q
إسلاميات - القرآن الكريم

طبيعة الدنيا وطبيعة الجنة

من كتاب خواطري عن القرآن

الدنيا أصغر من الإنسان، والإنسان أكبر فلذلك نجد الصراع الدائم، وتنازع البقاء، وتنازع المناصب، والأموال، والنساء، والرغيف، وكل شيء لأن أشياء الدنيا أقل من مطامح الإنسان، إن لم تكن أقل من حاجاته. ولذلك: نجد الإنسان يسعى دائباً بدافع الجوع والفراغ. وأما الآخرة، فهي أكبر من مطامح الإنسان...

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هذا ما تُوعَدُونَ، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا: مَزِيدٌ) ق:31-35

ـ 1 ـ

الدنيا أصغر من الإنسان، والإنسان أكبر. فلذلك: نجد الصراع الدائم، وتنازع البقاء، وتنازع: المناصب، والأموال، والنساء، والرغيف، وكل شيء. لأن أشياء الدنيا أقل من مطامح الإنسان، إن لم تكن أقل من حاجاته. ولذلك: نجد الإنسان يسعى ـ دائباً ـ بدافع الجوع والفراغ.

وأما الآخرة، فهي: أكبر من مطامح الإنسان، فلذلك: لا يكون ـ في الجنة ـ صراع، ولا تنازع، ولا سعي، ولا عمل... إذ لا جوع ولا فراغ، وإنما إمتلاء واستقرار.

أرأيت؟ ـ في المجاعة ـ إذا تراءى رغيف في يد إنسان، كيف يتراكض عدد من الناس، لتقطيعه بين يديه، وإزدراده قبل مضغه! ولكن: ـ في الرخاء ـ يمر الباعة المتجولون على باب دارك، ولكن لا تجد فضولاً للاستماع إلى دعاياتهم، والتطابع إلى بضائِعهم.

أرأيت؟ كيف كنت ـ في مراهقتك ـ تتطلع الى كل ثغر وحاجب! ثم: إنكفأت بعد الزواج، وخاصة: لو كنت متزوجاً عدة زيجات.

هكذا... اليوم ـ لا يتاح لك من الدنيا إلا أقل من جوعاتك الجسدية والنفسية، أي: تقاسم كرة الأرض، أنت وأكثر من خمسة مليارات. فإذا وقع تحت تصرفك، ألف كرة أكبر من كرة الأرض بكل ما عليها، فإنك تشعر بالتخمة وعدم الاحتمال، فلا تطمح إلى التنازع مع غيرك، لتنزع منهم الكرة الواحدة بعد الألف، لأنك تعجز عن استيعاب ما لديك، فلا تجد دافعاً للتفكير بما لدى غيرك.

والحاصل، أن الإنسان كالوعاء: فإذا لم تملأه ما يناسبه، حطمه الفراغ، لإستحالة الخلأ. وإذا ملأته، استوعب واستقر. وإذا وفرت عليه أكثر من ملائه، استقر ولم يستوعب، فساوره شعور دائم بالتقصير تجاه ما لديه، فكان أبعد عن الصراع والنزاع عما لو ملأته ولم توفر عليه.

والإنسان في الدنيا، يجد أقل من ملائته، فيشكو من الفراغ. وفي الآخرة، يوفر عليه أكثر من ملائه، فيشعر بالتقصير الكلي. ولعله عبادة أهل الجنة، لأنه أفضل العبادات. ولكن: قلما يتفق ـ في الدنيا ـ إلا للمعصومين، لأن الإنسان يعاني الشعور بالغبن في الدنيا، وهو لا يتلائم مع الشعور بالتقصير.

صحيح: أن بعض الناس ينالون الكثير... الكثير... والبعض لا ينال حتى القليل... القليل ولكن: هذا... لا يعني أن الذي نال الكثير امتلأت فراغاته، كما لا يعني أن الذي نال القليل له فراغات عتال. ولكن ـ على العموم ـ لا يوجد إنسان تمتلئ فراغاته.

ومن هنا، تأتي فكرة: (الزهد في الدنيا)، إذ ما دام الإنسان لا يمتلئ فلماذا يترك نفسه فريسة الشعور بالغبن، ولا يعللها بالقناعة؟؟!! أو ليس الاكتفاء بالمتاح، أفضل من الصراع على ما لا يتاح؟!

وكمثال لما ذكر، تصوّر إناءاً مساحته متر مكعب: فإذا ألقيت فيه من الماء أقل من متر، تركت فيه فراغاً لا يطاق، وفرضت عليه شعوراً بالغبن والكبرياء. وإذا التقيت فيه متراً كاملاً، لم يشك من الفراغ، ولم يطفح منه الماء. وإذا القيت فيه أكثر من متر، طفح وفاض، أي: فرضت عليه الشعور بالنقص والتقصير.

