q
شعب يسرق اثاره، ويبيعها الى التجار، شعب لم يحافظ على معامله ومصانعه ولم يستطع ابتكار حتى ماركة صناعية واحدة يفتخر بها على الأقل بين أبناء شعبه، ودعك عن الافتخار بها بين الشعوب، فهو حلم لن يصل اليه، شعب يعدم نخيله كل يوم ويقيم على انقضاها...

لا أجزم إن ما أقوله "ينطبق" على كلّ العراقيين، لكنه على أقل تقدير، ظاهرة مرئية في العالَميْن الافتراضي والواقعي. ليس لي إلا ان أرصد مشاهد و "لقطات" تستعير سلوكيات جمعية، ترسم صورة الشعب العراقي، باعتباره صاحب عقل خرافي، طوطمي، تواق الى الانبهار بالأساطير، ما يدعو الى السؤال عن الذي طرأ على هذا المجتمع، الذي يهذي ليلا ونهارا، بانه صاحب الحضارة الموغلة في التاريخ، وانه وارث حضارات سومر وآشور، وبابل، لكنه ينحدر في سلوكه، وانجازه، بعيدا عن مثل هذا "الادعاء".

الأمر المٌحقّق، ان الشعب العراقي على حاله اليوم، لا يمثل قطعا، أقوام حضارات سادت ثم بادت، على نفس الأرض، كما انه أمر محسوم، ان شعب الحاضر لا يشكل امتدادا لها، على ضوء القياسات المجتمعية وعلوم المقارنة.

هنا ينبلج السؤال: هل الشعب العراقي الذي يصف ذاته بانه ذو عقل جبار وإرادة عظيمة، وحضارة عريقة، قد انقرض؟، سيعترض كثيرون، ويوصمون المقال، بالشعور بالدونية، وجلد الذات، بل والتآمر، وتشويه الصورة، مقابل ثمن، لكن.. الحقيقة، مرّة ومريرة.. والشجاع من يجهر بها.

نقول لهم: شعب يفتخر بحضارة بابل، لكنه يصعد على أسدها ليلتقط صورة، فيما الشعوب الواعية المتحضرة، تعيد بناءها افتراضيا على شكل فيديوات وخرائط وعوالم مذهلة، شعب يزعق في الصباح والمساء، ضد الفاسدين، ثم يعيد انتخابهم، ويظل يصرخ ضدهم.. ويعرف جيدا، ماذا كانوا عليه من حرمان، وأين اصبحوا في ترف الأرصدة، والفلل، والأطيان، من دون ان يسألهم: من أين لكم هذا؟.

شعب يحتفل في أحزانه وأفراحه بإطلاق الرصاص، من أعتى الأسلحة النارية، ويزحف الى مدينة الطب في مسيرة عشائرية ترفع اعلام القبيلة، وهتافات تقض مضاجع المرضى الراقدين، شعب يعبر البحار الى دول أوربا، هاربا من "الوطن العظيم"، متسلحا بالحكايات عن الاضطهاد السياسي والاجتماعي والمذهبي، وغياب القانون، وتهديد المسلحين، ثم يقول: أنا من بلد عريق، مواطن يتّصل عشرات المرات بـ "أبو علي الشيباني" كي يشفي ابنه من مرض السرطان، شعب يخترع كل عام، العشرات، من الاولياء الصالحين، ويبني لهم أماكن عبادة للاسترزاق، من دون حسيب او رقيب.

عراقيون يتصلون بالقنوات الطائفية لشتم رموز مذهب آخر، وينبشون سنوات في التاريخ، لتفجير العُقد من جديد، فالشيعي ينتقص من السني، والسني يترصد للشيعي، شعب ينعت الحكومة بـ"الصفوية" اذا عزّزت علاقتها بإيران، ويشتمها ويتهمها بالخيانة اذا وطّدت الوشائج مع السعودية.

شعب لا يفكر بمنطقية ويتداول القصص والاخبار على طريقة، "سمعت"، و"قال فلان بعد أن اقسم بالله"، متداولا شائعات وأكاذيب وفيديوهات مفبركة، ما انزل الله بها من سلطان، شعب يلهث وراء أكاديمي يظهر في مقطع فيديو ويقول "انا مستعد لإصلاح الكهرباء في العراق في ستة اشهر، وسوف امْتنع عن استلام راتب أو أية امتيازات، أريد ان اصلح الكهرباء فقط!"، شعب ينتظر من شركات التنقيب الأجنبية ان تحفر له في أرض سومر وبابل وأكد، ولم يستطع منذ اعلان دولته، التأسيس لمؤسسة رصينة تنقب عن اثاره.

شعب يسرق اثاره، ويبيعها الى التجار، شعب لم يحافظ على معامله ومصانعه ولم يستطع ابتكار حتى "ماركة" صناعية واحدة يفتخر بها على الأقل بين أبناء شعبه، ودعك عن الافتخار بها بين الشعوب، فهو حلم لن يصل اليه، شعب يعدم نخيله كل يوم ويقيم على انقضاها فللا خالية من الخدمات والماء والكهرباء، يلعب في أرجاءها الغبار.

شعب يعتقد ان برميل النفط، وحده، يكفل له الحياة الكريمة والعيش الرغيد، فلا حاجة الى ضرائب، ولا يتوجب عليه دفع فواتير الماء والكهرباء، والسيارة، والتلوث، شعب يصدّق بان وزير داخلية يثقب "بنفسه" رؤوس السجناء بـ"الدريل".

شعب توسّل الى أمريكا لكي تنقذه من صدام حسين، ثم نسِي او تناسى أربعة عقود من القتل والتعذيب والمقابر الجماعية والحصار الاقتصادي، والجوع، والاعدامات، ليحنّ من جديد الى تلك الحقبة.

شعب ينشر بحرية مطلقة في فيسبوك وتوتير، يشتم الجميع، مسؤولين وأحزاب، وطوائف ومذاهب، وقوميات، وأثنيات، وشعوب، من دون حسيب او رقيب او عقوبة، ثم يتباكى على حرية الرأي، شعب متطرف الرأي، فالذي لا يؤمن بالعلمانية، يكفّر المعتقدين بها، شذوذا والحادا وكفرا.. فيما العلماني المتعصب يرى في الدين، رجعية، وظلامية، وتخدير، شعب يعتقد ان كل مشاكله، مؤامرة اسرائيلية أمريكية قطرية سعودية إيرانية تركية.

شعب يخرّب الممتلكات العامة، ومؤسسات الدولة، ويرمي أوساخه ومخلفاته في الشارع والنهر والساحة، مجتمع لا يزال يعزف اسطوانته التي لم ولن يسمعها أحد، في انه أذكى شعوب الأرض، وان الطفل العراقي هو الأكثر نباهة، وان الرجل العراقي هو الأكثر شجاعة، شعب يصيبه الغرور اذا ما نالت فتاة عراقية لم تولد في العراق، ولم تر العراق، شهادة جامعية في أوربا، فتمطر سماء الفيسبوك بالإعلانات من مثل "انها حفيدة سومر واشور" وان "العقل العراقي هو الأكثر ابداعا".

شعب غير قادر على التحليل، والمنطقية في الاستنتاج، ولا يزال ينبهر حين يرى البيضة وقد رسمت خطوطها الطبيعية ما يشبه "لفظ الجلالة"، مثلما يصدق ان موجات الغبار مؤامرة لتدمير بيئة العراق، وان الأمريكان نشروا بيوض أفاعي وحيوانات مرعبة في العراق، وان درجات الحرارة العالية، صناعة أمريكية لتدمير البلاد.

شعب ينسى تاريخ أكبر مجرم لمجرد انه أصبح مسؤولا، أو ذا سطوة، و اذا وجد "اللص" الذي سرقه وهو يؤدي طقوسه في مكان مقدس، فسوف يقبّل يديه.

شعب اتكالي، حتى في التغيير، فلايزال يأمل في أمريكا التي خلصته من صدام في حدث نادر لم يشهد له التاريخ مثيلا من قبل، ان تعود وتغزو بلاده مرة أخرى لتنقذه من الحال الذي هو فيه، شعب يمارس الفساد من الموظف الصغير الى المسؤول الكبير، والتاجر، ورجل الاعمال، والبقال، والشرطي، ويصرخ كل اليوم "حاربوا الفاسدين".

شعب يتقاسم أموال المقاولة الفاسدة، فيه، المسؤول الحكومي، والمهندس، والمقاول، والموظف الصغير، شعب، الفرد فيه يبني قصرا جميلا، مترفا، وأمام عتبة هذا القصر، تتضخم النفايات، والقمامة التي هي مخلفات اهل القصر نفسه، لكن الامر لا يعنيه طالما انه خارج حدود مملكة الأسرة.

الأمثلة كثيرة، و"الفتق اكبر من الخرق"، والعقل العراقي في الكثير من انبهاراته وانذهالاته واستنتاجاته لايزال بعيدا جدا في القدرة على الاستنتاج العقلاني، والتحليل العلمي، والابتكار، شعب، يغرق في النفاق الاجتماعي والسياسي، والخرافة، بلا قرار، أسفي على ذلك.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق