q
تواجه الحكومات الديمقراطية تحديين رئيسيين في محاولة إحياء العقود الاجتماعية في بلدانها. إذ يتعين عليها أن تضمن إقامة شبكة أمان قوية وفعّالة من خلال تكييف السياسات الاجتماعية وسوق العمل مع عالم العمل الجديد. كما يتعين عليها أن تتخذ خطوات ملموسة نحو توفير المنافع العامة العالمية...
بقلم: كارولين كونروي/كمال درويش

واشنطن، العاصمة ــ كان نجاح الديمقراطية على النمط الغربي بعد الحرب العالمية الثانية قائما على العقود الاجتماعية الوطنية: فقد دفع المواطنون الضرائب، ووفرت الدولة الظروف الملائمة لتحقيق التقدم الاقتصادي المضطرد، وعملت على تأمين الوظائف، وإقامة شبكات الأمان الاجتماعي، وفرض سياسات إعادة التوزيع التي ضيقت الفجوة بين المالكين والعمال. ورغم أن درجة إعادة التوزيع وتوفر الوظائف الآمنة كانت متفاوتة بين الدول، فإن الغالبية العظمى من المواطنين صدقوا هذا الترتيب ودعموه.

ولكن في السنوات الأخيرة، أدت العولمة إلى تآكل هذا العقد الاجتماعي من زمن ما بعد الحرب من خلال إضعاف الدولة القومية. وقد ساهمت زيادة التجارة العالمية والتدفقات المالية في تحقيق الرخاء، لكنها أسفرت أيضا عن خاسرين. واتسعت فجوة التفاوت في الدخول في العديد من الدول، ولم يعد من الممكن التسامح مع تركز الثروة عند القمة. علاوة على ذلك، تسببت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 في إضعاف الثقة العامة في التقدم الاقتصادي المضطرد.

والآن، تواجه الحكومات الديمقراطية تحديين رئيسيين في محاولة إحياء العقود الاجتماعية في بلدانها. إذ يتعين عليها أن تضمن إقامة شبكة أمان قوية وفعّالة من خلال تكييف السياسات الاجتماعية وسوق العمل مع عالم العمل الجديد. كما يتعين عليها أن تتخذ خطوات ملموسة نحو توفير المنافع العامة العالمية ــ مثل التصدي لمشكلة تغير المناخ ــ من خلال تأمين الدعم المحلي للتعاون الدولي.

لن تكون هذه بالمهمة السهلة. فقد ساعد الارتباك الاقتصادي، جنبا إلى جنب مع المخاوف المرتبطة بالهجرة واللاجئين، في جلب الشعبويين من القوميين الجدد إلى السلطة في العديد من الدول. على سبيل المثال، تسبب ازدراء رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب للقواعد العالمية والمؤسسات المتعددة الأطراف في زيادة المصاعب التي تواجهها الحكومات الوطنية الأخرى في محاولة إحراز التقدم في ما يتصل بالقضايا الاقتصادية والأمنية.

على الرغم من انخفاض معدل البطالة في عموم الأمر، فقد تسببت التكنولوجيات الجديدة والمنافسة المتزايدة من قِبَل الصين في خلق شعور قوي بانعدام الأمان في الاقتصادات المتقدمة. صحيح أن الاقتصاد الرقمي يحمل لنا وعدا عظيما، لكنه يعمل أيضا على تعطيل الأنظمة القائمة وتغيير طبيعة العمل ــ من خلال جعل الوظائف أقل أمانا وزيادة الحاجة إلى التعليم المستمر. ويصدق هذا أيضا في البلدان الناشئة.

يجب أن تكون الأولوية الأولى للحكومات إذن تحديث سياساتها الاجتماعية وسوق العمل بحيث تعكس هذه التحولات الرقمية. وبشكل خاص، لابد أن تصبح المنافع الاجتماعية قابلة للانتقال بالكامل و"مملوكة" للعمال، بدلا من كونها مرتبطة بوظيفة بعينها.

يدعو بعض المراقبين إلى تجديد العقد الاجتماعي من خلال تقديم دخل أساسي شامل تدفعه الدولة لكل مواطن بالغ. لكنهم لا يحددون بوضوح غالبا حجم الدخل الأساسي الشامل وما هي المنافع التي يجب أن يحل هذا الدخل محلها، لكن المخططات التي تسعى إلى تقديمه لكل المواطنين، حتى الأثرياء منهم، لا يمكن تحملها ببساطة. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، يكلف دولار واحد من الدخل الأساسي الشامل كل شهر ما يعادل الميزانية الفيدرالية بالكامل.

ربما يكون الخيار الأفضل فرض ضريبة دخل سلبية سخية أو "دخل أساسي مضمون". على عكس الدخل الأساسي الشامل، قد يكون الدخل الأساسي المضمون أيسر تكلفة، وسوف يمنح الأشخاص الذين تقل دخولهم عن مستوى معين الحافز للعمل في حين يخلف تأثير إعادة التوزيع.

