q
البشرية واصلت تطورها في اقامة الدول، ومرت بتجارب كثيرة بعضها مريرة جدا، حتى وصلت الى ما اطلقتُ عليه اسم الدولة الحضارية الحديثة، وهو مصطلح قد لا تجده في كتب القانون الدستوري والعلوم السياسية، وهو مصطلح يتجاوز الحمولات الايديولوجية التي تحملها مصطلحات اخرى مثل مصطلح الدولة الشيوعية او...

في البدء، لم يكن الانسان شيئا مذكورا، كما في قول القرآن الكريم: "هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا"، كان ذلك في عصور ما قبل التاريخ، حين كان الانسان كالحيوان، بدماغ اقل حجما من حجمه الحالي، وعيش في الكهوف على الصيد وجمع الثمار، حيث كان الانسان كائنا طبيعيا، يعيش على الطبيعة، في مجموعات متفرقة، لا يميزه شيء عن الحيوانات وخاصة فصيلة القردة العليا أكثر من المشي منتصبا على ساقين، وعقل في طور النمو والتكامل.

كان الانسان انذاك كائنا بدائيا لا يعرف الا القليل من الامور والمعارف، ويعيش ضمن جماعات صغيرة من اقرانه، متنقلا بين الكهوف والغابات والسهول، بحثا عن الطعام. وذات يوم، ربما قبل عشرة الاف سنة، اكتشفت الجماعة البشرية التي كانت تعيش في وادي الرافدين الزراعة، ومنذ النبتة الاولى التي زرعها الانسان، بدأت حضارة الانسان. حيث انتقل الانسان من الغزو الى خلق الثروة، كما قال الفين توفلر.

ومع هذا الاكتشاف، جعل اللهُ الانسان خليفة له في الارض، الامر الذي اثار استغراب الملائكة لقول الله تعالى:"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". اذ لم يستوعب الملائكة ان يكون هذا الكائن الذي رأى الملائكة منه امورا سيئة لا تتناسب مع جعله سيدا على الارض، فقالوا لله: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟". ولم يكن هذا سؤال استنكار واحتجاج، انما سؤال استعلام واستغراب، لانهم لم يكونوا يعلمون الغيب، وما سوف يؤول اليه امر هذا المخلوق الذي سيكون اخر ما خلق الله.

فاكتفى الله بان قال لهم:"إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، وسلّم الملائكة لقول الله، الذي انصرف لماهو اهم من مجادلة الملائكة، اعني تعليم الانسان، و منحه القدرة على التعلم والترقي ممثلة بالعقل، واكتمال حجم الدماغ على ما هو عليه الان: "وَعَلَّمَ آدَمَ الاَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا الامَا عَلَّمْتَنَا ? إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ".

وكان ما سوف نطلق عليه اسم "الحضارة" نتيجة سعي الانسان الى تحسين حياته بالتفاعل مع الطبيعة التي سخرها الله له بالعمل المستند الى العلم والزمن، والمعارف الاولية التي علمها الله للانسان، والقدرة التي اودعها فيها على زيادة هذه المعارف والعلوم. فكانت كل تجربة يخوضها الانسان مع الطبيعة للارتقاء بمستوى حياته، تزيده علما، ففي التجربة، كما قال الامام علي، علم مستأنف، اي علم جديد، وكان هذا العلم الجديد يطور تجارب الانسان اللاحقة مع الطبيعة، وهي التجارب التي تزيد علم الانسان بدورها.

ما جعل الخط البياني لعلوم الانسان يسير بشكل تصاعدي تراكمي الامر الذي انتج اول حضارة في الارض، في وادي الرافدين، فكانت الحضارة ظاهرة انسانية، يسهم في انتاجها الانسان، الانسان بعنوانه المطلق بغض النظر عن الاوصاف التي نطلقها عليه. في هذه الاثناء برزت ظاهرة اخرى في الجماعة البشرية تمثلت بظهور اشخاص حكماء يواصلون تعليم البشرية المعارف الاولية، بما منحهم الله من المعارف والعلوم.

وكانت هذه الظاهرة تتطور مع تطور الجماعة البشرية وتعقد حياتها. فلما انتج التطور الملكية الفردية لما تنتجه يد الانسان، وبدأ التنازع بين البشر على هذه المنتجات، بما فيها ملكية الارض المزروعة، حتى برزت الحاجة الى القانون الذي ينظم امور هذه الجماعات البشرية، ويحل نزاعاتها. وكان اول المشرعين رجال علمهم الله ذلك، فظهر الانبياء الرسل، واولهم نوح عليه السلام. وكان على نوح ان يخبر الناس ان القوانين التي اتى بها ليست من عنده، وانما من الله، فكان عليه ان يشرح للناس من هو الله، ويدعوهم الى طاعته من خلال الالتزام بالقوانين البسيطة التي جاءهم بها، وهذا هو "الاساس الديني" للالتزام بالقوانين.

فامن بعض الناس بما جاء به نوح، ولم يؤمن البعض الاخر، وكان هذا هو الانقسام الثاني في الجماعة البشرية، وهو الانقسام على اساس الدين وبسببه. ولما تفاقم هذا الانقسام في الجماعة البشرية في عهد نوح، وعجز نوح عن اقناعهم بالالتزام بالقوانين التي جاء بها، حصل الطوفان في وادي الرافدين الذي تداول العراقيون قصته بعد ذلك في اساطيرهم كدليل على غضب الله عليهم، وادركوا انه لابد لهم من القانون الذي يحفظ حياتهم.

فبدأت تظهر المدونات القانونية واشهرها المعروفة بمسلة حمورابي التي علمها اله الشمس لهذا الملك البابلي. وهذا اشارة الى مصدرها الالهي، ولا يستبعد ان حمورابي استلها من تعاليم الانبياء، اعتبارا من نوح ومن جاء بعده، قبل ظهور موسى. وكان هذا اشارة الى التمازج بين الدور الالهي والدور البشري في تنظيم شؤون الجماعة البشرية. كانت النبوات تسير جنبا الى جنب مع البشرية وتتطور بتطورها حتى وصلت ذروتها بنبوة محمد، التي جاءت بعد وصول العقل البشري الى درجة كبيرة من النضج، مرورا بكتابة التوراة وكتابات الاشخاص الحكماء الذين ظهروا في مختلف الجماعات البشرية بعد موسى في اليونان والصين والهند ومصر وصولا الى عيسى في فلسطين.

مجموعات بشرية

وما لبثت مجموعات بشرية اخرى، خاصة تلك التي كانت تعيش في دلتا النيل وعلى ضفافه الشمالية في افريقيا، ان صنعت حضارتها هي الاخرى (الحضارة المصرية التي ظهرت بعد 200 سنة من ظهور حضارية وادي الرافدين). ولم يمض الا زمن قليل حتى التقت الحضارتان، وبدأ بينهما التفاعل والتبادل، او "الحوار الحضاري"، كما سنطلق عليه بعد عدة الاف من السنين.

ومنهما انتقلت الحضارة الى جزيرة كريت في البحر الابيض المتوسط وجزائر اليونان الاخرى في بحر ايجة غربا والى ايران والهند والصين شرقا. واستمرت الجماعات البشرية في تقديم اسهاماتها الحضارية بالتبادل والتفاعل، مرورا بالحضارة الاسلامية في الشرق الاوسط، والاندلس، التي اطلقت عصر النهضة في ايطاليا، ثم بقية انحاء اوروبا، فالنهضة الصناعية، فالقارة الاميركية الشمالية، وصولا الى الحضارة البشرية الراهنة التي هي حصيلة جهود كل البشر لتحسين مستوى حياتهم على مدى اكثر من 7 الاف سنة.

صحيح ان تاريخ البشر شهد صدامات واحتكاكات حضارية كان اشهرها الاحتكاك الاسلامي- المسيحي سواء عبر الحروب الصليبية في الشرق الاوسط او في الاحتكاك المعرفي في اسبانيا، الا ان هذه الاحتكاكات كانت السبيل المتوفر للتكامل والتبادل بين الحضارات والشعوب، وصولا الى عولمة الحضارة الانسانية في مرحلتها الثالثة الحالية. وصحيح ان بعض الشعوب تتمسك في بداية الاحتكاك بالحضارات الاخرى، بمفهوم الخصوصية الحضارية، الا ان الغلبة تكون دائما للاندماج الحضاري، كما حصل في الاصطدام بين المغول والمسلمين، وبين المسلمين والاوروبيين المسيحيين، او بين مختلف شعوب العالم منذ الثورة المعلوماتية اعتبارا من النصف الثاني من القرن العشرين وبدء حقبة الانتروبوسين التاريخية الكبرى.

كل هذا يؤكد مقولتنا التي جعلنها عنوانا لهذا المقال، وهي ان الحضارة ظاهرة انسانية، وهي حصيلة الجهد البشري المشترك من اجل تطوير الحياة وتحسينها بالاستفادة من الطبيعة وخيراتها وكنوزها التي سخرها الله للانسان وطلب منه ان يسعى في مناكبها واكتشافها واستثمارها، وهي خيرات اثبت التاريخ انها لا تنضب مصداقا لقول القران الكريم الذي خطّأ نظرية مالتوس التشاؤمية القاصرة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ? وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ? وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ? وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ".

وقد اصاب السيد محمد باقر الصدر في فهم هذه الاية حيث قال: "فهذه الفقرات الكريمة تقرر بوضوح ان الله تعالى قد حشّد للانسان في هذا الكون الفسيح كل مصالحه ومنافعه، ووفر له الموترد الكافية لامداده بحياته وحاجاته المادية، ولكن الانسان هو الذي ضيع على نفسه هذه الفرصة التي منحها الله له بظلمه وكفرانه: ان الانسان لظلوم كفار.

فظلم الانسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الالهية هما السببان الاساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الانسان، ويتجسد ظلم الانسان على الصعيد الاقتصادي في سوء التوزيع ويتجسد كفرانه للنعمة في اهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها. فحين يمحى الظلم من العلاقات الاجتماعية للتوزيع، وتجند الطاقات للاستفادة من الطبيعة واستثمارها تزول المشكلة الحقيقية على الصعيد الاقتصادي".

دولة حضارية

وهذا ما يتكفل به المركب الحضاري والقيم الحافة به، او بعبارة اخرى: الدولة الحضارية الحديثة. والدولة ظاهرة بشرية، بمعنى انها تمثل احدى مراحل التطور السياسي والاقتصادي للبشرية. لكن الانسان في فجر الحضارات آمن بالاصل السماوي (الالهي) للدولة.

وهذا ما ورد في الاثر التاريخي المهم المعروف باسم "اثبات الملوك السومرية"، الذي يقول طه باقر بشأنه انه من المرجح انه كتب في عهد سلالة اور الثالثة (2112-2004ق م)، حيث جاء في هذا الاثر ان "الملوكية هبطت من السماء". وكان من بقايا هذا الاعتقاد نظرية الحق الالهي في الحكم، وهي النظرية التي آمن بها ملوك اوروبا في العصور الوسطى.

ولكن البشرية واصلت تطورها في اقامة الدول، ومرت بتجارب كثيرة بعضها مريرة جدا، حتى وصلت الى ما اطلقتُ عليه اسم "الدولة الحضارية الحديثة"، وهو مصطلح قد لا تجده في كتب القانون الدستوري والعلوم السياسية. وهو مصطلح يتجاوز الحمولات الايديولوجية التي تحملها مصطلحات اخرى مثل مصطلح الدولة الشيوعية او الدولة الإسلامية او الدولة الرأسمالية.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق