q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

إلى من يلجأ الناس في الشدائد؟

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-

إن جملة واحدة يطلقها المواطن تعجز الحكومة عن الرد عليها؛ انا على باب الله، فهي الجملة التي يطلقها من يريد العودة الى متجره ومحل كسب لقمة عيشه، فيما تصر الجهات المختصة على تطبيق اجراءات الحظر، في مشهد يشبه بـ حوار الطرشان، بينما الحلول سهلة...

مقدمة:

في العالم ثمة نظامان يحكمان العلاقة بين المجتمع والدولة؛ الاول: يسلب المواطن حريته في التفكير والتملك وتجعل منه موظفاً لدى الدولة، فهي التي تتكفل بعيشه وتوفير مستلزمات حياته. والنمط الثاني: تطلق العنان لحرية المواطن في العمل والتفكير والتملك وكل شيء، وتبشر بفرص الإثراء والنمو من خلال الاستفادة مما توفره التقنيات الحديثة وما توصل اليه العلم الحديث، لذا فان المواطن في هذه البلاد يعمل "موظفاً لدى الآلة" من أجل الحصول على الربح الأكثر حسب الجهد والوقت المبذولين.

أما النظام الاسلامي فانه يطمئن الانسان –في كل مكان- على أنه يترك سدى في الشدائد والمحن، وأنه مشمول برعاية مؤسساتية في جميع شؤون حياته، وفق قانون الحقوق والواجبات، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في هذا المقطع الصوتي من محاضرة حول الاكتفاء الذاتي لمشروع النهضة الاسلامية العالمية، عادّاً الوقوف الى جانب الناس في الازمات والملمّات، أحد عوامل نجاح الحركة الاسلامية العالمية.

لنقرأ ثم نستمع الى ما جاء في هذا المقطع الصوتي:

المساعدة مؤسساتياً

"لابد من احتواء جميع شرائح المجتمع من اجل الاهتمام بمشاكلهم والاستجابة لمطالبهم، من خلال تشكيل نقابات مهنية، للأطباء والمحامين والمهندسين ممن يقدمون الخدمات المجانية لاصدقائهم في الحركة الاسلامية، وجمعيات تعني بتزويج الشباب، وأخرى تعني بأمور عوائل المطاردين والمعتقلين والشهداء على يد السلطة الديكتاتورية، وتشكيل صناديق للقرض الحسن، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية والخيرية.

وعن أهمية قضاء حاجة انسان مؤمن جاء في الرواية أن رجلين سافرا الى الحج، وقد عزما على زيارة مرقد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ولكن؛ قبل هذا تعرّض الرجلين لوعكة صحية أقعدته عن الحركة ومواصلة المسير الى المدينة المنورة، فطلب الرجل المريض من صديقة البقاء عنده ليأنس به، ولا يكون وحيداً في مرضه، فأبى الصديق إلا أن يذهب الى زيارة مرقد النبي الأكرم، وألا فاتته الفرصة الى أجل غير معلوم، فما كان من الصديق المريض إلا أن ألحّ على صديقه بالبقاء عنده، فما نفع الطلب والرجاء وأصرّ الصديق على زيارة مرقد النبي، و بعد أداء مرسيم الزيارة توجه الرجل (الصديق) الى الامام الصادق، عليه السلام، وطرح عليه هذه المسألة، للتحقق مما اذا كان عمله صحيحاً أم لا. فقال له الامام الصادق، عليه السلام: إن بقاءك الى جانب صديقك المريض أكثر ثوباً عند الله من زيارتك لرسول الله.

وهكذا؛ فان الأئمة الاطهار، عليهم السلام، يوجهون للصداقة الحقيقية التي تلمّ الشمل وتعزز أواصر العلاقة.

اذا كانت الحركة الاسلامية على درجة عالية من العطف، والمودة، والمحبة، والمبادرة لقضاء حوائج بعضهم البعض، فانها تنمو وتتصاعد، ثم تتقدم حتى تكون حركة اسلامية عالمية ذات فروع في كل البلاد الاسلامية وغير الاسلامية، ومن اجل ان تكون مقدمة لتحقيق حكومة ألف مليون مسلم".

الخدمات في ظل حالة الطوارئ

عندما تكون جماهير الأمة في ظروف نفسية ومعيشية غير طبيعية بسبب الحرب، او ضغط السياسات الديكتاتورية، حيث القمع وتكميم الأفواه، وايضاً في ظروف الكوارث الطبيعية، كالتي نعيشها اليوم من جائحة كورونا، فان علاقة القيادة والشريحة المثقفة مع جماهير الامة يجب ان تكون بغير الشكل المخطط له، حيث برامج التوعية والتثقيف، فعندما تكون لقمة الانسان صعبة المنال، وصحته مهددة، فان مستوى القدرة على التفكير بأشياء اخرى ستنخفض بالضرورة، والحديث الشريف يشير الى هذه الحقيقة الانسانية: "من لا معاش له لا معاد له"، فالقضية تأخذ مديات بعيدة الى حد العقيدة والدين، والايمان باليوم الآخر.

نعم؛ لن تغيب الثقافة عن الساحة بأي حال من الاحوال، ولن تتوقف صناعة الوعي التي تساعد الناس على كيفية مواجهة التحديات والتغلب عليها. إنما الأولوية للخدمات بمختلف اشكالها؛ المادية، والمعنوية، للتخفيف من وطأة الازمة عن كاهل الناس، ليس فقط ما يتعلق بالمواد الغذائية والدوائية والمستلزمات الضرورية، إنما بوعي الأزمة ايضاً، ومعرفة كيفية المواجهة، كما يحصل مع الازمة الصحية الخانقة التي تعصف بالعالم أجمع.

سماحة الامام الشيرازي عندما ألقى هذه الكلمة لم تكن الحرب العراقية- الايرانية قد اندلعت، ولم يتذوق الشعبين؛ الايراني والعراقي مرارة آثار الحرب، إنما كان يسلط الضوء على تداعيات المواجهة بين الحركة الاسلامية والنظام الصدامي في سبعينات القرن الماضي، فيوصي بتغطية حاجات الناس المتضررين من هذه المواجهة، لاسيما عوائل المعتقلين والشهداء والسعي لتقديم مختلف أشكال الدعم لهم، وما دعوة النقابات المهنية والمؤسسات الخيرية لمد يد العون لهؤلاء، بل ولسائر افراد المجتمع في تلك الظروف، إلا لتعزيز الثقة بالنفوس، على أن جهودهم وتضحياتهم لن تذهب سدى.

هذا كان في ظل أيام المعارضة، وفي حقبة النظام الديكتاتوري في العراق، كما الحال في جميع البلاد الاسلامية، أما اليوم حيث شهدت معظم هذه البلاد تحولات جذرية قامت على اساسها أنظمة حكم تتبنى "الديمقراطية" والمشاركة السياسية، ومنح افراد الشعب حق انتخاب من يحكمه، فان مهمة الخدمات في ظل الكوارث والشدائد تاخذ صبغة جديدة، و مديات أوسع.

ففي بلد مثل العراق، يُحسد عليه بإجراءاته السريعة والصارمة لمواجهة "كورونا المستجد" في أيامه الاولى، والتفاعل الجيد نسبياً مع القرارات الحكومية في الفترة الماضية بالتزام الحجر المنزلي، وتفاني وتضحيات الكوادر الطبية والصحية، أحرز النسبة الأقل بالاصابات والوفيات مع نسبة أكبر من المتعافين بين الدول المحيطة بنا، فحريّ بالمؤسسات الحكومية، والمؤسسات الخيرية، والثقافية، أن تكافئ الشعب العراقي باجراءات تحفيزية تعزز الثقة والعلاقة فيما بينها وبين مؤسسات الدولة.

ولمن يتحدث عن تراجع الالتزام باجراءات الحجر المنزلي في بعض المدن بالعراق في الايام الاخيرة فان مردّه الى غياب المبادرات التي تحدث عنها الامام الشيرازي منذ اكثر من اربعين عاماً عندما أوصى بعدم ترك الناس في الشدائد ومصيرهم، إنما الوقوف الى جانبهم وتفهّم مشاكلهم التي تفرزها هذه الشدائد، و ابرزها في الوقت الحاضر؛ قلّة ذات اليد عندما وجد عشرات الآلاف من العمال والمهنيين والكسبة انفسهم بلا عمل ولفترة طالت أشهر عدة.

لقد أتخم الناس بكلام الاعلام والصحة والشرطة عن مخاطر العدوى، وضرورة ارتداء الكمام والقفازات والغسل والتعقيم والتعفير، وقبل ذلك كله؛ "خليك بالبيت"، وعدم التنقل بين الاحياء السكنية، فضلاً عن المحافظات، وهو ما لم يعترض عليه أحد، ولكن! لم يسمع الناس أمرين، إلا القليل منهما: تقوية جهاز المناعة في جسم الانسان، من الناحية الصحية، وهو ما يمكن ان تتكفله وسائل الاعلام، وتقوية المؤسسات الخيرية لتغطية اكبر عدد من الشريحة المتضررة من اجراءات الحجر المنزلي.

إن جملة واحدة يطلقها المواطن تعجز الحكومة عن الرد عليها؛ "انا على باب الله"، فهي الجملة التي يطلقها من يريد العودة الى متجره ومحل كسب لقمة عيشه، فيما تصر الجهات المختصة على تطبيق اجراءات الحظر، في مشهد يشبه بـ "حوار الطرشان"، بينما الحلول سهلة، ولا تحتاج الى كثير تكلفة، إنما الى عزيمة وجدّية لانجاز أهم خطوة في هذا الطريق، وهي؛ إعداد قاعدة بيانات للعوائل التي ليس لها راتب شهري من الدولة، ثم احصاء العوائل ذات الدخل المحدود، ومن المؤكد أن ثمة المئات من الشباب المتحفز قادر على هذه المهمة.

إن مهمة التنظير والتحذير ليس ما يحتاجه الناس في ظل أزمة صحية مثل جائحة كورونا المستجد، وانتشار هذا المرض الفتاك، ثم نجد اليوم وقد بلغت العلاقة المختلة مع افراد المجتمع لأن يتخندق هؤلاء ضد الاجراءات الحكومية بالتكذيب والتشكيك، ثم الرد الشديد من الجهات التنفيذية وهي الشرطة، لتشهد الساحة حالة من الشد والجذب بدلاً من التعاون والتواصي في أجواء ودية، وشعور بالمسؤولية الجماعية، وهو ما من شأنه ان يفاقم الوضع الصحي في العراق تحديداً مع استمرار هذه الحالة غير الحضارية التي لا تمت بصلة الى ثقافة مواجهة الازمات بالمرة.

اضف تعليق