوجود المطلق والموجود يقسّم الفلاسفة الوجود بالنسبة لوعي وادراك العقل الانساني له الى نوعين: الاول الوجود المطلق الذي لا يمكننا الاحاطة به والالمام بحدوده فهو لامتناه غير متعّين فيزيائيا، كما لا يستطيع الانسان بلوغ مدارج متقدمة من الوصول له وتحققه كما يفعل المتصوفة محاولتهم التقرّب درجات في معرفة الخالق كوجود الهي مطلق لا يستطيع الانسان مجاراته في القدرة والامكان، فالوجود المطلق مفهوم ميتافيزيقي غامض ليس سهلا على الوعي الادراكي فهمه أو حيازة بعض صفاته. وهذا المفهوم ذهب له باسكال.

وأشار سارتر الى أهمية تحقيق الانسان لوجوده الخالص الذي هو مطلق وجودي لكنه وجد فيه طريقا مسدودا، فتراجع بالاستعاضة عنه فينامينالوجيا بمفهوم الموجود بذاته (الماهية) أو الجوهر وكذلك في الموجود لذاته والاخرين.

الوجود المطلق بالنسبة للانسان هو وجود ميتافيزيقي غير متحقق فهو ليس مرتبة في الوعي يريد صاحبه بلوغها، بل هو ضياع الوعي في لا محدودية ولا نهائية الوجود المطلق، وفي تعبير هيجل عن المطلق الوجودي (والموجود يجب أن يكون شيئا مستقلا عنا تمام الاستقلال، وفيه لا تقوم الرابطة بيننا وبينه بطريقة ضرورية، وكل ما نستطيع أن نحدد به الوجود المطلق هو أن نقول أنه الهوية الخالصة والسوية المطلقة)، (نقلا عن عبد الرحمن بدوي عن هيجل ص 383 من مؤلفات الشباب).

ثانيا الموجود المحدود، أي الموجود بما هو موجود كائن متعين بالوعي الادراكي له. وهو الموجود الملازم لماهيته غير المدركة أو الوعي بها كموضوع، فالماهية عند الانسان ليست معطى ناجزا حمولة ذاتية وليست موضوعا مدركا من غير صاحبها وأنما هي سيرورة من التكوينات البنائية للذات الانسانية كجوهر يحتجب خلف صفاته الخارجية التي هي مدرك حسّي للغير بخلاف الماهية عن الصفات فهي مدرك شعوري للفرد في وعيه لذاته.

شعور الانسان بوجوده هو شعور بذاته كجوهر يحمل صفات وماهية مميزة عن غيره، ويكون أدراك صفاته متاحا لغيره دونما أدراك ماهيته من غيره نوعه الذي هو الانسان الاخر، فماهية الانسان تبلور تطوري بنائي مستمر من التكوين المحكوم بالزمن التغييري التراكمي والنوعي معا الذي هو الحياة التي يحياها الفرد كخاصية تميزه عن الاخرين.

هل شعور الانسان بذاته شعورا مكانيا أم شعورا زمانيا أم كليهما معا؟، كنا اشرنا في سطور سابقة حين يشعر الانسان بذاته كصفات وماهية، تكون الصفات الخارجية موضوعا ادراكيا له ولغيره من نوعه، ويكون الادراك زمانيا – مكانيا مشتركا لا يمكننا الفصل بينهما فما هو مدرك مكانا يلزم عنه أن يكون مدركا زمانا في نفس الوقت والمكان والعكس صحيح ايضا.

فالموجود المدرك مكانا هو ذاته الموجود المدرك زمانا، والموجود مكانا يتعذر ادراكه عقليا من غير ملازمة الزمنية لادراكه، ادراك الشيء ليس معرفة خلقه من جديد، فالشيء الموجود يحتفظ على الدوام بوجوده المستقل في عالم الاشياء ولا تطاله مدركاتنا ألا بتوفر وعي قصدي يستهدفه بالمعرفة ويبقى موجودا مستقلا في حال تغاضينا عن أدراكه ومحاولة معرفته.

أما ادراك الماهية خارج الادراك الذاتي فيكون غير متحقق، فالماهية هي غير الصفات البائنة خارجيا التي يطالها الادراك زمانيا ومكانيا ولا يطال الماهية فهي سيرورة من التكوين البنائي الذاتي للانسان الفرد لوحده دون غيره أي الماهية أو الجوهر الانساني ليست موضوعا لوعي ادراكي بل مفهوم تجريدي.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق