q
ظلّ مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي غير محدّد على نحو دقيق، الأمر الذي يثير التباسا واختلافاً وتعارضاً شديداً بخصوصه بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد، أو التقديس والتدنيس، تتشعّب وتتفرّع وتشتبك علاقة المجتمع المدني بالدولة العربية وامتداداتها الإقليمية وأهمها جامعة الدول العربية...

ظلّ مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي غير محدّد على نحو دقيق، الأمر الذي يثير التباسا واختلافاً وتعارضاً شديداً بخصوصه بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد، أو التقديس والتدنيس.

تتشعّب وتتفرّع وتشتبك علاقة المجتمع المدني بالدولة العربية وامتداداتها الإقليمية -وأهمها جامعة الدول العربية- لما فيها من قضايا وإشكاليات ومشكلات مختلفة ومتنوّعة ومتداخلة، وتصحبها هموم وأحزان عديدة وعقد كثيرة ومزمنة.

وذلك لما فيه من تجاذب واختلاف وائتلاف، بتسليط الضوء على جامعة الدول العربية وميثاقها الذي لم يتغيّر منذ تأسيسها وحتى الآن، والموقف من المجتمع المدني الذي تطوّر كثيراً وعَظُم دوره على الصعيد العالمي، وبات قوة مؤثرة وشريكاً يُحسب له حساب في اتخاذ القرار وتنفيذه، في حين لا يزال موضوع المجتمع المدني موضع شك وحذر، وأحياناً "اتهام" في العديد من البلدان العربية.

عندما تأسست جامعة الدول العربية يوم 22 مارس/آذار 1945، لم يكن مفهوم المجتمع المدني متداولاً على النطاق العالمي إلا على نحو محدود، وقد تأخّر استخدامه في العالم العربي إلى أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وانتشر في البداية في بعض بلدان المغرب العربي، ثم انتقل فيما بعد إلى بلدان المشرق العربي.

وبدأت تتشكّل مقاربات عربية للمفهوم بمراعاة بعض الخصوصيات والتمايزات، وبما يتواءم مع مستجدات الفكر العالمي المعاصر، الأمر الذي احتاج فيه إلى تبيئة وتوطين، من خلال دراسة الواقع وتطوّره في سياقه التاريخي المحلي والدولي.

وإذا كان مفهوم المجتمع المدني قد نشأ في أوروبا، فإنه -مثل غيره من المفاهيم- له أبعاد كونية. وحتى في أوروبا لم ينجز المفهوم دفعة واحدة ولا على يد مفكر واحد أو فيلسوف واحد، ولم يكن ذلك في بلد واحد، واقتضى الأمر زماناً ومكاناً متنوّعين، خصوصاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين.

وقد ساهم في تأصيله مفكرون وفلاسفة من اتجاهات مختلفة ومن مدارس فكرية متنوّعة، ويمكن الإشارة هنا إلى غروشيوس من فقهاء نظرية الحق الطبيعي، وفلاسفة مثل جون لوك وتوماس هوبز وباروخ سبينوزا ومونتسكيو وجان جاك روسو، وهؤلاء ينتمون إلى هولندا وبريطانياوفرنسا وسويسرا، وقد أسهم كل منهم بقسطه في تكوين مفهوم المجتمع المدني، إضافة إلى مساهمات كنتْ وهيغل وماركس وإنجلز وأوغست كونت وسان سيمون وألتوكفيل وآدم سميث ولينين وغرامشي وروزا لوكسمبورغ وكينز وماكس فيبر وغيرهم.

وفي العالم العربي ظلّ مفهوم المجتمع المدني غير محدّد على نحو دقيق، الأمر الذي يثير التباساً واختلافاً وتعارضاً شديداً بخصوصه بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد، أو التقديس والتدنيس. وبقدر ما يكثر الحديث عنه، يزداد الاختلاف حوله في الأوساط التي تتداوله وتنشط في إطاره، خصوصاً: ما الذي نعنيه بالمجتمع المدني؟ وبماذا يتميّز عن غيره من المفاهيم والأفكار المعاصرة؟ وما الشروط التأريخية لنشوئه بمعناه الحديث؟ وبعد ذلك: كيف يمكن تفعيل دوره في إطار المشاريع المطروحة لإصلاح جامعة الدول العربية؟

وبغضّ النظر عن تسمياته سواءً سمّي القطاع الثالث (بين القطاع العام والقطاع الخاص)، أو القطاع المستقل، أو المنظمات غير الحكومية، أو المنظمات غير الهادفة إلى الربح، أو غيرها، فإن هذه التسميات جميعها -وتسميات أخرى قريبة منها- تصف شيئاً واحداً هو وجود مؤسسات غير حكومية، وغير إرثية، وتطوّعية وحداثية وتعدّدية وديمقراطية، أي غير تقليدية، ومستقلة عن الجهاز الحكومي، وتشكّل قطاعاً وسطياً بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص.

