q
ماذا لو علمت أنّ غيتس جمع ثروته على جثة مبرمج عبقري لم يعرف كيفية التسويق لنفسه وأعماله؟ يُصادف 6 تشرين الأول، ذكرى توقيع عقد بين غيتس وشركة آي بي إم IBM الأميركية على حساب مبرمج أميركي فذّ يُدعى غاري كيلدال، اليكم القصة الكاملة...

احتفل بيل غيتس بعيد ميلاده الـ64 قبل أيام قليلة، وإذا كنت تتساءل ما يمكن أن يهديه أي شخص لرجل يمتلك 106.9 مليارات دولار، فمقال في جريدة The Observer أكدت أنه لا يكترث بـ«الجزء المادي من الهدية».

قد تكون هذه الجملة، التي تصوّر تواضع غيتس، مأخوذة من دروس العلاقات العامة والتسويق، إلا أنها تحتوي على شيء من الصحة: غيتس لديه الشهرة والمال، وفوق الاثنين، لديه احترام ملايين الناس الذين يعتبرونه قدوة في عالم التكنولوجيا وعبقرياً في ريادة الأعمال، ورائداً في الأعمال الخيرية.

لكن، ماذا لو علمت أنّ غيتس جمع ثروته «على جثة» مبرمج عبقري لم يعرف كيفية التسويق لنفسه وأعماله؟ يُصادف اليوم، 6 تشرين الأول، ذكرى توقيع عقد بين غيتس وشركة «آي بي إم» IBM الأميركية على حساب مبرمج أميركي فذّ يُدعى غاري كيلدال.

في عام 1980، كانت شركة «آي بي إم» (أكبر شركة للصناعات التكنولوجية وقتذاك) قد صنعت أوّل حاسوب للاستخدام الشخصي يحمل اسمها. وبقي أن تبحث عن نظام تشغيل للحاسوب (برنامج يدير القطع الإلكترونية والبرامج داخل الحاسوب ويعطي المستخدم واجهة مرئية على الشاشة تمكّنه من استخدامه).

وبالرغم من أنّ «آي بي إم» كانت سبّاقة في عالم التجهيزات الإلكترونية، إلا أنه حين وصل الأمر إلى نظام التشغيل، تبيّن أنها في حاجة إلى البحث خارج أسوار الشركة.

وهنا تبدأ الحكاية، هرع ممثلون عن «آي بي إم» إلى «مايكروسوفت»، حيث التقوا بيل غيتس، مؤسّس وصاحب الشركة.

وقبل أن يفصحوا لغيتس عن سبب زيارتهم له، طلب هؤلاء من غيتس توقيع اتفاق «السريّة» – أي عدم الإفصاح عمّا جاؤوا لطلبه، خصوصاً أن ّالمنافسة في هذا المجال كانت محتدمة، وكان حاسوب «أبل» الشخصيّ «أبل 2» الصادر عام 1977، بدأ يستحوذ على حصة من السوق.

حين سأل ممثّلو الشركة غيتس ما إذا كان في إمكان «مايكروسوفت» أن تنتج نظام تشغيل لجهازهم الجديد، أجاب غيتس بأنّ شركته لا تمتلك نظام تشغيل خاص بها، ونصح ممثّلي «آي بي إم» بالذهاب إلى غاري كيلدال.

في ذلك الوقت، كان كيلدال معروفاً جداً في الوسط التكنولوجي، كما بيل غايتس في وقتنا الراهن. تميّز خصوصاً بشغفه بالبرمجيات، وعدم إخفاء الأسرار، كاشفاً عن أعمال شركته «ديجيتال ريسرتش» في كل المقابلات التي كان يجريها. كان كيلدال أخلاقياً وسط قطيع من المنافسين الشرسين، واكتسب كيلدال لقب «الأب المؤسّس» لأنظمة التشغيل عن جدارة.

ففي عام 1972، ابتكر ابن الثلاثين سنة آنذاك أوّل نظام تشغيل يناسب الحواسيب الشخصية CP/M (Control Program for Microcomputers)، والذي أتاح إمكانية تخصيص نظام تشغيل واحد لمختلف انواع الحواسيب بعد أن كان كل نوع من الحواسيب يحتاج إلى نظام تشغيل خاص به.

صفقة سريعة وقذرة

تتقاطع المعلومات هنا، إذ يؤكّد بعض المقربين من كيلدال حصول اللقاء، إلا أن اتفاق «السرية» لم يُرض كيلدال، أضف إلى ذلك أنّ «آي بي إم» أرادت شراء «سي بي إم»، وامتلاك حقوقه القانونية.

في الجهة المقابلة ينفي آخرون حصول هذا اللقاء، ويقولون إن كيلدال صعد على متن طائرته الخاصة للذهاب إلى مقابلة عمل في ذلك اليوم، وأن فريق «آي بي إم» اجتمع مع زوجته دوروثي التي أسّست، إلى جانب غاري، شركة «ديجيتال ريسرتش».

في كلتا الحالتين، خرج ممثّلو «آي بي إم» خالي الوفاض، عائدين إلى بيل غيتس.

هذه المرة، لن يترك غيتس الفرصة تضيع، فقال لممثّلي الشركة إنّ «مايكروسوفت» تستطيع إنشاء نظام تشغيل لهم، غير أنّ ما فعلته «مايكروسوفت» هو شراء نظام تشغيل من إحدى شركات البرمجة الناشئة بمبلغ 75 ألف دولار، وكان اسمه Q-DOS (the quick and dirty operating system)، أو نظام التشغيل السريع والقذر.

ولا عجب في هكذا تسمية، إذ أن سطور البرمجة لـ Q-DOS كانت مسروقة من نظام كيلدال «سي بي إم». وهكذا ببساطة، أصبح لـ«مايكروسوفت» نظام تشغيل يأتي مع حاسوب «آي بي أم» الجديد تحت اسم PC-DOS، الحاسوب الذي فاقت مبيعاته كل التوقّعات، وأقصى شركة «أبل» من المركز الأول.

عندما استشعرت «آي بي إم» خطر مقاضاتها نتيجة استخدامها برمجيّات مسروقة، ذهبت إلى كيلدال واتفقت معه على أن تعرض حاسوبها الجديد مع نوعين من أنظمة التشغيل: PC-DOS و«سي بي إم»، على أن تترك الخيار للمستخدم. المشكلة هنا، أنّ «آي بي إم» عرضت PC-DOS بـ 40 دولاراً، بينما بلغ سعر «سي بي إم» 240 دولاراً، وكان واضحاً أيّ نظام سيختاره المستخدم.

شغف كيلدال بالاختراع وليس المال هو ما حرّكه، وفيما حاول جاهداً التأقلم مع ما حدث، إلّا أنّ شبح الحادثة مع «آي بي إم» ظلّ يرافقه في كل مقابلاته. طارده سؤال الصحافيين: «كيف تركتَ ذلك يحدث؟»، بينما كان يتوقّع أن يسألوه عن آخر إنجازاته.

وليزيد الأمر سوءاً، انفصل الثنائي المبدع دوروثي وغاري كيلدال، وانصرف الأخير إلى كآبته وأصبح يتناول الكحول بشكل مفرط، ويتنقّل من حانة إلى أخرى، ليموت بعد تلقّيه ضربةً على الرأس في إحدى الحانات عام 1994.

مأساة كيلدال كانت نعمة بالنسبة إلى غيتس

فبعد شهرة نظام PC- DOS، بدأت شركة «مايكروسوفت» ببيع نظام التشغيل لكل الشركات المنافسة لـ«آي بي إم»، تحت اسم MS-DOS واستبدلت كلمة قذر Dirty بـ Disk، ليصبح الاسم كاملاً Microsoft Disk Operating System، جنى بيل غايتس المليارات وتربّعت «مايكروسوفت» على عرش شركات البرمجيات حتى يومنا هذا.

في الثامن من تمّوز/ يوليو 1994، وقع كيلدال على رأسه في إحدى حانات مونتيري (كاليفورنيا)، وفي حين تبقى ظروف إصابته غامضة، تقول بعض الروايات إنه وقع من على الكرسي في البار. ولكن الأكيد هو أنه كان مدمناً على شرب الكحول في السنوات الأخيرة قبل وفاته.

توفّي كيلدال بعد الحادثة بثلاثة أيام (11 تموز)، دخل خلالها إلى المستشفى مرتين. نعاه بيل غيتس بالقول إنه كان واحداً من «روّاد ثورة الكومبيوتر الشخصّي»، و«عالم كومبيوتر مبدع، قام بعمل ممتاز. بالرغم من أننا كنا متنافسين، فأنا لطالما احترمت مساهماته في مجال صناعة الكومبيوتر. موته المفاجئ كان مؤسفاً جداً، وسنفتقد أعماله»، ولربما في التذكير بإنجازات شخص عمل بشغف وابتكر لحُبّه التكنولوجيا هديةً تفوق «الجزء المادي» من أي هدية أخرى.

اضف تعليق