q
الفارق بين مجتمعاتنا وهذه المجتمعات يمكن تلخيصه بفهم (الموانع) التي تمنع الانسان من ارتكاب (الأخطاء) سواءً البسيطة منها، أو الأخطاء التي تصل حد (الجريمة)، ومدى إمكانية انعكاسها وتحولها وانقلابها في مجتمعاتنا أو المجتمعات التي نراها (ملائكية). ورغم إننا نعتقد أحياناً بأن سبب تقدم وتطور المجتمعات...

غالباً ما ننظر – نحن العرب – نظرة إعجاب إلى المجتمعات الأخرى (الباردة) على إنها مجتمعات متحضرة وواعية، تتوافر على حريات الانسان واحترام قيمته الاجتماعية وضمان مستقبله كأدوات لا نقاش في كونها منعدمة في أغلب مجتمعاتنا العربية.

والحقيقة إن الفارق بين مجتمعاتنا وهذه المجتمعات يمكن تلخيصه بفهم (الموانع) التي تمنع الانسان من ارتكاب (الأخطاء) سواءً البسيطة منها، أو الأخطاء التي تصل حد (الجريمة)، ومدى إمكانية انعكاسها وتحولها وانقلابها في مجتمعاتنا أو المجتمعات التي نراها (ملائكية).

ورغم إننا نعتقد أحياناً بأن سبب تقدم وتطور المجتمعات الغربية – التي يراها البعض كافرة – هو التزامها باحترام حدود وصلاحيات السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، ونعتبرها هي صاحبة التأثير في المجتمعات، ولكننا نغفل عن وجود سلطات أخرى لا تقل أهمية عن السلطات الثلاث في كونها تمثل (موانع) أخرى في حياة الفرد تمنعه من التردي في هاوية الخطأ والخطيئة المتعلقة بحياته أو حياة المجتمع.

إن السلطات التي يُبتنى عليها أمن الانسان والمجتمع لا تتوقف عند السلطات الثلاث، وإنما يمكن إجمالها حسب تسلسلها في سُلّم الأهمية والتأثير كما يلي:-

1/ سلطة القانون

من المفترض أن هناك علاقة (تناغم) بين الفرد والسلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) التي تمثل (القانون) بمعناه الأشمل والأكمل، ويفترض أيضاً أن يتحول هذا (التناغم) إلى علاقة (تساهمية) بين المجتمع وسلطة (القانون) التي تؤطرها قوة وقدرة (السلطات الثلاث) وتأثيرها في المجتمع، انطلاقا من معنى مقولة القائل بأنه: (يفعل السلطان ما لا يستطيعه – أو يفعله - القرآن)، والمراد بالسلطان هنا هو (السلطات الثلاث) مجتمعة لتشكل (القانون) الرادع للجريمة والخطأ، والتي تنبثق قوتها من مدى الاحترام المتبادل بين الفرد والقانون من ناحية، وبين القانون وجهات تنفيذه من ناحية أخرى.

فعندما يشعر الفرد بأن هناك (جهة تشريعية) عاقلة تشرع القوانين التي تصب في مصلحة المجتمع بعيداً عن المصالح الفردية والفئوية والحزبية، مع وجود (جهة تنفيذية) تتولى تطبيق هذه القوانين بقوة وصرامة ووعي وحِرفيّة ودون تسويف أو خيانة أو تمايز بين الأفراد، واعتقاد الفرد بوجود (جهة قضائية) نزيهة يمكنه اللجوء إليها عند خشيته على حقه الشخصي أو حق المجتمع، فإن هذا الشعور يمنح الانسان انطباعاً بأنه (محمي من قبل السلطات الثلاث) في مجتمعه ولا يحتاج لحماية (ذاتية) وأن حقوقه مصانة، ما يشكل (مانعاً) أمامه من إيجاد المبرر لكسر القوانين أو التحايل عليها.

أما حين يشعر الفرد بأنه، محاط بجهة (تشريعية) تهتم لمصالح (أفرادها) أو الأحزاب والجهات التي تقف من ورائهم دون الاهتمام بالتشريعات التي تهتم بشأن المجتمع، وجهة (تنفيذية) تعطل القوانين وتتحايل عليها وتستهتر بها، وجهة (قضائية) مسيّسة ولا يمكن الوثاقة بعدالتها، فسيشعر الفرد بالــ (يُتـم) المجتمعي، لشعوره – مجملاً – بأن (القانون لا يحترم نفسه).

وقد تزداد شهوة الانسان للتمرد على القوانين حين يرى امتلاك (أي مجرم) للقابلية على أن يتحايل على سلطة القانون، أو يلجأ للطرق الملتوية كتأثير الوساطات والعلاقات الاجتماعية والدينية، أو اللجوء إلى (الرشوة) في التملص من الجريمة، بل ويستطيع عبر هذه الوسائل أن (يقلب) الحقائق، فيتحول (المجرم) إلى (بريء)، والعكس صحيح.

ويزداد إضطراب الفرد المفضي للالتحاق بركب التمرد على القوانين حين يرى بأنه يمكن لأي (شرطي) أو (رجل أمن) أو (مسؤول حكومي) أن يمثل (قانوناً) لوحده، ويمكن لهذا الشرطي أو رجل الأمن أو المسؤول الحكومي أن يضع الفرد (البريء) في موقف (إجرامي)، ويلصق به عشرات (التهم)، ويزج به في متاهات (المسائلة)، وربما يفضي به إلى (السجن) اعتماداً على (مزاجية) هؤلاء أو (انزعاجهم) أو استهتارهم، واستطاعتهم أن يجدوا ألف (نصير) لهم من رعاة القانون أنفسهم.

مضافاً لذلك فإنّ الــ (خسة) التي يتمتع بها كثير من (رجال المحاماة) الذين لا يتورعون عن (مساومة) الخصم، و (بيع) (الموكلين)، دون أن تكون هناك (حماية) حقيقية للموكلين، مع خوف (الفرد المواطن) المسبق من (أساليب التعذيب) وانتزاع الاعتراف القسري من المتهم، كل هذا يؤدي إلى نتائج عكسية تجعل من الفرد مؤهلاً لارتكاب الخطأ وربما الجريمة، كنوع من أنواع (الدفاع عن النفس)، مع انعدام الامكانية – في العراق خصوصاً - لدى أي مواطن في أن ينبس ببنت شفة، أو يطالب الأجهزة الأمنية بــ (مذكرة التفتيش) أو (مذكرة الاعتقال) حين (يداهمون) بيته أو مكتبه أو مقر إقامته.

2/ سلطة المجتمع:-

تأتي الأعراف والعادات والتقاليد والانتماءات العشائرية والقبلية وخوف الانسان على سمعته أو سمعة عائلته أو أسرته أو عشيرته أو قبيلته، وخشيته على مكانته الاجتماعية أو (مصالحه الشخصية) حائلاً بينه وبين الاستهتار، حيث يضع أمامه قانون (الربح والخسارة)، ويتصرف على وفق ما يضمن له ديمومة (هيبته ومكانته الاجتماعية).

وفي كل مجتمعات الأرض – وحتى في مجتمعاتنا - تجد أن هناك من يضع هذه (الموانع) نصب عينيه، ويجعلها حائلاً بينه وبين الاستهتار أو ارتكاب الخطأ أو الجريمة، ولا يخرق العادات والتقاليد والأعراف خشية أن يتحول إلى (نشاز) أو موضع سخرية أو انتقاد لدى الآخرين.

ولكن – أحياناً – فإنّ هذه القائمة من (الموانع) المجتمعية في مجتمعاتنا من الممكن جداً أن تتحول إلى (أداة) دافعة للاستهتار، حيث تعتبر هيبة الفرد جزءً من هيبة أسرته أو عشيرته، والعكس صحيح أيضاً، ولذا يلجأ الفرد – اعتماداً على بعض الأعراف والتقاليد - إلى اتخاذ خطوات لا تخلو من (حماقة) واستهتار تصل إلى حد إيذاء الآخرين، وترويعهم، وربما تصل إلى جريمة القتل مع سبق الاصرار والترصد، معتمداً بذلك على (فساد السلطات الثلاث) من جهة، ومساعدة الأسرة أو العشيرة أو القبيلة من جهة أخرى.

3/ سلطة العجــز:-

في جميع المجتمعات الحضارية منها والمتخلفة، يعتبر الشعور بــ (العجز) لدى الانسان مانعاً عن الاستهتار، حتى لو كان يمتلك الرغبة لذلك، وقد تتعلق هذه الموانع (العجزية) بــــ ضعف الحالة الامكانات المالية، أو الصحية أو الجسدية، وكذلك الوهن والجُبن وضعف الشخصية والإقدام، و(قلة الناصـر)، ما يدفع بالفرد للركون إلى (الدعة) والضعف والتلبس بلبوس (التقوى) والتسامح وارتداء ثوب الأخلاق الفاضلة.

وغالباً ما تتلاشى (سلطة العجز) – عند الكثير - مع أول امتلاك للقدرة على الاستهتار، فترى هذا الأنموذج من الناس يمارس طقوسه في الاستهتار وظلم الآخرين وهضم حقوقهم والاعتداء عليهم بسبب غياب أحد هذه الموانع أو بعضها، معتمداً بذلك على دعم العشيرة أو القبيلة، وفساد السلطات الثلاث.

4/ سلطة الضمير:-

هذا النوع من السلطة ينطوى على (أهمية) كبيرة في امتناع الانسان عن الاستهتار وارتكاب الخطأ والجريمة، وهذه السلطة لدى البعض تكون (مكتسبة) من البيئة والمجتمع والتربية والتعليم، وتنمو لدى الفرد مساوقة لضمير الأفراد المحيطين به، وتتغذى على المشاهدات اليومية لسلوك الأفراد.

أما عند البعض (النادر) فهي طبيعة (ذاتية) تولد مع الفرد – كشذوذ خُلُقي - ولا تتأثر بالممارسات الخاطئة والمخطئة التي يمارسها أفراد المجتمع المحيطين به، وتزدهر هذه السلطة لدى الفرد حين يعيش ضمن مجموعة تحترم القوانين والأعراف، وتساعده على استكمال مسيرته الانسانية في الحياة كفرد منتج وصالح في المجتمع.

وفي المجتمعات التي تحكمها (شريعة الغاب) غالباً ما يُنظر إلى الانسان السوي صاحب الضمير على إنّه (ضعيف) ومتخاذل، ويمكن استغلاله والتقافز عليه وهضم حقوقه، وغالباً ما يعتبره الآخرون (لقمة) سائغة يسهل ابتلاعها، غير ناظرين إلى أن مانعه الحقيقي في التصرف مثلهم هو ضميره، وتربيته، وشعوره بأنهم ليسوا له بــ (قدوة) كي يتصرف مثلهم.

إن سلطة الضمير - على صعوبة تلاشيها - يمكن أن تتحول إلى أداة عكسية، حين تفوق قوة الظلم قدرة الانسان على التحمل، وحين يشعر بأن (ضميره) أصبح عبئاً عليه وعلى أسرته وكرامته ووجوده، فيتحول بفعل عوامل التأثير الظالم للمجتمع إلى كائن متوحش، يستخدم أي أداة ممكنة لتحميه من سطوة الآخرين، معتمداً بذلك معتمدين بذلك على نصرة القبيلة والعشيرة التي تتصاعد عند انحطاط، ومتكئاً على ضعف (السلطات الثلاث).

5/ سلطة الغيب

حين يشعر الفرد بأن هناك قوة (عُليّة) تراقبه وتحسب عليه سكناته وحركاته، وحين يؤمن بأن هناك يوماً يحشر فيه الناس للحساب، وإنهم سوف يُعرضون (لا تخفى منهم خافية)، وإن هناك مواضعَ للثواب والعقاب، وحين يشعر الانسان بصدق ما يقرأه في القرآن من (ترغيب وترهيب)، فإن من المتوقع أن يتحول هذا الفرد إلى فرد (سوي) يحترم نفسه والآخرين، ويضع (العقاب الغيبي) نصب عينيه، ما يحول بينه وبين ارتكاب (الأخطاء) والجرائم التي تمثل بالنسبة إليه (آثام ومحرمات وذنوب كبائر)، وهذه التسميات كفيلة بالأخذ على يديه، ومنعه من الاعتداء على الآخرين أو الاستهتار بهم.

ورغم ندرة من يحمل هذا الفهم في مجتمعات اليوم، ولكن يمكن الوثوق – على الأقل – بوجود ثلة من هذه النماذج، التي يشكل (الغيب) بالنسبة لها مانعاً ورادعاً عن التدحرج إلى الهاوية.

ولكن، قد تتحول (السلطة الغيبية) والخوف من العقاب الأخروي - لدى الكثير - إلى سبب من أسباب ارتكاب الجريمة الفردية والمجتمعية، حيث يعتبر الدين والتدين والغيب منبعاً من منابع (الارهاب) وتكفير الآخرين وقتلهم، وقد يولِّد الالتزام الديني المتشدد شعوراً لدى الفرد بأنه (صاحب الحق المطلق)، وإنَّ جميع مَن حوله هم خطّـاؤون ومذنبون ومجرمون وكافرون، يستحقون القتل والسبي والقمع والمصادرة، ويعتبر محاربة هؤلاء بــ (قصد القربة) إلى الله، وسبيلاً لدخول الجنة والخلاص من النار.

إنّ هذا الأنموذج المتطرف يمكنه أن يقترف (جرائمه المقدسة) انطلاقاً من عقيدة فاسدة راسخة، واعتماداً على فشل السلطات الثلاث، وشعوره بوجود الناصر من حزب أو قبيلة، ووضع ضميره تحت تصرف (قناعاته الغيبية)، وشعوره بأن ما يقترفه من جرائم إنما هو الطريق الأقصر الموصل لرضا الله.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق