q
تجد البلدان المتحولة نفسها امام ثلاث حالات، اما انشاء نظام سياسي حديث يتلاءم مع متطلبات العصر، او فوضى عارمة تدمر المؤسسات القديمة وتعيد البلاد الى حالة اللادولة، او ركوب نظام ديكتاتوري لحالة التحول وحكمه للبلاد بقبضة حديدية، وقد لا تكون الحالات الثلاث التي ذكرناها مستقلة بذاتها...

تجد البلدان المتحولة نفسها امام ثلاث حالات، اما انشاء نظام سياسي حديث يتلاءم مع متطلبات العصر، او فوضى عارمة تدمر المؤسسات القديمة وتعيد البلاد الى حالة اللادولة، او ركوب نظام ديكتاتوري لحالة التحول وحكمه للبلاد بقبضة حديدية.

وقد لا تكون الحالات الثلاث التي ذكرناها مستقلة بذاتها، بل ربما تكون نقاط عبور نحو نظام اكثر تكاملاً مستفيدا من رحلته بالتجريب بين الديكتاتورية والفوضى الى الدولة الحديثة، والتي غالبا ما تكون ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وتعتمد على نظام مؤسساتي يمارس العدالة بين المواطنين ولا يميز بين احدهم بالدين او العرق او اي افرازات تتسم بضعف مستوى العدالة.

الدولة العراقية واحدة من دول العالم التي تنطبق عليها بعض النظريات السياسية، فقد مرت بتحولات جذرية منذ عام ١٩٢٠ حين انهت بريطانيا سيطرة الدولة العثمانية وحاولة وضع اسس لنظام سياسي حديث، فبدأت بوضع الهيكل الجديد للمؤسسات المدنية القائمة على الغاء النظام العثماني غير المنسجم مع روح الحداثة، وارست نظاما سياسيا ومؤسسات بيروقراطية وجيش ونظام تعليمي جديد، لكنه لم يصل الى مرحلة النضج فالتجربة البريطانية واجهت بعض المصاعب بينها اسباب ترتبط بالتجربة نفسها باعتبارها لم تولد من المجتمع انما كانت مستوردة، واخرى ترتبط بالجماعات التي شعرت بضرب مصالحها الداخلية، واخرى نتيجة لافرازات النظام الجديد، مثل صعوط طبيقة العسكريين والنفوذ الذي تمتعوا به.

لم تصل التجربة البريطانية الى عمر الثلاثين حتى انهارت على يد انقلاب عسكري قاده ضباط الجيش وانهوا بذلك الحكم الملكي واسسوا لجمهورية جديدة، ورغم ان الجمهورية لم تاتي بجديد حقيقي كما فعل البريطانيون ابان انهائهم التجربة العثمانية لكنهم اسسوا لمرحلة اخرى من الفوضى بدل المؤسسات، وحكم الفرد الواحد بدل المشاركة، لتواجه البلاد عشرين عاما من الانقلابات استقرت عند انقلاب صدام حسين على احمد حسن البكر، وبداية حقبة ديكتاتورية استمرت 24 عاما، ابسط وصف لها بانها حقبة الحروب والتدمير والافقار للشعب وتبديد ثروات البلاد، من حرب السنوات الثمانية الى غزو الكويت والحصار الاقتصادي الى انهيار السيطرة البعثية على البلاد لتستولي الولايات المتحدة الامريكية على ركام الدولة، وشعب جائع ونظام اقتصادي ريعي مثقل بالديون.

جاءت الولايات المتحدة الامريكية بشعارين: الاول تخليص العراق والعالم من مخاطر الاسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا (وهو اكذوبة) والثاني تاسيس نظام سياسي جديد قائم على الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه وتحويل العراق الى انموذج للدولة الحديثة في الشرق الأوسط (وهو اكذوبة ايضاً)، هي جاءت لتعديل مسار التوازنات في الشرق الأوسط، والعراق خطوة أولى نحو تحقيق الهدف، لا يهم من يحكم، ولا يهم تقدم البلد او تاخره، فهو معسكر امريكي خارجي لا اكثر، ان جاع اهله نلقي اللوم على من يحكمون ونغيرهم، وان سادت الفوضى فلا يهم ما دامت تخدم سياسة عسكرة العراق.

بعد ستة عشر عام جرت خلالها اربع دورات انتخابية مع انتخابات للجمعية الوطنية واستفتاء على الدستور، تعود الحالة العراقية اليوم لتشابه ما كان يجري خلال حقبة الجمهورية الاولى، فلم تاتي واشنطن بجديد على العراق سوى الانتخابات وهي شكلية وغير مفيدة لان المناصب والحكومة يتم تشكيلها بتوافقات دولية ويبقى على قادة الداخل التوقيع فقط، الهيكل العام لمؤسسات الدولة بقي على حاله، والانهيار ازداد اكثر من ذي قبل، فقد دمر الحاكم المدني بول بريمر المؤسسة العسكرية التي بناها البريطانيون منذ عام ١٩٢١، ومعها مؤسسة الشرطة واجهزة الامن الداخلي، اما على مستوى الاقتصاد فلم يصلح الامريكيون الاقتصاد، وزادوا من الاعتماد على النفط ومعه ازداد الاعتماد على التوظيف الحكومي دون اي وجود للقطاع الخاص الا في نطاق مصلحة القوى المتنفذة.

للتجربة الامريكية الجديدة في العراق خمسة اعراض مرضية خطيرة:

اولاً: تغييب الكفاءة وإعطاء الأولوية للولاء للحزب الحاكم او حتى للدول الخارجية، ما يعني ان أي شخص يمكنه الحصول على منصب حكومي شريطة توفر الولاء فيه.

ثانياً: غياب الرقابة، وهي مرتبطة بالنقطة الأولى، فالاحزاب قد تحمي الفاسد لمجرد انه ينتمي اليها، او قد تحميه الدول الخارجية لمجرد انه يحمي مصالحها، ما يعني ان الرقابة تكون فعلا منافياً للواقع.

ثالثاً: انتشار الولاءات الثانوية وغلبتها على الولاء للقانون، بحيث يمكن ان يعاقبك عضو بالبرلمان عشائرياً بدل ان يلجأ للقضاء في حال اختلفت معه، وحدث هذا اكثر من مرة.

رابعاً: كبت للاصوات الشعبية، وظهور تذمر عام، لكنه مخفي خشية التعرض للسجن او الانتهاك، لكون المواطن لا يملك من يدافع عنه مثلما يحصل مع أصحاب الولاءات الحزبية او الولاءات الخارجية.

خامساً: ظهور فكرة الانتقام الشعبي والحلول السريعة الحازمة، وبروز اصوات تطالب بحاكم قريب من الشعب يضرب القانون عرض الجدار، ويحكم بعنف، ويعلق جميع من يكرههم الشعب بالتقاطعات المرورية بدون سند قانوني، فالمواطن يعتقد اليوم ان لا امل الا بوجود قبضة حديدية تعيد الامور الى نصابها، وتخلص البلاد من حالة الفوضى المتراكمة، وعلى اقل تقدير توقف النزيف.

الرغبة الشعبية في التحديث مع استمرار الاستعصاء عن الاستجابة من قبل القوى الحاكمة ينذر بما هو اسوأ للجميع، وبروز شعور بان ما سبق التجربة الديمقراطية افضل منها، وان ما كان يعتبر املاً للتحديث بات توزيعاً للنفوذ بين الدول، فكيف يمكن التعويل عليها مستقبلاً، يقول بعض المواطنين ان اكتشاف هذا الحجم من التخريب يجبرنا على العودة الى ما قبل ٢٠٠٣ على اقل تقدير كنا نملك بعضا من الدولة، وقليل من المؤسساتية، وقليل من الفوضى ايضا، حتى وصل الى المطالبة بعودة حكم البعث، ولم يعد التمجيد بزعيمه صدام عاراً، انما هناك الكثير ممن يمتدحون سياساته علانية.

هي اعراض لمرض خطير أصاب جسد الدولة العراقية، يقلل المناعة من انتشار حب الديكتاتورية، تبدأ الاعراض من مطالبات بسيطة بنظام حكم رئاسي وانهاء عمل مجالس المحافظات، وانهاء مجلس النواب، وتنتهي بانتخاب حاكم شعبوي يلعب على مشاعر الشارع، فيركب الموجة، ومن ثم يحمل السيف ضد جميع من يعارضون حكمه، يبدأ باعدامات انتقائية لبعض معارضيه بتهمة الفساد، وينتهي بتوسيع السجون والقاء الشعب هناك.

اضف تعليق


التعليقات

محمد علي
العراق
صديقي العزيز؛ في الحديث عن التحول، اعتقد ينبغي تسليط الضوء على مستوى الوعي السياسي للجماهير، فهم من الديكتاتورية العسكرية كما أشرت، الى الديمقراطية والنظام البرلماني مرة واحدة. كمن لم يجرب ركوب دراجة هوائية، ثم يضعوه في قمرة قيادة سيارة سباق نفاثة، الى اين يذهب...؟!! وهذا تحديداً ما كان يريده الاميركيون، أما الدعوات بعودة صدام وغيرها ما هي إلا ردود فعل نفسية بسبب ما يعيشونه اليوم، وإلا هم يعرفون ماذا يعني عهد صدام حسين.2019-08-07