ـ 2 ـ

والفراغ والجوع يولّدان الشعور بالغبن، لأن كل إنسان يفترض أن من حقه الإمتلاء، من دون أن يقول لنفسه: من أين لك حق الإمتلاء؟ أو: مقابل ماذا تستحق الإمتلاء؟ لأن التعامل الطبيعي، يفرض على كل إنسان أن يأخذ بقدر ما يعطي، فإذا أعطى قليلاً فليس له الحق في أن يأخذ كثيراً. ولكن الذي يعاني من الفراغ، لا يفكر بهذا الأسلوب، وإنما يفكر بأسلوب استحالة الخلأ.

كما انك لو فرغت إناءاً من الهواء، فإنه كيف ينكمش، ويتحكم تحت ضغط الهواءِ الخارج!

أو: إذا ضغطت في إناء من الهواء أكثر من طاقته، فإنه كيف ينفجر تحت ضغط الهواء الخارج! هكذا... الذي يشكو من الفراغ، يفقد توازنه، تماماً... كما أن الذي يشكو من عبءٍ، يفقد توازنه. لو أتيح له أن لا يفقد توازنه، لرأى انه يأخذ من الحياة بمقدار ما يقدم إليها. وإذا كان ما يقدمه إليها قليلاً، فهذا... لا يعني غبنه، بمقدار ما يعني غبن الحياة فيه. لأن الحياة دفعت بكثير من طاقاتها، حتى أنجبته عنصراً متكاملاً، وهو يعاملها كما أو أنجبته عنصراً ناقصاً. فهو الذي يعطل طاقاته من الحياة، وليست الحياة هي التي تعطله.

ـ 3 ـ

ومن الفراغ يتولد الكبرياء، لأن الكبرياء هو: تخيل الفرد أنه أكبر من واقعه. وكل من يشكو من فراغ، يشط به الخيال إلى أنه أكبر من واقعه: فالذي لا يجد كفايته من الطعام، يتخيل انه لو أتيح له الطعام لأكل كثيراً... والظمآن يتخيل أنه لو ورد الماء لشرب أرطالاً عديدة... والمكبل السجين، يتخيل انه يستطيع حكومة الدنيا.

ومن هنا: نجد الذين يعانون من فراغات كثيرة، يصبحون شعراء، لأن ألواناً من الخيال تجنحهم، بينما المترفون لا يجنحون إلى الشعر. لا، لأن الترف يبلد مشاعرهم ـ كما يقول الشعراء، وإنما لأن فراغاتهم أقل من أن تسلمهم للتخيلات.

ـ 4 ـ

وإذا تابعنا هذا الخط ـ في تتبع مولدات الصفات البشرية ـ نجد: أن قصور الدنيا عن تلبية حاجات الإنسان وملء فراغاته، يولد فيه صفات سيئة كثيرة، كما نجد: أن توفر الآخرة على الإنسان، يبعد عنه تلك الصفات السيئة، ولعل الله ـ تبارك وتعالى ـ عندما قال:

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، إِخْواناً ـ عَلى سُرُرٍ ـ مُتَقابِلِينَ) الحجر 47، كان يعني: أنه الله بتوفيره الآخرة أكثر من قدرة الإنسان على استيعاب، يبعد عن الإنسان صفات سيئة، تركزت في عمقه، عندما كان يعاني من قصور الإنسان عن ملء فراغاته.

ـ 5 ـ

هكذا... يمنح الله في الجنة ـ لأهلها ـ ما يشاءون، ويبقى ـ لدى الله ـ المزيد على ما يشاءون، لأنهم لا يستطيعون استيعابها ولا تحملها.

وجاء التعبير: (وَلَدَيْنا)، ليدل على أن الجنة أوسع من مطامح أهلها، ومن قدراتهم الاحتمال. لأن قدرة الاحتمال ـ لدى الإنسان ـ محدودة، فإذا جاءته أشياء أكثر من قدرته على الاحتمال، تصعقه. فكم من أناس أصيبوا بالذهول، أو بالسكتة القلبية، عندما بشروا بأشياء ما كانوا يتوقعونها!

هكذا... لأهل الجنة طاقات محدودة على الاحتمال، فيهبهم الله ـ من الجنة ـ بمقدار طاقاتهم على الاحتمال، ويبقى الجنة أوسع... وأوفر... فينمي طاقاتهم بتدريجية العطاء. حيث يزيد لهم كل يوم جمعة، وتبقى الجنة أوسع... وأوفر... فيبقى الباقي لله، أي: لا يهبه لهم، فكأن الباقي لدى الله وليس لأهل الجنة: (وَلَدَيْنا: مَزِيدٌ!).

اضف تعليق