q
يسقط البعض في اختبار المصيبة الى درجات دنيا في الجزع وخلق مشاعر وهمية من الضِعة والاحتقار غير الموجودة اساساً، لاسيما في نظامنا الاجتماعي، وهذا ما عقّد أمر تطويق كورونا المستجد الى حدّ كبير في بلد مثل العراق، عندما يمتنع المصاب بهذا المرض من الكشف عن هوية...

"اغلبوا الجزع بالصبر، فان الجزع يحبط الأجر ويعظم الفجيعة".
أمير المؤمنين، عليه السلام

مهاجر سوري في مملكة السويد أراد التحقق من احتمال اصابة ابنته الصغيرة من وباء كورونا المستجد، بعد ظهور علائم المرض، فتوجه الى أقرب مركز صحي، ظناً منه أنه سيعامل كانسان حريص ذو وعي صحي، لكن فوجئ بتعامل غير متوقع من الاطباء الذي رفضوا إجراء الفحوصات الخاصة لاكتشاف الوباء، رغم ارتفاع حرارة البنت الى فوق الاربعين درجة، وهي تسعل بشكل جاف، ورفضوا مطلقاً أن يكون في السويد "كورونا"، فعاد الأب الى البيت خائباً، وقد عرف فيما بعد أن ابنته نقلت الوباء من زميلة لها في المدرسة كانت في رحلة الى تايلند مع عائلتها، وقد نقلت العدوى الى جميع التلاميذ في الصف والمعلمة باحتمال كبير، فاضطر لأن يحجر نفسه وعائلته شهراً كاملاً ثم تعافى في تجربة يرويها الأب السوري المهاجر، في مقطع بين مئات المقاطع المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم الذي يطبق عليه فيروس "كورونا".

بات من المؤكد أن المجتمع الغربي أدرك خطأ الربط بين وباء فتّاك مثل "كورونا المستجد" ذو المواصفات الغريبة والحيّرة لعقول العلماء، والقدرات العلمية والامكانات والاجراءات المتبعة الموجودة في جميع المراكز الصحية والبحثية في اوربا و اميركا الشمالية، إنما القضية تتعلق بطريقة التعامل مع هذا الوباء، والنظرة السائدة إزاء وباء يعرفون أنه قاتل، وربما يعرفون مسبقاً أنه سيحصد أرواح الآلاف.

المثال الذي صدّرنا به المقال، يعد واحداً من ألاف الأمثلة التي حصلت لمواطنين اسبان وفرنسيين وايطاليين وبريطانيين، واجهوا المكابرة من الاطباء والمعنيين في المستشفيات وتمت إعادتهم الى البيوت ليكونوا قنابل موقوتة تنفجر هنا وهناك فيما بعد، ونفس المكابرة تجلّت في تصريحات الرئيس الاميركي دونالد ترامب الذي وصف المرض على أنه "خديعة صينية"، بدعوى أن الصين التي انطلق منها المرض تريد توريط اميركا بهذا المرض لدوافع اقتصادية وتجارية و"وتجبرنا على وقف الحياة العامة"!.

إنها نزعة انسانية نحو القوة والحياة، والحذر من كل ما يدعو الى الضعف، ومنها؛ المرض، ثم الموت، ولعل هذا يفسّر لنا حرص الاسلام على ضرورة مؤازرة المريض، ومن يفقد عزيز عليه، بعيادته وهو على فراش المرض، او مشاركته في مراسيم العزاء، وقد رصدت الروايات عن المعصومين، عليهم السلام، حسنات لا تعد لمن يعيد مريضاً او يشارك في تشييع الجنازة.

ولكن؛ يسقط البعض في اختبار المصيبة الى درجات دنيا في الجزع وخلق مشاعر وهمية من الضِعة والاحتقار غير الموجودة اساساً، لاسيما في نظامنا الاجتماعي، وهذا ما عقّد أمر تطويق "كورونا المستجد" الى حدّ كبير في بلد مثل العراق، عندما يمتنع المصاب بهذا المرض من الكشف عن هوية من صافحهم او اقترب منهم في أيام حضانته للمرض، بدعوى إلحاق الأذي النفسي بهم وبعوائلهم! وقد رصدت بعض الحالات، التي نرجو ان تكون فردية، بتعامل غير انساني وغير اخلاقي مع أسرة مصاب احد افرادها بالمرض، فيعدونه منبوذاً، حتى وإن شفي بالكامل.

الصبر مصدر قوة

لم تتح الفرصة لمؤسسات الإحصاء العالمية مثل "غالوب" في هذه الايام العصيبة والشائكة، لأن تغوص في اسباب عدم انتشار "كورونا" في هذا البلد دون ذاك، والمثال الأبرز؛ العراق المجاور لإيران التي تحولت الى بؤرة انتشار الفيروس الى حوالي سبعة عشر بلداً في الشرق الاوسط وفق منظمة الصحة العالمية، مع ملاحظة العلاقات الواسعة على أكثر من صعيد بين البلدين والشعبين.

واذا كان "كورونا المستجد" في تقييم عديد الشعوب بالعالم بأنه مدعاة للمنقصة، وتقييد الحركة والاستصغار ومختلف المشاعر السلبية النابعة من الجزع وانعدام التوازن، فان الوضع العراقي يعد مثالاً يحتذى به في كثير من الاحيان، ليس فقط لمستوى الوعي الصحي، وليس فقط للإجراءات الحكومية السريعة لتطويق الوباء، وإنما في الاستعداد النفسي المسبق لدى الانسان العراقي الممتحن في العقود الماضية، الذي خبره العقوبات الاقتصادية الدولية في سني التسعينات، والاجراءات التعسفية لنظام صدام في حينها، فرى ضنك العيش، وموت الأحبة بسبب نقص الدواء، ثم خاض مرارة العيش في ظل الارهاب الطائفي، ودفعه ثمن الحرية من قبضة صدام بآلاف الشهداء والجرحى، كل هذا جعله شعباً متجلداً صبوراً يعرف كيفية التعامل مع الازمات بوعي ويقظة تامة.

ولمن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي يجد ذهولاً من المحيط الاقليمي بكيفية بقاء ضحايا "كورونا" ضمن ارقام أقل بكثير من ايران وتركيا والسعودية، بل ويقرأ بغير قليل من الأسف التوقعات بازدياد حالات الاصابة في العراق في القريب العاجل، حتى حدى بطبيب مختص في احدى الدول المجاورة لأن يتحدث في مقطع فيديو، وهو يعد نفسه كاشفاً للحقيقة بأن "ستين بالمئة من الشعب العراقي مصاب دون أن يعلم"! ومردّ هذا التصور وطريقة التفكير الى التعكّز على العلم والتقنيات الطبية والامكانات المختلفة في مجال الصحة والطب، كعامل قوة قادرة على تغيير الموقف، وهو ما يفتقده العراق، أما الوباء نفسه، وحتى الموت، يعالجونه بالمكابرة وإخفاء الحقائق عن الشعوب التي لم تجرب يوماً ما جربه العراقيون.

الغرب يسقط فيما كان يهرب منه

من المعروف عن الانسان الغربي لا يبكي ولا يذرف الدموع في معظم الحالات لان هذه الحالة تلحق بصاحبها صفة الضعف، لذا يُقال لمن يموت منه عزيز: "كُن قوياً" والقوة هنا ليست أمام شخص، وإنما أمام الموت الذي لم يدرسه الغربيون في مناهجهم الفكرية على أنه نقطة تحول الى الحياة الحقيقية والأبدية، وهي تكون مبعث سرور واطمئنان على من عمل الصالحات والمبرات ليكسب الأجر في الدار الآخرة، كما تعلمنا مدرسة الوحي الإلهي، بينما البكاء في المدرسة الاسلامية يحمل مضامين دلالات تدخل في عملية بناء النفس وتهذيبها، واتخاذ مواقف تضامنية مع قضايا الظلم والحقوق، ولذا فان البكاء لا يندرج بأي حال من الاحوال في عوامل ضعف الانسان، فقد بكى رسول الله، صلى الله عليه وآله، على عمه حمزة بعد معركة أحد، بعد أن واجه ببسالة فائقة جموع المشركين في تلك المعركة الضروس، وأكثر فيهم القتلى والجرحى، ليعلّم الانسانية أن البكاء استجابة طبيعية لانكسار القلب، و بروز مشاعر الحنان والعطف، وفي عملية ميكانيكية يوعز الدماغ الى القلب والعروق والشرايين بتسخين الدم الذي يولد بدوره بخاراً يرشح من العين على شكل قطرات من الدموع، كما ذكر أحد العلماء.

ليس المطلوب البكاء في مرحلته الاخيرة، إنما المراحل المتقدمة للانفعالات النفسية، وإلا نلاحظ الكثير من الناس يتغلبون على مشاعر الحزن، فيحبسون دموعهم لاسباب مختلفة، ولكنهم يحملون مشاعر الشفقة والعطف والحنان في قلوبهم، وهذا تحديداً ما يستفيد منه افراد المجتمع، ليس في لحظة الحزن والصدمة الراهنة، بل وفي قادم الايام، وفي جميع مراحل الحياة.

مشكلة الغربيين أنهم لم يعرفوا كيف يحولوا الوباء، بل وأي أزمة صحية عامة أو كارثة مجتمعية الى مناسبة للتراحم والتكافل كما يحصل في بلادنا، واذا نسمع من الرئيس ترامب امتناعه عن الاعتراف بوجود الوباء في اميركا، لأنه يتحدث عن لسان النظام الرأسمالي القائم على العمل والانتاج لا غير، فليس لديه فكرة أخرى بديلة اذا ما اصدر أوامره بحظر التجوال وتوقف الاعمال الحرة وتحول الملايين الى عاطلين كما يحصل اليوم.

الشعوب الغربية، وتحديداً في ايطاليا وفرنسا واسبانيا، ثم بريطانيا واميركا، ولاحقاً في دول اخرى، تدفع ثمن المكابرة ومشاعر الاستعلاء، وعدم النظر الى الحدث بشكل واقعي، وإلا فان آلاف الناس الذين وافاهم الأجل بشكل مؤلم في دور العجزة وفي المستشفيات بسبب الالتهاب الرئوي الحاد، وفقدان أجهزة التنفس، لم يصرعهم فيروس كورونا، بقدر ما راحوا ضحية رؤية استكبارية شبّ عليها قادة الغرب وكانوا يتعكزون عليها للتسيّد على شعوب العالم.

اضف تعليق