q
ينفرد العراق عن بلدان المنطقة بأحداث تاريخية اسهمت في تشكيل الشخصية العراقية وشحنها بنقيضين المحبة والكراهية، نوجزها بالآتي: انه البلد الذي تؤخذ فيه السلطة بالقوة المصحوبة بالبطش بمن كانت بيده، وأنه البلد الذي سفكت على أرضه أغزر دماء المحاربين من العراقيين والعرب والأجانب، لاسيما...

ينفرد العراق عن بلدان المنطقة بأحداث تاريخية اسهمت في تشكيل الشخصية العراقية وشحنها بنقيضين المحبة والكراهية، نوجزها بالآتي: انه البلد الذي تؤخذ فيه السلطة بالقوة المصحوبة بالبطش بمن كانت بيده، وأنه البلد الذي سفكت على أرضه أغزر دماء المحاربين من العراقيين والعرب والأجانب، لاسيما: المغول والأتراك والفرس والانجليز...وأخيرا، الامريكان، وأنه البلد الذي نشأت فيه حضارات متنوعة ومتعاقبة، انهارت أو أسقطت بفعل صراع داخلي أو غزو أجنبي، وأنه البلد الذي تنوعت فيه الأعراق والأديان والمذاهب، في مساحة مسكونة صغيرة نسبيا، وانه البلد الذي سن القوانين واخترع اول آلة موسيقى واول اغنية حب والأكثر انتاجا في دواوين الشعر بالمنطقة.

وأنه البلد الذي كان مركز الشرق الاسلامي حتى الهند والسند، وحيث عاصمته كانت مدينة الخلافة الإسلامية، وانه بلد مفارقات اللامعقول الذي انجب قبل ألف عام مفكرين وعلماء على مستوى العالم، وانجب في الألفية الثالثة سفهاء يقتلون الآخر بسبب الطائفية.

ومفارقة نحن العراقيون منتجون: لطغاة، نرفعهم بثقافة الأهازيج للسماء حين يكونون بالسلطة ونمسح بهم الأرض حين يسقطون، ولثقافة من يفلقون رؤوسهم بالحراب من أجل التاريخ والموت فداء لمن ماتوا، ولثقافة فرهود.. حيثما حلّت بالوطن محنة، ومدّاحين للسلطة والسلطان.

ونــحن منتــجون: لثقافة مبدأ يشوى جسد صاحبها بالنار وما يتنازل، ولمناضلين أحتموا بالجبال وما أحنوا رقابهم لطاغية، ولمثقفين مبدعين من طراز رفيع، وأكاديميين أسسوا جامعات في بلدان عربية.

ان الحديث عن (الشخصية العراقية وخطاب الكراهية) يتحدد بما افسدته أحزاب الاسلام السياسي في هذه الشخصية. وللتوضيح فاننا نقصد باحزاب الاسلام السياسي هنا،تلك التي استلمت السلطة او شاركت فيها بعد التغيير (2003)،ونعني بـ(الشخصية) سلوك الفرد او تصرفاته،وحالته الوجدانية او انفعالاته،ونوعية ما يحمله من قيم أوافكار،وطرائق تعامله مع المواقف الحياتية والأجتماعية.ونقصد بـ(ما افسدته)..التغيرات السلبية التي احدثتها احزاب الاسلام السياسي في الفرد العراقي من حيث سلوكه وحالته الوجدانية وما كان يحمله من قيم وافكار.

وبدءا نشير الى ان النظريات التقليدية في علم نفس الشخصية التي تؤكد على ثبات سلوك الفرد واتساقه عبر الزمن وعبر المواقف، لا تنطبق على الشخصية العراقية، وان هذه النظريات التي ما تزال معتمدة بالمناهج الجامعية تجاهلت تأثير (السلطة) في الشخصية، وأن متابعتنا لتحولات الشخصية العراقية عبر ثلاثة عقود ونصف من الزمن يقدم اضافة معرفية نصوغها بما يشبه النظرية، هي: ان الشخصية تتغير عبر الزمن وعبر المواقف وان النظام السياسي له الدور الرئيس في هذا التغيير، وقدر تعلق الموضوع بخطاب الكراهية فان اخطر ما افسدته السلطة (بعد 2003) في الشخصية العراقية هو التعصب للهوية والمذهب.