بالإضافة إلى هذا، من الممكن أن يحصل الموظفون على حسابات رقمية فردية حيث يكسبون نقاطا بمرور الوقت للإنفاق على إعادة التدريب والمزيد من التعليم. ومثل هذا المخطط معمول به بالفعل في فرنسا، ويمكن تمديده ليشمل التأمين ضد البطالة، والإجازات الشخصية، بل وحتى استحقاقات التقاعد. على سبيل المثال، يتصور المركز البحثي الفرنسي تيرا نوفا نظاما شاملا لجمع النقاط والذي يسمح للمواطنين باختيار حزمة المزايا الاجتماعية التي تناسب ظروفهم الفردية.

يتطلب نظام كهذا توفير الضمانات لحماية الخصوصية الفردية ومنع استخدام المعلومات الشخصية لتحقيق أغراض سياسية. ورغم أن الاختيار الفردي عامل جذب أساسي في مثل هذا النظام، فإن بعض الحماية ضد الحماقة أو التهور أمر مرغوب أيضا. ولكن مع هذه المحاذير، فإن نظام النقاط الذي ينطوي على فوائد قابلة للنقل بالكامل من شأنه أن يناسب عالم العمل الجديد ــ ومن الممكن أن يصبح حجر الزاوية لعقد اجتماعي متجدد.

تتمثل الأولوية الثانية للمجتمعات في ضرورة إدراج العناصر التي تيسر توفير المنافع العامة العالمية، وتمنع سياسات "إفقار الجار" التي تنتج منافع محلية قصيرة الأجل من خلال إلحاق الأذى بآخرين وتدعو إلى الانتقام، في العقود الاجتماعية المتجددة. ورغم أن أغلب السياسات تخلف تأثيرات محلية في المقام الأول، فقد بلغت العولمة مرحلة حيث لا يمكن تحقيق بعض النتائج إلا من خلال التعاون الدولي.

قد تكون هذه المنافع العامة العالمية من نمط "الحلقة الأضعف": فقد يؤدي عدم امتثال دولة واحدة أو قِلة من الدول إلى تقويض الجهود العالمية الرامية إلى معالجة مشكلة تؤثر على الجميع. ومن الأمثلة على ذلك الاستعداد للتصدي للأوبئة، ومنع الانتشار النووي، وتجنب السباق على القاع على معدلات الضريبة الوطنية. وبعض المنافع العامة الأخرى "تكاملية جمعية". على سبيل المثال، تعتمد الحماية الفعّالة للمناخ على مجموع جهود جميع البلدان للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

الواقع أن توفير المنافع العامة العالمية يمثل تحديا بالغ الضخامة، فمن غير الممكن بطبيعة الحال إنشاء عقد اجتماعي بين مواطنين وسلطة عالمية لا وجود لها. لكن توفير القدر الكافي من المنافع العامة العالمية يتطلب محاسبة الحكومات الوطنية على مدى تعاونها الدولي ونجاح هذ التعاون في تسليم مثل هذه المنافع.

الآن نشهد بدايات مثل هذا الارتباط بين المحلي والعالمي في ما يتصل بحماية المناخ. ففي انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، صوت ملايين المواطنين لصالح الأحزاب الخضراء التي جعلت مكافحة الانحباس الحراري الكوكبي على رأس أولوياتها. وقد ذهب بعض القادة، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى حد إلزام أنفسهم على المستوى الوطني بالتعاون الدول للتصدي لتغير المناخ. ويشير هذا إلى أن التعاون لتوفير أي منفعة عامة عالمية من الممكن أن يصبح جزءا من عقد اجتماعي وطني.

لا ينبغي لنا أن نهون من شأن صعوبة بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على هاتين الركيزتين. فربما يتردد دافعو الضرائب في قبول تكلفة توفير سياسات اجتماعية شاملة ومرنة تتفق مع العصر الرقمي. ربما يبدو توقع مطالبة المواطنين حكوماتهم بزيادة التعاون على المستوى الدولي ساذجا، وذلك نظرا للارتفاع الواضح للقومية الجديدة.

لكن العقد الاجتماعي المتجدد الذي يستجيب للطبيعة الجديدة للعمل والعولمة يشكل ضرورة أساسية للحد من انتشار انعدام الأمان والغضب الواسع النطاق حاليا، وضمان مستقبل الديمقراطية. وفي هذا الصدد، يوفر دعم الناخبين الشباب في مختلف أنحاء العالم للبرامج السياسية التي تضم كلا الركيزتين سببا قويا للأمل.

* كارولين كونروي، كبيرة محللي الأبحاث في معهد بروكينجز/كمال درويش، وزير الشؤون الاقتصادية السابق لتركيا والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وزميل أقدم بمعهد بروكينجز
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق