q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

شهر رمضان فرصة لمكافحة داء الزلل

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

نعم ليس سهلا على النفس أن تطلق سراح حاملها، وتتركه بعيدا حرّا من رغباتها وأهوائها، وهناك من يضعف ويسقط ويستسلم لنفسه وما تريد، لكن يبقى هذا الشهر المبارك فرصتنا التي علينا أن نستثمرها بجدية تامة وإيمان كامل لتشذيب أنفسنا، والارتقاء بمراتبنا كي نصل إلى...

الداء علّة مادية تصيب الجسد، قد تنهي وجوده بعد أن تُلحق به عاهة تعيق دوره في الحياة، لكن هناك داء من نوع ثانٍ، غير مرئي، إنه علّة غير مادية تصيب النفس أو العقل، ونتائجها لا تُرى بالعين، حيث تصيب نفس الإنسان وعقله، فتجعل منه شخصاً كثير الزلّات، ومُبتلى بأنواع الانحرافات بسبب الداء الذي أصاب نفسه وعقله وجعله عرضةً للزلل في أي مكان وزمان.

شهر رمضان يقدم العلاج الشافي لهذا النوع من الأمراض التي قد تفتك بالإنسان، وتسلب منه إنسانيته، وتحيله إلى كائن لا يعرف سوى الجشع والطمع والظلم، لدرجة أن بعض هؤلاء قد لا يعترف ولا يحتكم لـ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهي خريطة عمل واضحة لمن يريد أن يصبح إنسانا سعيدا ناجحا في حياته، وضامنا لسعادته في الدار الأخرى.

شهر رمضان يحتوي على فرض الصوم، وهو الانقطاع عن تناول الطعام والشراب لساعات محدّدة ومعروفة في الأحكام، مع الكف عن عموم ما يتسبب في إفطار الإنسان، لا ينحصر ذلك في الكف عن الأكل والشرب، وإنما يشمل الكفّ عن الأقوال والأفعال التي تزيل الصيام ما أن يقترفها الإنسان الصائم، لذلك فإن الصوم يأتي على أنواع وأقسام لكن الأهم فيها هو الصوم في الشهر الكريم.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم (الإسلام وشهر رمضان):

(الصوم وهو واجب ومندوب، والصوم الواجب أقسام، أهمها صوم شهر رمضان)

ومما يؤكد عليه الإمام الشيرازي في الكثير من مؤلَّفاته، أهمية استثمار هذا الشهر بصورة فاعلة، باعتباره فرصة للجميع كي يجعلوا منه الوقت الأنسب لتطبيق (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ويذكّر سماحته بالآية القرآنية فيقول:

(جاء في القرآن الحكيم: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).

شروط ارتقاء الأمة في شهر رمضان

قد يصعب على الجميع أن يكونوا في مرتبة واحدة حول تطبيق هذا المحتكَم الإلهي، ولكن هنالك (المفلحون)، هؤلاء هم الذين يتصدّون بنجاح لتطبيق هذا المحتكَم الذي ينقذ الأمة من كل أسباب التأخّر والتخلف، فالأمر بالمعروف، أسلوب حياة منصف، يجعل العلاقات الاجتماعية في القمة، كما يحيل العلاقات العملية إلى نوع من التعاملات المنصفة التي ترتقي بالإنتاج إلى أرقى مراحله.

الأمر بالمعروف ليس جملة من الكلمات ترددها ألسنتنا فقط، وإنما هي قانون عمل وأسلوب حياة وخارطة طريق ينقذ العلاقات الاجتماعية والعملية من أي إخفاق يحيط بها أو يتغلغل فيها، كما أن هذه القاعدة أو المحتكَم الشرعي له مراتب متدرجة، ينصحنا الإمام الشيرازي بمعرفتها وتطبيقها أيضا.

ويرى الإمام أن شهر رمضان هو الفرصة الذهبية لتطبيقها، حيث النفوس محاطة بأجواء الإيمان، والقلوب مكللة بأجواء رمضان الهادئة المطمئِنة، وانتعاش ميول الإنسان إلى السلام والسكينة والمرونة واللين والتعاون والكف عن إلحاق الأذى بالآخرين، لذلك هناك مراتب وخطوات متتابعة من المستحسن الالتزام بها.

كما يؤكد الإمام الشيرازي في قوله:

(للأمر بالمعروف مراتب، أولها تقطيب الوجه، وآخرها الضرب الرادع، كما يجب على الإنسان أن يكون محباً للمعروف بقلبه ومنكراً للمنكر بقلبه).

القلب هو نقطة الانطلاق نحو الخير أو ما عداه، وهو الفيصل بين الاثنين، فإن كان القلب سليما كان الفعل كذلك والنتائج أيضا، ويصح العكس بطبيعة الحال، لذلك لا مجال لارتكاب المنكر سواءً في القول أو الفعل، لاسيما أن ديننا دعا إلى الامتناع عن (المنكر ودعا إلى اجتنابه. لاسيما ما يتعلق بكبت الحريات وقمع الرأي) كما ورد في قول الإمام الشيرازي.

شهر رمضان أيضا فرصة لتوعية المسؤولين والحكام، وتثقيفهم وتنبيههم على أن هذا الشهر هو فرصة أخرى لهم كي يمتنعوا عن أنواع المنكر، بدءاً من صناعة القرار وليس انتهاءً بتطبيقه، لاسيما الصلاحيات والنفوذ والامتيازات، كل هذه يمكن للمسؤول أن يتخلى عنها ويُنصف الناس في هذا الشهر الكريم، ويمتنع عن أي إجراء من شأنه قمع الناس، أو منع الرأي الآخر من الظهور، لأن هذه الأساليب المتعسفة تدخل في إطار (المنكر) الذي دعا الدين وحتى القيم المنصفة إلى منعه.

عدم السقوط في فخ المنكر

يوجد كثير من صنّاع القرار في قمة الهرم أو في مراتبه الأقل فالأدنى، هؤلاء حريصون على صوم شهر رمضان، والصوم يدعو إلى تجنّب القمع وكبت الحريات، كما يدعو أصحاب المركز الحساسة والمناصب الكبيرة إلى عدم السقوط في فخ المنكر، وإلزام هوى النفس بما يتطلبه هذا الشهر من التزامات غير قابلة للتفاوض أو الصفقات أو الحلول الوسطية.

شهر رمضان هو فرصة الجميع كي يعودوا إلى رشدهم، وكلما ارتفع مركزهم زادت مسؤوليتهم وارتفعت الحاجة إلى استثمار هذا الشهر للتصحيح والعودة إلى الحق والإفلات من مخالب المغريات الكثيرة المحيطة بهم، فالمنكر يستهدف النفس أولا، والأمر بالمعروف ينبع من القلب المؤمن والعقل الراشد.

لهذا كلما ابتعد الناس عن محتكَم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، هم يبتعدون في الحقيقة عن التقدم والتطور ومنافسة الأمم الأخرى المتقدمة، لأن أساس التطور والانطلاق نحو قمم التقدم يبدأ من المعروف، والكف عن ارتكاب المحرمات والأخطاء التي لا تنصف الآخرين.

هذه الثقافة من المهم جدا أن تتحول إلى سلوك جمعي، الناس جميعا مطالَبون بتطبيق هذه القاعدة في أقوالهم وأعمالهم ومختلف علاقاتهم، وكلما عظمت مسؤولية الإنسان الوظيفية أو الاجتماعية أو سواها، تزداد الحاجة إلى تطبيق (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

ولعل شهر رمضان نقطة انطلاق متجددة نحو الارتكان لهذه القاعدة الذهبية التي تنظّم العلاقات بين الناس بعضهم مع بعض، وبينهم وبين من يتصدى لمسؤولية الحكم والقيادة، فالحاكم والمحكوم والمسؤول والسائل، هؤلاء جميعا عليهم واجب تثبيت ثقافة (الأمر بالمعروف)، ونشره على مدار الساعة كثقافة راسخة بين عموم الناس، وترويجه وتثبيته في عقول وقلوب المسؤولين والقادة وكبار الموظفين.

الإمام الشيرازي رصد هذا الخلل الكبير وأكدّ على: (أن ما نراه اليوم من تأخر المسلمين في كل ميادين الحياة وتسلط أعدائهم عليهم وتبدد شملهم، ما هو في الحقيقة إلا لأنهم تركوا النهي عن المنكر، ومكنوا الثقافات المسيئة من التفشي في بلادهم).

القيم والثقافات السيئة ما كان لها أن تتفشى في أوساطنا، إلا بعد أن سمحنا لها بالتفشي بأنفسنا، لأننا في الحقيقة أهملنا محتكَم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فشاع بيننا الخطأ في السلوك والقيم وصار الصحيح مختبئا متراجعا منبوذا أو مستبدَلا بقيم دخيلة رديئة جعلتنا نعيش في الدرك الأسفل من حياتنا.

في شهر رمضان يجب أن نتمسك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تتدخل هذه الثقافة في أدق تفاصيل حياتنا، وتسعى لتنظيمها، وتشذيبها وجعلها أكثر لياقة بالإنسان.

الإمام الشيرازي يؤكد هذا حين يقول: (من المستحب أيضاً النهي عن الوساخة في البيت واللباس، وسوء الخلق، ومن سوء الخلق ما يصل إلى مستوى ودرجة الأفعال المحرَّمة).

نعم ليس سهلا على النفس أن تطلق سراح حاملها، وتتركه بعيدا حرّا من رغباتها وأهوائها، وهناك من يضعف ويسقط ويستسلم لنفسه وما تريد، لكن يبقى هذا الشهر المبارك فرصتنا التي علينا أن نستثمرها بجدية تامة وإيمان كامل لتشذيب أنفسنا، والارتقاء بمراتبنا كي نصل إلى مصاف أمم كانت حتى وقت معروف تحثّ الخطى وراءنا.

اضف تعليق