وعلميا، يعني التعصب بمفاهيم علم النفس الاجتماعي والسياسي هو (الاتجاه السلبي غير المبرر نحو فرد قائم على اساس انتمائه الى جماعة لها دين او طائفة او عرق مختلف، او النظرة المتدنية لجماعة او خفض لقيمتها او قدراتها او سلوكها او صفاتها، او اصدار حكم غير موضوعي قائم على تعميمات غير دقيقة بشأن جماعة معينة).

ان اخطر انواع التعصب الذي شهده العراق وتجسدت فيه الكراهية بابشع حالاتها هو التعصب السلطوي الذي يأخذ شكل الحروب التي تصل أحيانا إلى حدَّ الإبادة البشرية، كالتعصب العرقي ضد الكرد، الذي مورس من قبل السلطات العربية التي توالت الحكم على العراق واشبعها الأنفال والتعصب الطائفي بإبادة آلاف الشيعة التي كشفتها المقابر الجماعية.

والمتعصب، في تحليلنا السيكولوجي، شخص مصاب بالحول الادراكي، ونعني به انه يعزو الصفات الإيجابية إلى شخصه وجماعته التي هو منها بخطاب المودّة والأنتماء، ويعزو الصفات السلبية إلى الجماعة الأخرى التي يختلف عنها في القومية أو الطائفة أو الدين بخطاب الكراهية والأقصاء. والمؤذي فيه انه في حالة حصول خلاف أو نـزاع بين الجماعتين فإنه يحّمل الجماعة الأخرى مسؤولية ما حدث من أذى أو أضرار، ويبرئ جماعته منها، حتى لو كانت شريكاً بنصيب اكبر في أسباب ما حدث. ومع ان هذا التعصب كان موجودا في مجتمعنا قبل التغيير لكن اعراضه ما كانت حادة..الى عام 2005 حيث انفجر بعنوان جديد هو صراع الهويات.

والمسألة المهمة سيكولوجيا هنا هي ان للهوية الدور الاكبر في تحديد اهداف الفرد وتوجيه سلوكه ونوع العلاقة التي تربطه بجماعة اجتماعية معينة او جماعات لاسيما في اوقات المحن والازمات..وهذا ما حصل بين عامي 2006 و2008 في العراق في احتراب راح ضحيته عشرات الالاف من العراقيين وصل الى مائة قتيل في اليوم (في تموز 2007)..اطلق عليه (الأحتراب الطائفي) فيما الأصح تسميته (أحتراب عقائدي) سخيف لا يساوي قطرة دم واحدة.

ولتقصي الأمر سيكولوجيا، فان اللاشعور الجمعي لجماهير الشيعة والسنة كان معبئأ اصلا بالكراهية الناجمة عن التعصب المذهبي، ولهذا فان احزاب الاسلام السياسي الطائفي الشيعي عزفت على وتر الضحية، فيما عزف نظراؤهم السنة على وتر المظلومية ليفوزوا في الانتخابات..وكان لهم ذلك، فالذي حسم الموقف في انتخابات 2014 هو الهويات الفرعية، على حساب الهوية الوطنية.

وبلغة الارقام فان ما يقرب من (11)مليون عراقي منحوا اصواتهم لهوياتهم الفرعية وان ما يقرب من مليون منحوها لهويتهم الوطنية،اي ان(85-90%) من العراقيين غلّبوا انتماءاتهم الطائفية، القومية، الدينية، العشائرية التي اشاعها خطاب الكراهية لأحزاب الاسلام السياسي على الشعور بالانتماء للوطن.. وانعكس ذلك سلبيا على الشخصية العراقية في مكوناتها الثلاثة: السلوك والوجدان والافكار، تمثلت في تراجع قيمة الحياة واستسهال قتل الآخر. ويعدّ الخطاب الديني المتطرف أخطر خطابات الكراهية والتحريض على العنف والعنف المضاد، الذي يستحضر (بخباثة) احداثا مضى عليها الف سنة ليثير دافع الثأر الجاهلي الكامن في اللاوعي الجمعي لدى الناس يحّول فيه العنف من قيمة منبوذة في الدين الى أمر (الهي) واجب التنفيذ. بل أنني أعتبر (الكراهية الدينية) هي اقبح الشرور وابشعها في القسوة والدافع الأقوى للأنتقام من الآخر، وآخر شاهد لها جريمة نيوزلندا في 15آذار 2019التي ارتكبها برينتون تيرانت (28) سنة، بقتله 49 انسانا دفعة واحدة يصلّون في مسجد وقام ببث مذبحته على الهواء مباشرة عبر الفيسبوك.

وكان من بين أفدح خسائرنا الناجمة عن خطاب الكراهية هو تهرؤ الضمير الأخلاقي بوصفه (الرادع) الذي يردعنا حين نهمّ القيام بفعل غير اخلاقي. وما لا يدركه كثيرون ان الضمير هو القوة الفاعلة والمؤثرة في السلوك والمواقف والانفعالات، وانه عندما يخفت او يغيب صوته يسود في المجتمع قانون قوة الشارع، وينقسم الناس الى جماعتين: اقلية قوية تمتلك السلطة والثروة ووسائل الاستبداد تمارسها بضمير قاس متحجر ميت، واكثرية فقراء وضعفاء ومغلوب على امرهم تضطرهم الى الاذعان وممارسة السرقة والغش والحيلة.. بضمير يبرر ممارسة كل رذيلة تؤمن لصاحبه العيش. ومن المفارقات التي لا تخطر على بال كثيرين ان تهرؤ الضمير أدى عند العراقيين الى عدم الالتزام بالقيم الدينية، والأيمان بغيبيات وأوهام ومعتقدات ماضوية كثير منها تبدو لآخرين..سخيفة!.

ولمعالجة خفض الكراهية فان الأمريتطلب وضع استراتيجية علمية تتبناها مؤسسات رسمية ومدنية،وعليه فاننا نوصي بما يمهد للبدء بهذا المشروع بالآتي:

1. الزام كافة خطباء الجوامع والحسينيات والكنائس بالتوكيد على اشاعة قيم التسامح واستحضار ما هو انساني من تاريخ العراق من قبيل اعتماد مقولة: الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق.

2. الزام وسائل الاعلام والقنوات الفضائية بشكل خاص بالابتعاد عن صيغ تفضيل جماعة او طائفة او قومية وتضخيم ما اصاب هذه الطائفة او تلك من ظلم او حيف بما يثير مشاعر الكراهية لدى المتلقي ضد طائفة او قومية او مكون اجتماعي.

3. دعوة الجامعات العراقية الى اجراء دراسات ميدانية تستهدف قياس مستوى الكراهية واسبابها والمخاوف منها،وفقا لمتغيرات الطائفة والقومية والدين والمنطقة الجغرافية لتحديد سبل معالجتها بما يؤمن ان يكون العراق عامل استقرار وسلم على الصعيدين الأقليمي والدولي.

4. عقد مؤتمر علمي في بغداد العام القادم تشارك فيه جامعات عراقية تمثل الجنوب والوسط والشمال يتابع ما تحقق من توصيات مؤتمر اربيل ويحدد متطلبات مراحل استراتريجية خفض الكراهية.

5. دعوة منظمة حكماء العراق وجامعة صلاح الدين الى عقد مؤتمر وطني يضم ممثلين عن الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كوردستان والبرلمان العراقي والبرلمان الكوردستاني وشخصيات فاعلة تمثل مكونات المجتمع العراقي يستهدف توقيع ميثاق وطني يلزم كافة الأطراف الرسمية والمدنية بنبذ خطاب الكراهية واشاعة خطاب التسامح والمحبة بما يؤمن تحقيق حياة جميلة آمنة في وطن يمتلك كل مقومات الرفاهية لأهله.

اضف تعليق