وإذا كانت جامعة الدول العربية مؤلفة من حكومات وتعمل وفق سياساتها وخططها، وأحياناً دون مراعاة مصالح شعوبها، فإن الحقول المعرفية للمجتمع المدني تشمل قطاعات شعبية متنوّعة وفئات متعدّدة، حقوقية وتنموية وتربوية وثقافية وإعلامية وبيئية وصحية، أو في تخصّصات محدّدة بالدفاع عن حقوق المرأة والطفل أو حرّية التعبير أو مناهضة التعذيب أو ضد عقوبة الإعدام أو للدفاع عن حقوق المجموعات الثقافية أو الدفاع عن حقوق اللاجئين والعمالة الأجنبية. وتشمل هذه الأنشطة أيضاً الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مثل: الحق في العمل والتعليم والصحة وبيئة نظيفة والتمتع بمنجزات الثقافة والآداب والفنون والعمران وغير ذلك.

وقد لعب التطوّر الهائل في تقنيات الإعلام والمعلومات وثورة الاتصالات والمواصلات والطفرة الرقمية (الديجيتال) دوراً مهماً في اتساع نطاق المجتمع المدني العربي، الأمر الذي أظهر عجز الجامعة العربية عن مواكبة التطور العالمي في هذا الميدان، رغم محاولتها تعيين مفوض سام للمجتمع المدني عام 2001، إلا أن الأمر لم يكن سوى تطوّر محدود وأقرب إلى الشكلي منه إلى الدور الفاعل، وذلك تماشياً مع الموجة العالمية دون تحقيق مضمونها وأهدافها، لا سيّما أن ميثاق الجامعة لا يزال يفتقر إلى الإقرار بدور المجتمع المدني.

إن الحاجة اليوم تتّسع لإقامة علاقات تعاون وشراكة بين جامعة الدول العربية والمجتمع المدني وتعديل صيغة التعاون قانونياً، من خلال تعديل الميثاق وبما يوفّر مثل هذا التواؤم، وذلك بهدف الاستفادة المتبادلة لكل منهما من الآخر، ولخلق ديناميات جديدة تكفل تطوير البناء المجتمعي العربي.

إذا كانت الجامعة العربية بوضعها الحالي غير قادرة على الاضطلاع بمهمة استنهاضها بسبب التقييدات التي يفرضها ميثاقها، وعدم وجود إرادة سياسية موحّدة للإصلاح والتغيير، فهل بمقدور المجتمع المدني العربي الحالي القيام بمثل هذه المهمة؟ والأمر يتجاوز موضوع الميثاق وهيكليات وأجهزة الجامعة، ويدخل في صميم العلاقات العربية البينية التي تشهد تدهوراً خطيراً منذ قرابة أربعة عقود من الزمان، حين انقسم الموقف العربي بعد زيارة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات للقدس عام 1977، ومن ثم توقيعه على اتفاقيات كامب ديفد والصلح المنفرد 1978-1979.

وزاد الشرخ فيه غزو القوات العراقية للكويت يوم 2 آب/أغسطس 1990، وما تركه هذا الحدث الجلل من جروح عميقة لم تندمل حتى هذه اللحظة، ناهيك عن تراجع مكانة القضية الفلسطينية، لا سيّما بعد اتفاقية أوسلو عام 1993.

وكان الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 قد ترك تأثيراته الخطيرة على موقع جامعة الدول العربية، وفي ما بعد قصف ليبيا عام 2011 بعد أن طلبت الجامعة من مجلس الأمن فرض حظر جوي عليها، والاستغراق في العقدة السورية منذ العام 2011، وأخيراً انفجار المشكلة اليمنية عام 2015، وهذه كلّها عوامل جديدة في تعميق الانقسام وفي المزيد من التباعد والتشظي في الموقف العربي.

وبقدر ما تعاني الجامعة العربية من هذه القضايا السياسية، فإن الإشكالية تمتدّ إلى المجتمع المدني العربي لترابط ذلك وتلازمه مع المشاكل القائمة، ذلك أن مهمة إعادة الحياة والحيوية للعمل العربي المشترك وتجاوز نقاط الضعف والسلبية التي يعاني منها النظام الإقليمي العربي، يحتاجان إلى تفاعل على المستوى الرسمي والمستوى الشعبي، كما يتطلّبان تعزيز دور الدولة الوطنية وقدرتها على إنجاز مهمتها، خصوصاً في ظل التوجّه الخاص بتعزيز الحقوق والحريات على أساس المواطنة والمساواة، وبالطبع فإن التقدّم على هذا الطريق سيعزّز النظام العربي الإقليمي، مثلما يُسهم في تهيئة ظروف أنسب لتوثيق علاقته بالمجتمع المدني.

والأمر يحتاج أيضاً إلى إصلاحات شاملة، إذ لا يمكن تصوّر عدم اعتراف بلد بالمجتمع المدني أو التضييق عليه على المستوى الداخلي، وفي الوقت نفسه يتم تشجيعه في إطار الجامعة العربية. الإصلاح المفترض للجامعة وميثاقها وهيئاتها وأجهزتها، يتطلّب إصلاحاً في البلدان العربية التي تتألف منها الجامعة.

إن وجود دولة متسلّطة أو مستبدّة أو دكتاتورية أو شمولية سيؤدي إلى تقليص أو تهميش أو إلغاء دور المجتمع المدني، أي إن الدولة كلّما ازدادت تغوّلاً فإنها ستبتلع المجتمع المدني، فكيف يُطلب منها أن تساهم في تعزيز دوره على المستوى العربي؟ أو ليس ذلك ازدواجية صارخة وتناقضاً شديداً؟

بالمقابل فإن وجود مجتمع مدني قوي ودولة ضعيفة، سيقود إلى تعطيل دور الدولة بما يؤدي إلى ظهور كيانات موازية لها أو بدلاً عنها أو تعويضاً لها، سواءً كانت دينية أو طائفية أو عشائرية أو غيرها، والمعادلة الصحيحة هي وجود دولة قوية بمواطنتها وحرّياتها، مع وجود مجتمع مدني قوي ومتماسك، وذلك ما يحقّق التكامل والشراكة والتنمية في كل بلد عربي على انفراد وعلى المستوى العربي المشترك كجماعة إقليمية، ولدينا تجربة الاتحاد الأوروبي خير دليل على ذلك.

والسؤال المهم هو: كيف نصل إلى المشاركة الحقيقية بين جامعة الدول العربية والدول الأعضاء وبين المجتمع المدني؟ نقول إن ذلك يحتاج إلى الاتفاق على آليات عمل جديدة وتأطيرها، ويتطلّب من الطرفين للوصول إليه، بدلاً من عدم الاعتراف أو اللاّمبالاة، إذ لا يستطيع أحدهما أن يحلّق دون الآخر، والمقصود بذلك الحكومات التي تنحصر مسؤولياتها الأساسية في حماية الأمن والنظام العام وأرواح وممتلكات المواطنين، إضافة إلى توفير العيش الكريم.

من جهة أخرى المجتمع المدني -كمجموعات شعبية ومستقلة لا غنى عنها- لتحقيق التنمية المستدامة، والمشاركة في اتخاذ القرارات وتنفيذها، تعبير عن مصالح وتطلّعات الناس والفئات التي تمثّلها. وبالقدر الذي ينطبق ذلك على كل بلد عربي، فإنه يجد انعكاساته على العمل العربي المشترك.

إن شرعية الدولة اليوم -فضلاً عن شرعية الجامعة العربية- تقوم على اعتراف شعبي من جانب المجتمع المدني، فلم يعد ممكناً فرض "شرعية" بالقوة، وإذا ظلّت بعض الأنظمة تتشبّث بذلك فإنها ستصبح من تراث الماضي، ولا بدّ من مواكبة التطور باحترام الإرادة الشعبية. وبهذا المعنى فإن الجامعة التي تأسست باتفاق سبع دول وأصبحت اليوم 22 دولة، لا بدّ لها أن تستند إلى طيف واسع من الرأي العام، خصوصاً من جانب مؤسسات المجتمع المدني، وإلاّ ستكون الحكومات والجامعة التي تمثلها منظمة إقليمية معزولة عن شعوبها، وفي أحسن الأحوال تمثّل نخباً استعلائية منفصلة عن الواقع.

ولذلك يقتضي الأمر تقوية الدولة الوطنية مقابل تقوية المجتمع المدني وتعاونهما وشراكتهما لتحقيق الأهداف المشتركة بينهما، وفي مقدمتها التنمية المستدامة بجميع جوانبها. وكلّما تحقّق ذلك سترتفع مكانة الجامعة العربية والعمل العربي المشترك بجوانبه المختلفة، لا سيّما في توفّر إرادة سياسية بذلك.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق