q
إن استمرار العقوبات والحصار ضد الشعب السوري يعني استمرار تشريع القسوة وتقنين الوحشية، في عالم يزعم فيها المرتكبون والجناة أنهم يريدون مجتمعاً أكثر عدلاً وتسامحاً وإنسانية، وأختتم ذلك بمقترح لتشريع اتفاقية دولية لمنع معاقبة الشعوب وحصارها اقتصادياً، وهو ما كنت قد دعوت له قبل أكثر من...

بغض النظر عن التقاطعات والاصطفافات السياسية والمواقف المسبقة، تبقى سوريا جرحاً فاغراً، خصوصاً وهي تعاني منذ نحو تسع سنوات من أعمال عنف وإرهاب ونزاع أهلي وحرب خارجية مركّبة، وما زاد من المأساة هو الحصار ونظام العقوبات المشدّد المفروض عليها، واضطرار ملايين البشر النزوح من مناطق سكناهم ومدنهم وقراهم وملايين أخرى إلى طلب اللجوء السياسي وغير السياسي " الإنساني"، وذلك بالارتباط مع محاولة تمزيق النسيج الوطني الاجتماعي وإثارة النعرات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية وتغذية أنواع التعصّب ووليده التطرّف، بتشجيع ودعم من القوى الدولية والإقليمية ولأغراض مختلفة.

وبعيداً عن السياسة وذيولها والاستراتيجيات الكبرى والصغرى، الشاملة والفرعية والمصالح المتشابكة فيها، فإن ما آلت إليه الأوضاع في سوريا يوجع القلب ويرهق النفس، يوجب رد الاعتبار لمنطقة الضمير وإحيائها دون خدر أو ذبول أو خمول، وهي منطقة واضحة في الحق لا لبس فيها ولا غموض ولا تأييد أو تنديد ولا تقديس أو تدنيس، وإنما الانحياز أولاً وأخيراً إلى البشر، الناس، الإنسان، ومنطقة الضمير طاهرة الهدف معيارها الأول والأخير هو الإنسان الذي هو "مقياس كل شيء" على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، لاسيّما حين يختلط الحق بالباطل والأبيض بالأسود والسياسة بالقانون والمصالح بالقيم.

ولكي لا نضيع في التفاصيل الصغيرة ونتيه في دروب السياسة الوعرة وادعاء امتلاك الحقيقة والأفضلية، لا بد من تحديد المعيار الأساسي ووضع الهدف المحوري في الصدارة وذلك بإعلاء شأن الإنسان والدفاع عنه بغض النظر عن أي اعتبار آخر، فسوريا البلد المتمدن والمتحضر في الشرق الأوسط والذي أغنى البشرية منذ آلاف السنين، يعاني اليوم من حرب إبادة ناعمة وطويلة الأمد، مع أن الحرب التمزيقية الداخلية والمتداخلة إقليمياً ودولياً ما تزال مستمرة منذ تسعة أعوام.

وكان الكونغرس الأمريكي قد اقترح قانوناً في العام 2016عُرف باسم "قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين" ونص على فرض عقوبات اقتصادية ومالية وعلمية وتكنولوجية ووضع الرقابة على كل ما يدخل ويخرج من سوريا، وذلك تكراراً لتجربة العراق الذي عانى منها نحو 12 عاماً، أي منذ العام 1991 ولغاية العام 2003، حتى وقع تحت الاحتلال الأمريكي، وما يزال يئن من تلك العقوبات وتأثيراتها، فضلاً عن نتائجها التي تكرّست بالاحتلال.

الجديد في الأمر أن مجلس الشيوخ الأمريكي قد صوّت (17 كانون الأول /ديسمبر/2019) على هذا القانون، الذي حظي بموافقة 86 عضواً، مقابل اعتراض 8 أعضاء فقط، وبالطبع فمجلس الشيوخ يقع تحت هيمنة الجمهوريين، لكن عدداً من الأعضاء الديمقراطيين كان قد صوّت على هذا القانون أيضاً، وبعد أيام صادق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على القانون ضمن إقرار الموازنة المالية للدفاع التي تبلغ 738 مليار دولار أميركي ، وستتخذ إجراءات تنفيذية لتطبيقه في يونيو(حزيران) 2020.

وإذا ما طبقت العقوبات الواردة فيه بالكامل فإن سوريا ستتعرض لحرب إبادة ، تطال نسيجها الاجتماعي والثقافي ووحدتها الكيانية، فضلاً عن إضعاف قدرتها على المواجهة في ظل معاناة تتصاعد طردياً مع استمرار تأثيراتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والتربوية وغيرها، والهدف هو إسقاط التفاحة الناضجة بالأحضان، بعد أن استعصت بالحرب الخشنة والتداخلات الإقليمية والدولية وأعمال الإرهاب والاستباحة التي قامت بها المنظمات الإرهابية .

وإذا كانت واشنطن قد استثنت روسيا سابقاً من عقوباتها وركّزت على إيران وحلفائها، فإن هذا القانون سيضعها في مواجهة مباشرة مع روسيا ومؤسساتها العسكرية،إضافة إلى جهات صناعة الأسلحة وصناعة الطاقة وغيرها.

وحين نقول العودة إلى منطقة الضمير، لكل من يريد الخير لسوريا وشعبها ووحدتها ومستقبلها، خارج دائرة التصنيفات السياسية وخلفياتها وبعيداً عن رأي هذا أو ذاك بالنظام وممارساته وبالمعارضة وسياساتها، عليه أولاً وقبل كل شيء وضع التجربة العراقية نصب عينيه، فبلد مثل العراق تحوّل بفعل نظام العقوبات والحصار الدولي بالتدرج إلى " معسكر لاجئين"، فضلاً عن لاجئين فعليين في أصقاع الدنيا بعد حروب ومغامرات ودمار وحصار واحتلال، وهو ما يُراد لسوريا التي نكاد نسمع طحن عظامها ونرى محاولة تحطيم كرامتها، تمهيداً لتفتيتها وتحويلها إلى دوقيات ومناطقيات وإثنيات وطوائف، ونسف التنوّع الفسيفسائي والموزائيك التعددي بإعلاء شأن "صراع الأقليات" وتحويله إلى واقع قائم وفقاً لنظريات برنارد لويس حول مشروع تقسيم الشرق الأوسط منذ العام 1979 ومشروعي عوديد ينون وإيغال آلون في العام 1982 بتفتيت سوريا تمهيداً لتقسيمها إلى دويلات سنية وعلوية ودرزية وكردية وغير ذلك بما يلحق الضرر بمصالح الشعب السوري ووحدته الوطنية.

ما لم تحققه الحرب يُراد تحقيقه بوسائل الحصار والحرب الناعمة وأساليب الحرب النفسية للتغلغل وإثارة النعرات العنصرية والطائفية والدينية والمناطقية وتشجيع كل ما يساعد على تفتيت المجتمع السوري من داخله، تمهيداً لوضع اليد عليه، وهو الأمر الذي ما يزال العراق يعاني منه، وقد اشتغلت عليه مراكز دراسات وأبحاث وأجهزة دولية عديدة، في مقدمتها مؤسسة راند المقرّبة من CIA، فضلاً عن المساعي الصهيونية المستمرة والعدوان المتكرر وإعلان الرئيس ترامب أن الجولان السوري المحتل هو تحت السيادة الإسرائيلية وجزء من "إسرائيل" تحت عنوان "سياسة الأمر الواقع".

وإذا كان الحديث عن مخرج سياسي وحل رضائي وتوافقي برعاية دولية، سواء جنيف المتعددة أو أستانا أو غيرها مع الأخذ بنظر الاعتبار القرارات الدولية بما فيها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الذي صدر بالإجماع في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2015 والقاضي بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية في سوريا ، فلا بدّ من توافق سوري أولاً وقبل كل شيء يأخذ بنظر الاعتبار الوضع المأسوي الذي يعيشه السوريون ، خصوصاً في ظلّ انهيار سعر الليرة أمام الدولار، فضلاً عن مخلفات العنف والإرهاب لوقف نزيف الدم والحد من المعاناة المتعاظمة وصولاً إلى عملية سياسية تنموية تدرجية ترتكز على الهويّة السورية الوطنية العامة والشاملة والموحدة، مع احترام الخصوصيات القومية والدينية ومراعاة حقوقها السياسية والإدارية والثقافية دستورياً، وبما يتناسب مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي تحرّم استخدام العقوبات والحصار الاقتصادي، خصوصاً حين يستمر لسنوات طويلة، حيث يعتبر هدراً سافراً وصارخاً لحقوق الإنسان ويضاعف من معاناة السكان المدنيين ويزيد من مأساتهم، لأنه سيؤدي إلى التضييق على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبقية الحقوق، فضلاً عن الحقوق السياسية والمدنية في ظل الظروف الاستثنائية ، بحكم الأولويات التي تفرضها الحرب .

إن استمرار الحرب الناعمة ضد سوريا بما فيها الحصار الاقتصادي ضد شعب أعزل يثير الكثير من التساؤلات الأخلاقية أولاً حول "الفضيلة الغربية" و"قيم العالم الحر" و" العالم الجديد"، لاسيّما إزاء أرقام الضحايا المذهلة في هذه "الحرب الصامتة" الأشد إيلاماً وبشاعة، حين يتم التعامل مع معاناة البشر بدم بارد أو ترحيل للذنوب على الآخر، فللآخر ذنوبه، لكن الحكم بهلاك شعب انتظاراً ودون حدود أو آجال يعدّ جريمة كبرى لا يمكن السكوت عنها، والسكوت يعني تواطؤاً، وفقط غلاظ القلوب هم الذين يعتبرون أن "قتل إنسان جريمة أما قتل مليونين فمجرد إحصائية "، علماً بأن بعض الأصوات الأوروبية والأمريكية بدأت تحتج على التأثيرات الخطيرة للعقوبات وتجويع شعب بكامله.

إن تلك الجرائم ترتب مسؤولية دولية جنائية وفقاً للمادة 54 من بروتوكول جنيف الأول لعام 1977 الخاص بـ "حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة"، خصوصاً تجويع السكان المدنيين وترحيلهم ومحاولات تدمير وإتلاف ضرورات بقائهم وحياتهم فضلاً عن تراثهم وذاكرتهم وآثارهم وصروحهم العمرانية التي تشهد لحضاراتهم وتاريخهم. إن تجويع المدنيين بوصفه طريقة في الحرب عمل غير مشروع ولا يمكن تبريره قانونياً، ناهيك عن كونه لا إنسانياً ولا أخلاقياً ولا دينياً ولا تحت أي عنوان.

وخارج نطاق السياسة والانحيازات، فالموقف من الحصار ضد أي شعب وأياً كانت المبررات، لا يمكن تبرئته ، فليس هناك حجة يقبلها العقل البشري السوي تعطي للآخر "حق" قتل شعب أو مجموعة من السكان جوعاً، بل إن ذلك جريمة خطيرة، لأنه يمثل نوعاً من أنواع الإبادة الجماعية الشاملة، بما فيها علاقة الإنسان بحق الحياة والعيش بسلام وهو حق مقدس ويتقدّم على جميع الحقوق.

إن استمرار العقوبات والحصار ضد الشعب السوري يعني استمرار تشريع القسوة وتقنين الوحشية، في عالم يزعم فيها المرتكبون والجناة أنهم يريدون مجتمعاً أكثر عدلاً وتسامحاً وإنسانية، وأختتم ذلك بمقترح لتشريع اتفاقية دولية لمنع معاقبة الشعوب وحصارها اقتصادياً، وهو ما كنت قد دعوت له قبل أكثر من ربع قرن من الزمان، لأنها تدخل في صميم مطالب البلدان النامية وشعوب وأمم وبلدان الجنوب الفقير وعالمنا العربي والإسلامي الأكثر تضرراً من الجميع من استمرار هذا الوضع.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق