q
ملفات - شهر رمضان

الْقُرآنُ الْكَرِيمِ مِنْهَجٌ لِلْحَيَاةِ

أَهَمِيَّةُ الْقُرآنِ فِي شَهرِ رَمَضَان

السعادة في الدنيا بتلبية الدَّعوة النبوية الشريفة، والخلاص من الفتن في كل زمان ومكان هو القرآن الحكيم، وعلى الأمة الإسلامية عامة، بل وعلى مستوى الأشخاص أيضاً إذا أرادوا النجاة من هذه الفتن التي جاءت كقطع الليل المظلم، وتكالبت الأمم علينا من كل حَدَب وصوب، عليهم...

تقديم قرآني

الله سبحانه وتعالى جعل الحياة الحقيقية في هذه الدنيا بالاستجابة لدعوته، حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24)

والدعوة الربانية مختصرة بهذه الصحيفة النورانية المباركة التي جُمِعت ما بين الدَّفتين، المشتملة على كلامه المنزَّل على رسوله المبجَّل المصطفى محمد (ص)، الذي بيَّن آيات القرآن الحكيم، وفسَّرها للأمة، وأوَّلَ ما اعترضه فيها من أحداث رافقت بناء المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، ثم الدَّولة الإسلامية المباركة فيها، فكانت سُنَّته استكمالاً لدعوته تعالى لهذه الأمة التي فيها الحياة السعيدة بما فيها من العدل في القوانين والتشريعات، والقسط في المجتمعات.

ويُروى عَنْ الْحَارِثِ قَالَ: مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ (ع) فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا تَرَى أَنَّ النَّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الأَحَادِيثِ؟

قَالَ: وَقَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله) يَقُولُ: أَلا إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، فَقُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ؛ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ)، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ).

فالسعادة في الدنيا بتلبية الدَّعوة النبوية الشريفة، والخلاص من الفتن في كل زمان ومكان هو القرآن الحكيم، وعلى الأمة الإسلامية عامة، بل وعلى مستوى الأشخاص أيضاً إذا أرادوا النجاة من هذه الفتن التي جاءت كقطع الليل المظلم، وتكالبت الأمم علينا من كل حَدَب وصوب، عليهم أن يرجعوا إلى القرآن الحكيم، لا سيما في مثل هذه الظروف القاسية جداً علينا وعلى الناس جميعاً في أتون هذه الجائحة الكورونية التي خلطت الوراق في العالم أجمع.

وفي هذا الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك، وهو ربيع القرآن، تلاوة، وتفكراً، وتدبراً، ودرساً، وبحثاً، وتفسيراً، عند هذه الأمة التي هَجَرت القرآن الحكيم، ولا تتذكره إلا عند الأموات، وفي هذا الشهر الكريم، فتراهم جميعاً يتسابقون لتلاوته، وقراءته، ولا أقل من ختمه في هذا الشهر.

نور القرآن الحكيم

ولعلمائنا الأعلام ومراجعنا الكرام موقف رائعة وراقية جداً في هذا الشهر الكريم، من كل النواحي الفقهية، والفكرية، وعقد الدروس، ورعاية المحافل القرآنية، وعلى سبيل المثال تجد السيد المجدد الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (رحمة الله عليه) له عدد من الكُتب الرمضانية، وفيها جميعها يتحدث عن القرآن الحكيم ويُعطي الرُّؤى الحكيمة، والآراء القرآنية للأمة الإسلامية، فهو يقول في أحدها: "القرآن الحكيم كتاب للحياة، ومصدر للنور، ودستور للسَّلام، فعن الحياة يقول سبحانه: (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24)، وعن النور يقول تعالى: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) (الأعراف: 157)، وعن السَّلام يقول جل ذكره: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) (المائدة: 16)

وهكذا كان القرآن الكريم في بدو الإسلام، فهو الذي وضع المسلمين على طريق الحياة الرَّغيدة الشَّريفة من خلال حثّه على العمل والإنتاج، وعبر تحفيزه الناس على التعاون ومساعدة الغير، ومن خلال ما وضع أمام المسلم من مناهج اقتصادية، واجتماعية، نتيجتها هي الحياة الكريمة التي ترفرف أجنحتها بالسعادة والرخاء.

وكذلك القرآن الكريم أرشد الناس إلى طريق الحياة السليمة من خلال الضوء الذي يُسلّطه في طريقهم ليهتدوا في الظلمات إلى مواطن الخير فيتمسكوا بها، والى مواطن الشرّ فيتجنبوها.. وعرّفهم القرن الحكيم سُبل السَّلام في الدنيا قبل الآخرة، ويوم كان المسلمون يفهمون القرآن وتعاليمه ويتمسكون به ويأخذون بمنهجه كان لهم الخير والصلاح.. أما عندما تركوا القرآن جهلاً من بعضهم بآياته، وعناداً منهم لِمنهجه انهالت عليهم المشكلات من كل حدبٍ وصوب". (شهر رمضان شهر البناء والتقدم: السيد محمد الشيرازي (قدس سره): ص14)

فالأمة الإسلامية عندما بدأت تأخذ بآيات القرآن وتطبقها في بيوتها وعلى المجتمع خلال عقد من الزمن صنعوا معجزة بَهرت عقلاء الدنيا إلى اليوم، وهذا (مايكل هارت) صاحب (الماءة الأوائل) يضع النبي الأكرم (ص) أولاً لقناعته بعد دراسة طويلة لآلاف الأشخاص والعباقرة، فهو وضع السيد المسيح الذي يؤمن به ثالثاً، وموسى الكليم متأخراً، ونحن هنا لا نحتاج لشهادة هذا المسيحي، ولكن نحتاج أن نسمع صوت العقل المحايد، الذي ينطق منصفاً فيقول: "إن محمداً هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الدِّيني والدنيوي"، ولكن بماذا نجح هذا الإنسان العظيم هذا النجاح الباهر؟

يقول هارت: ''أكثر هؤلاء الذين اخترتهم قد ولدوا ونشأوا في مراكز حضارية، ومن شعوب متحضرة سياسياً وفكرياً إلا محمداً فهو قد ولد سنة 570م في مدينة مكة جنوب شبه الجزيرة العربية في منطقة متخلفة من العالم القديم بعيدة عن مراكز التجارة والحضارة والثقافة والفن -موضحاً أن نشأته (ص) كانت في ظروف متواضعة- وكان لا يقرأ ولا يكتب ولم يتحسن وضعه المادي إلا في الخامسة والعشرين من عمره عندما تزوج أرملة غنية".

والعبقرية التي دوَّخت (مايكل هارت) هي كيف استطاع ذاك الشخص الوحيد، الذي عاش يتيماً، فقيراً عند عمِّه أبي طالب (ع) ثم قام بدعوته وحاربه أقرب الناس إليه، وكل أهل مكة حتى أجبروه على الهجرة إلى مدينة يثرب، ولكنه وخلال عشر سنوات فقط استطاع أن يجمع كل القبائل العربية المتفرقة، والمشتتة، والمتناحرة، والمتقاتلة، تحت رايته المباركة، وصار يُقارع الإمبراطورية الرومانية من الشمال، والفارسية من الشرق.

ويُوضِّح هارت الفرق بينه (ص) وبين السيد المسيح(ع)، بقوله: ''والإسلام مثل كل الدِّيانات الكبرى كان له أثر عميق في حياة المؤمنين به.. وعلى الرغم من أن عيسى هو المسؤول عن مبادئ الأخلاق في المسيحية إلا أن القديس بولس هو الذي أرسى أصول الشريعة المسيحية وهو أيضاً المسؤول عن كتابة الكثير مما جاء في كتب العهد الجديد؛ أما الرسول محمد (ص) فهو المسؤول الأول والأوحد عن إرساء قواعد الإسلام، وأصول الشريعة، والسلوك الاجتماعي، والأخلاقي، وأصول المعاملات، بين الناس في حياتهم الدينية، والدنيوية، كما أن القرآن الكريم قد نزل عليه وحده وفي القرآن الكريم وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وآخرتهم".

ويمكن لنا أن نستخلص من كلام (مايكل هارت) أن أهم أسباب النجاح الباهر والمبهر للعقول للدِّين الإسلامي هو في قضيتين أساسيتين لا يمكن أن يستغني عنهما الدارس للحضارة الإسلامية على طول تاريخها المشرق وهما:

1- شخصية الرسول العظيم (ص)، حيث يقول: "فمن المستحيل أن يُقال ذلك عن البدو وعن العرب عموماً، وعن إمبراطوريتهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد(ص)، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته وإيمان الجميع به".

2- القرآن الحكيم؛ وجميل ما يصف به هارت القرآن الحكيم في هذا السياق بقوله: "والقرآن نزل على محمد كاملاً وسجلت آياته وهو ما يزال حياً وكان تسجيلاً في منتهى الدِّقة فلم يتغير منه حرف واحد وليس في المسيحية شيء من ذلك فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية يشبه القرآن، وكان أثر القرآن على الناس بالغ العمق ولذلك كان أثر محمد على الإسلام أكثر وأعمق من الأثر الذي تركه عيسى على الديانة المسيحية".

فالحضارة الراقية صنعها القرآن الحكيم، وقادها الرسول العظيم، ففتحت الدنيا على الخير والنور والهداية ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولكن "عندما ترك المسلمون العمل بآيات القرآن الكريم انطفأت شُعلة الحياة في نفوسهم وأصبحوا كما قال تعالى: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) (طه: 74)، فلا هم بميتين ولاهم بأحياء، أي أنهم في حالة احتضار دائم، وهناك أممٌ كثيرة في التاريخ عاشت هذه الحالة العصيبة لردح من الزمن.

هذا في مجال الحياة أما في مجال النور الذي يسطع من آيات القرآن ليبعث على الهداية والصلاح؛ فقد أصبح الأمر عكسياً، فالظلام هو الذي عمَّهم والموت هو الذي شملهم فقد وصفهم القرآن بقوله (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة: 257)، بعد أن أخرجهم القرآن من الظلمات إلى النور.

أما عن السَّلام الذي هو أمنية الإنسان فقد تبدّلت وتحوّلت حياتهم إلى ضنك في ضنك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (طه: 124).

هذا هو حال المسلمين اليوم، حياة تحتضر، وظلام دامس، واضطراب وضنك، فإذا أردنا الحياة السعيدة ذات العزة، والشرف، والكرامة، وإذا أردنا أن يرفرف السَّلام فوق رؤوسنا، فلا بدّ أن نعود إلى كتاب الله، وبالأخص في هذا الشهر المبارك، لا بدّ أن نقرّر العودة إلى القرآن عندما نجلس بين يدي الرحمن ونقرأ آياته.. علينا أن لا نكتفي بالقراءة فقط -بالرغم ما لقراءة القرآن من ثواب وأجر لا يُعادله شيء- فإنّ القراءة وحدها (كرامٍ بلا وتر) كما ورد في الحديث الشريف.

والقرآن مثله مثل كل ما أنعم الله على الإنسان من خيرات، فإذا لم يستفد منها بل عمل على العكس منها كانت عليه نقمة أ رأيتَ كيف يتحوّل النفط الذي أسداه الله نعمة للإنسان إلى بلاء على الإنسان، يحرقه ويدمّر حياته عندما يحاول أن يعبث به ولا يُحسن استخدامه.

فمن الضروري أن نجدد عهدنا بالقرآن العملي بعد القرآن العلمي، لعلّ الله يُخلصنا من هذه الهوَّة السحيقة التي سقطنا فيها يوم تركنا القرآن كمنهج للحياة". (شهر رمضان شهر البناء والتقدم: السيد محمد الشيرازي (قدس سره): ص16)

نعم؛ القرآن الحكيم هو طريق العزة والكرامة لمَنْ أراد أن يعيش عزيزاً في هذه الدنيا التي تُقدِّس القوة ولا تخاف إلا من القوي في كل زمان ومكان وما استعبَدنا إلا الأقوياء عندما ضعفنا، وما ضعفنا إلا بعد أن ابتعدنا عن مصدر قوتنا وشرفنا وعزتنا وكرامتنا؛ الثقلين (القرآن الحكيم والعترة الطاهرة)، وشهر رمضان فرصة ثمينة للعودة إليهما أيها العزاء في هذه الأمة المرحومة بهما..

اضف تعليق