q
العالم في القرن العشرين استجمع ثروات لم يسبق للبشرية من قبل، الى جانب تطور مذهل في مجالات علمية عديدة بالحياة، مكّن الانسان من أن يعيش بأفضل ما يكون، ولكن نلاحظ فيروس بسيط لا يرى إلا بالمجهر، صرع جميع العلماء والخبراء واصحاب المليارات وأعجزهم عن أي حل لمواجهة الموت البطيء...

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، سورة البقرة، الآية:122.

الحركة باتجاه التطور في الحياة، من سنن الله –تعالى-، وهي من الفرص المتاحة للانسان لتحقيق أفضل اشكال العيش الكريم، مستخدماً قواه الذهنية والعضلية، الى جانب قانوني "التدافع" بين الأمم، والتنافس بين افراد الأمة الواحدة، فالأول؛ يحقق "استقامة العيش وهي سنّة فطرية منتهية الى الله –تعالى- يشهد بها تجهيز الانسان بأدوات قوى تسهل له البطش ثم بالفكر الذي يهديه الى اتخاذ وسائل الدفع"، (تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي)، فيما قانون التنافس يجري ضمن النظام الاجتماعي الواحد على البر والتقوى وأعمال الخير لمزيد من الرقي والتطور.

يواكب هذا الجانب العملي في مسيرة التطور الحضاري للبشر، جانب معرفي أهميته حياتية ومصيرية في أن هذه القوانين والسنن لم تصدر من زعيم او حكيم أو حتى عالم، وإنما هي من لدن "عليم خبير"، وهو خالق السموات والارض، فالسنن والقوانين تأتي كلها في صالح الانسان، ويعبّر عنها القرآن الكريم بـ "الآيات"، مثل تقسيم الزمان بين ليل ونهار، وتكوين الأسرة من ذكر وأنثى، وتمكين الانسان من الثروات والطبيعة بما فيها من مياه ونبات وحيوان وكل شيء، والدليل على هذا من القرآن نفسه، ومن آية التدافع في سورة الحج: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}، والتي جاءت في سياق الإذن للمسلمين بشن القتال ضد المشركين.

إنما تبدأ المشكلة عندما يحاول البعض من بني البشر التطاول واختبار قدراته لخلق واقع جديد خارج هذه السنن والقوانين السماوية، فهو يظن أنه "يُحسن صنعاً" بينما الحقيقة التي تغيب عنه في احيان كثيرة، أنه يتجه الى الكوارث والمعاناة التي تصيبه، وتصيب أعداد كبيرة من الناس، وعادة ما تكون الكوارث والاضرار بحجم الاخطاء، كما هي الحروب، والتلوث البيئي، والاحتباس الحراري، والتجارب النووية والجرثومية والكيمياوية ذات الاهداف غير السلمية.

نقطة الضعف الكبرى لبني اسرائيل

مشكلة بني اسرائيل مع الانبياء والمرسلين لم تكن في رفضهم نداء السماء، والإصرار على الشرك، فهي ليست مشكلة عقدية، إنما بدأت وهم يسايرون الانبياء وقد آمنوا بالله الواحد الأحد، وباليوم الآخر، إنما كانوا دائمي الشكوى والتذمر، ساعين الى التمرّد والتنصّل من المسؤولية، وإن فرض عليهم شيء يحاولون ابتكار طريقة جديدة لأداء فريضة دينية عليهم.

ومن مطالعتنا للقرآن الكريم يتضح أن بني اسرائيل كانوا يمثلون أول مجتمع بشري في التاريخ آمن بالله الواحد الأحد، وبالرسالات السماوية، لذا نجد اليهود اليوم يفخرون أن أصل ديانتهم تعود الى النبي ابراهيم، والى ابنائه؛ اسحاق ويعقوب، ولعل هذا جعلهم هدفاً لقمع واضطهاد الفراعنة في مصر القديمة، ومنهم تحديداً؛ فرعون الذي عاصر نبي الله موسى، عليه السلام، وكان أيمانهم برسالته محل ثناء السماء بأني {أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، بيد أن التفضيل هذا يبقى على المحك مع مرور الزمن وتقادم الأجيال، فهو نوع من اختبار الإيمان الحقيقي والراسخ، والاستقامة على النهج الصحيح.

إن الإيمان الذي يريده الله –تعالى- للانسان، وتحديداً لافراد قوم موسى (بني اسرائيل) تمثل في سلوك نبيهم الذي وصل الى ساحل البحر مع جموع المؤمنين من بني اسرائيل، فيما كان فرعون وجنوده وأعوانه يطاردونهم ليفتكوا بهم، هنا؛ لم يطق "المؤمنون" صبراً فقالوا فوراً: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}، أي؛ وصلنا الى الطريق المسدود، وربما وجهوا اللوم الى نبيهم بأنهم سيكونوا هدفاً سهلاً لانتقام فرعون بأشد ما يكون، كما هو هاجس الكثير من الشعوب عندما تتعرض لليأس والاحباط في صراعها مع حكامها الطغاة، فجاء جواب نبيهم جواباً إيمانياً، بأن {َكَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ}، ولذا يشير المفسرون الى مفردة الهداية التي استخدمها موسى، وليس الانتصار، فهو لم يعدهم بالانتصار في صكوك مضمونة، لان الله –تعالى- لا يطلع انبيائه وأوليائه على الغيب بشكل دائم، إلا في حالات خاصة بإرادة منه، ولذا فان النبي موسى نفسه، فرّ من العصا التي تحولت الى ثعبان، كما توجس خيفة مما صنعه سحرة فرعون، بل وإن النبي ابراهيم، لم يكن لديه ضمان ليطمئن نفسه بانه لن يحترق، فالانبياء دائمي الاستعداد بالتضحية من اجل الرسالة السماوية مهما كلفهم الأمر.

وفي سورة الشعراء تأكيد لهذه الحقيقة عندما يأتي الإيحاء الى موسى بأن {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}، وكان بإمكان الله أن يفلق البحر بلمح البصر، ولا حاجة للعصا، ولكن كانت الحاجة للمعجزة "ليعرف الناس أن الله –تعالى- هو المهيمن والمدبر لخلقه، وأنه هو العالم الذي يلا يعزب عن علمه شيء في السماوات والارضين، بالنقيض تماماً لما زعمه بعض الفلاسفة القائلين بأن الله لا يدري شيئاً من شؤون مخلوقاته، وأنه قد صدرت الامور من عنده لا اختيار". (بينات من فقه القرآن- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).

صناعة الآلهة وصناعة الثروة

حصول تلك المعجزة الهائلة التي لن تر البشرية نظيراً لها، لم يكن كافياً لبني اسرائيل لأن يعرفوا أنهم تحملوا مسؤولية حضارية كبرى، وأنهم أمة محظية بالعناية الإلهية الخاصة يقودها نبي عظيم، فبعد أن عبروا ذلك البحر المنفلق، ورأوا بأمّ أعينهم كيف أغرق الله فرعون وأنصاره وأنهى حضارته و دولته الى الأبد، وصلوا الى منطقة مقفرة فقالوا: "يا موسى أهلكتنا وقتلتنا وأخرجتنا من العمران الى مفازة لا ظل، ولا شجر، ولاماء!، فكانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس، وينزل عليهم بالليل المنّ فيقع على النبات والشجر والحجر فيأكلونه، وبالعشي يأتيهم طائر مشوي يقع على موائدهم فاذا أكلوا وشربوا طار ومر، وكان مع موسى حجر يضعه وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فتنفجر منها اثنتا عشر عيناً". (تفسير الميزان –ج1،ص191).

ومع هذا الدلال، كان مع بني اسرائيل كميات كبيرة من الذهب، أخذوها معهم خلال فترة النزوح من أرض مصر، فبدلاً من أن تكون هذه الثروة مصدر استثمار ومنفعة لقادم الأيام نتفاجأ، ويتفاجأ التاريخ قبلنا بأنهم جعلوه مرتبة دُنيا نحو التسافل والتقهقر الحضاري، فقد أمهلهم نبيهم (موسى) اربعين يوماً يصبروا عليه ليذهب هو الى ميقات ربه ويأتي اليهم بالشريعة والاحكام، وهي التوراة من عند الله –تعالى- ولكن هذه الغيبة لم تصمد في مقام الصبر، بل تحولت الى ردّة على الدين والايمان، عندما شاع بينهم أن موسى هرب ولن يعد، وأنه خادعهم، فاستغل شخصٌ من المقربين من موسى، وكان في مقدمة من عبروا البحر، وهو؛ السامري وقيل أنه كان من العلماء، ولم يكن انساناً عادياً، بيد أن كان في مقدمة المرتدين والساعين للوجاهة والقيادة ولو بالتزييف والتضليل، فأخذ ما كان يحملون من الحُلي فصنع لهم عجلاً من ذهب ليكون جميلاً في أعينهم، وألقى فيه قبضة من تراب حصل عليه من أثر حافر دابة المَلك جبرائيل عندما كان على الارض للقاء موسى، فرأى في حينها أن التراب يتحرك بشكل متواصل، فعرف أنه جبرائيل، فأخذ من التراب المتحرك وألقاه على ذلك التمثال الذهبي فحصل له "خوار" وهو صوت خُيل الى بني اسرائيل بانه موجود حيّ، فوقعوا له ساجدين على الفور!

لم تتوقف مسيرة الشقاق والانقلاب في هذه الأمة الغريبة الاطوار، فبعد الانقلاب على الصعيد المجتمعي، حصل انقلاب على صعيد فردي من شخص هو الآخر كان يعد نفسه من المؤمنين مع نبي الله موسى، وهو قارون، فاذا كان السامري رجل دين، فان قارون، يبدو انه كان رجل علم ومعرفة، فبدلاً من أن يوظف علمه وذكائه وقدراته لتطوير مجتمعه وأمته، راح يصنع الثروة الخاصة به، حتى اصبح يمتلك كنوزاً لها مفاتيح لا يقوى على حملها رجل واحد، فكانت نقطة ضعفه "البغي"، وهي من النزعات النفسية الكامنة والطامحة للطغيان والتسلط على الآخرين.

هذا البغي كان لابد من له مسوّغ وشرعية، فعندما قال له المؤمنون من قومه: { لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، قال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، فعلى حين غفلة منه، عدّ نفسه هو الصانع للمال والثروة، وليس الله –تعالى- هو الرزاق ذو القوة المتين، وقد ذهب المفسرون في معنى "العلم" الذي تبجح به قارون، فقالوا "المراد علم الكيمياء، وكان قد تعلمه من موسى و يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، والمراد بكون العلم اختصاصه به دون سائر الناس وقد صنع به مقداراً كثيراً من الذهب، وقيل: المراد علم استخراج الكنوز والدفائن، وقيل: المراد بالعلم، علم الله –تعالى- والمعنى؛ أوتيته على علم من الله وتخصيص منه قصدني به"، (تفسير الميزان- ج16،ص79).

فما تكون عاقبة هذا النوع من السلوك البشري بعد كل ما حَظي به من نعيم وثروات وخيرات وتفضيل على بني البشر؟

لم تكن سوى اللعنة والغضب والخسف، ثم توالي النكبات والكوارث والمآسي، فاليهود باتوا مثالاً للبشرية طيلة القرون، وحتى اليوم، في هاجس الخوف المسكون فيهم الى الأبد، فهم لا يشعرون بالأمن طيلة حياتهم، وعلى جميع الصعد؛ الأمن الاقتصادي، والامن السياسي، فهم في خوف دائم رغم ما نسمع من أنهم يمتلكون على معظم المؤسسات الاعلامية، وكبريات المصانع، وشركات الاتصال الدولية، والبورصات العالمية، ويبدو ان هذا الخوف والهلع فرضوه ثقافة على جميع سكان العالم؛ الخوف على الأرصدة المالية، وعلى الغذاء، والدواء، وعلى فرصة العمل، فالقوي والمقتدر من يحصل على شيء من هذا، وإلا فانه يكون من الهالكين.

يُقال إن العالم في القرن العشرين استجمع ثروات لم يسبق للبشرية من قبل، الى جانب تطور مذهل في مجالات علمية عديدة بالحياة، مكّن الانسان من أن يعيش بأفضل ما يكون، ولكن! نلاحظ فيروس بسيط لا يرى إلا بالمجهر، صرع جميع العلماء والخبراء واصحاب المليارات وأعجزهم عن أي حل لمواجهة الموت البطيء وبشكل جماعي، بعد اعترافهم عن جهلهم بكنه هذا النوع من الفيروس.

فهل يبقى الانسان –بعد هذا اليوم- يفكر و يكابر بأنه الأقدر على فعل أي شيء؟ وان كل ما يفعله صحيح، يؤدي الى السعادة والأمان والرفاهية؟

اضف تعليق