q
إن قيمة الفكر المتفاعل والتفكير الحر المقترن بالذكاء عندما يكون ممزوجا بالمبادرة لا تضاهيها قيمة، أما السخرية أو إبداء التعنت والتعصب فلن تجدي نفعا، ولا تصل بصاحبها إلى يروم وصوله من مستويات ومراتب عليا، لذلك من الأفضل على الإنسان أن يعتمد التفكير وأن يتحاور مع الجميع...

تميّز الإنسان عن الكائنات الأخرى بقدرته على إدارة عمليات التفكير المختلفة، ووهبهُ الله الذكاء في مواجهة ما يعترض طريقه فكريّا وماديا، واستعان على مواجهة مشكلاته المختلفة حجما ونوعا بالتفكير، فالفكر فعالية عقلية تشير إلى قدرة العقل على تصحيح الاستنتاجات بشأن ما هو حقيقي أو واقعي، وبشأن كيفية حل المشكلات، ويمكن تقسيم النقاش المتعلق بالفكر إلى مجالين واسعيّ النطاق. وفي هذين المجالين، استمر استخدام المصطلحين "الفكر" و"الذكاء" كمصطلحين مرتبطين مع بعضهما البعض.

وفي الفلسفة الكلاسيكية وفلسفة القرون الوسطى يعدّ الفكر أو nous موضوعا مهما مرتبطا بمسألة مدى قدرة البشر على معرفة الأشياء، وخلال العصور القديمة المتأخرة والعصور الوسطى تحديدا، كان الفكر يُقترَح في كثير من الأحيان كمفهوم يمكنه التوفيق بين المفاهيم الفلسفية والعلمية للطبيعة، وبين المفاهيم الدينية التوحيدية، وذلك عن طريق جعل الفكر رابطا بين الروح والفكر اللاهوتي الخاص بالكون نفسه.

أما الذكاء فقد استمرت مناقشته باعتباره القدرة العقلية أو القدرات التي تتيح للأشخاص فهم الأشياء كموضوع تجري دراسته من قبل علم النفس، وعلم الأعصاب العلمي الحديث، والشخص الذي يستخدم الذكاء، الفكر والعقل، والتفكير النقدي أو التحليلي بصفة مهنية أو بصفة شخصية، يشار إليه في كثير من الأحيان على أنه مفكر.

وجملة (التعصّب الفكري) تختص بحالة انكماش فكري يرفض الأفكار الأخرى ولا يتعاطى معها، فهو نوع من التعنّت وهو من الجانب اللغوي، الفعل يتعنَّت، تعنُّتًا، فهو متعنِّت، والمفعول مُتعنَّت (للمتعدِّي)، وتعنَّت الشَّخصُ: تعصَّب في رأي أو موقف وكابرَ عنادًا (فلا تحاول إقناعه، إنّه يتعنَّت أو تعنَّت في آرائه)، وتعنَّت خَصْمَه: حاول إيقاعه في مشقَّةٍ أو زلل، أدخل عليه الأذى، وجاء (تعنَّته بدافع النَّيل منه).

والآن نسأل ما مدى أهمية الفكر، وهل على الإنسان أن يتعلم التفكير جيدا، ولماذا، هناك أمور لا يحتاج الإنسان للتفكير لكي يكملها أو ينجزها، فالعقل يعتاد أشياءً كثيرة، وقد تتم وتُنجَز بعض الأعمال والأشياء بصورة آلية نتيجة لتكرارها لحظويا أو يوميا، فالخباز وهو يقف وراء الفرن أو (التنور) لا يحتاج إلى التفكير كي ينجز عملية الخبز، لأنه يعتادها من حيث الحركة والفعل، وكذا الحال بالنسبة لأمور عديدة، ولكن في المقابل هناك عُقَد لا يمكن حلّها إلّا بعد الاستعانة بالتفكير مدعوما بالذكاء والمهارة والوسائل التي يحتاجها الإنسان لإنجاز الحلّ، وتكمن أهمية الفكر والتفكير في كونهما عاملا ضامنا ومسرِّعا للحصول على الحلول اللازمة.

يُحكى أن هناك مشكلة واجهت عدد من الشباب الذين خيّموا في موقع سياحي، فغرزوا أوتاد الخيمة في الأرض الرملية، ثم أقاموا خيمتهم على العمود المرتكَّز وربطوا الحبال النايلون بالأوتاد، وأمضوا ساعات ترفيه سعيدة، وحين قرروا الانتقال إلى منتجع ثان، بادروا بخلع الأوتاد لكنهم واجهوا مشكلة في حلّ عقدة أحد الحبال، مما أدى إلى تأخيرهم، فبدأ مجموعة الشباب في إيجاد الحلول الصحيحة، استخدموا تفكيرهم وذكاءَهم، حاول أحدهم حل عقدة الحبل بأصابع يده لكنه فشل بسبب قوتها، واستخدم آخر جرّ الحبل بقوة وفشل أيضا، واقترح آخر باستعمال السكين وقطع الحبل لكنهم يحتاجونه كاملا لنصب الخيمة في التخييمات القادمة.

أحدهم فكر بشكل مختلف لم يخطر على بال أحدهم، فقد استخدم الحرارة لتليين الحبل البلاستك، سخر منه أصدقاؤه على هذا التفكير الذي لا يأتي بنتيجة حسي ظنهم، لكنه بالفعل سلّط المصدر الحراري لدقائق على موضع عقدة الحبل، وبدأ يحاول فك نقطة التصلّب بالعقدة، وشيئا فشيئا بدأ يستجيب الحبل أمام ذهول الأصدقاء الذين سخروا بصديقهم صاحب الفكر، وخلعوا الخيمة وواصلوا رحلتهم الترفيهية بنجاح.

هذا التفكير الذي ربما لم يكن عميقا أو معقدا ساعد على إيجاد حل صحيح، وربما يتذكر بعضنا قصة كولومبس الرحالة البحري حين اكتشف قارةً جديدة وقد كان محط تكريم وإعجاب البلاط وكان من المقربين للملك، مما أدى لتكاثر أعدائه، وفي أحد الأيام حضر حفلا ملكيا بحضور أعدائه في حضرة الملك، فبادر أحد أعدائه من رجال البلاط بانتقاص قيمه انجازه باكتشاف القارة الجديدة، فقال:

- وماذا فعل كولومبس، إنها أرض موجودة وقد وصل إليها عبر مياه البحر.

هنا نهض كولومبس وخاطب جميع الحاضرين رافعا بيده بيضة وقال، من منكم يستطيع أن يجعل هذه البيضة تقف على الأرض بشكل طولي؟، وبدأ بمن يجلس إلى جانبه أولا، فحاول أن يوقف البيضة طوليا وفشل ودارت البيضة على الجميع وفشلوا حتى وصلت مرة أخرى إلى كولومبس، فنهض ممسكاً بالبيضة ونقر قشرها من الأسفل بسبابته ثم وضع البيضة على الأرض فاستقرّت طوليا، هنا نهض نفس الشخص العدو لكولومبس وقال له: ومن لا يستطيع أن يفعل هذا؟.

فردَّ عليه كولومبس: نعم إنه عمل سهل لكنه يحتاج إلى تفكير وإلى مبادر أول يسبق الجميع بعمله أو اكتشافه.

فصمت الشخص الحاسد المعادي وكسب كولومبس إعجاب الملك وجميع الحاضرين، هذه هي مكانة المبادرين المفكرين، فمن يقفل بوابات العقل ونوافذه ولا يسمح للأفكار الأخرى بملامسة أفكاره، سيكون متعصبا وقاصرا عن مجاراة التقدم الهائل في حياتنا المعاصرة، فهل ستختار التعنّت على حساب التفاعل الفكري؟.

إن قيمة الفكر المتفاعل والتفكير الحر المقترن بالذكاء عندما يكون ممزوجا بالمبادرة لا تضاهيها قيمة، أما السخرية أو إبداء التعنت والتعصب فلن تجدي نفعا، ولا تصل بصاحبها إلى يروم وصوله من مستويات ومراتب عليا، لذلك من الأفضل على الإنسان أن يعتمد التفكير وأن يتحاور مع الجميع، ويبتعد كليّا عن قمع الرأي الآخر بسبب التعصب أو التعنّت الذي لا يقدّم له سوى كراهية الآخرين وعدم احترامهم له، وهذا ما يجعله معرَّضا لخسائر كبيرة في حياته.

وهذا لا يختص بالفرد وحده، فالمجتمعات أيضا يجب أن تعتمد التفكير في تطوير حياتها وتغييرها، وأن يتم طرد التعصب والتعنت ومنعه من أن يكون ثقافة جماعية للمجتمع، لأن الثقافة المتعصبة تؤدي إلى سلوك متعصب، ورفض الفكر الحر والانفتاح على الآخرين، تلحق خسارة كبيرة بالفرد والمجتمع، وحبّذا لو تبدأ ثقافة الفكر المتفاعل والتفكير الحر من أعمار مبكّرة، أي من رياض الأطفال، فهذا هدف بالغ الأهمية، حتى يشبُّ الطفل مرنا في تفكيره ذكيا، متعاطيا مع أفكار الآخرين، مازجا بين الذكاء والفكر الحرّ، فتكون النتيجة فردا مفكّرا ذكيا، مجافيا للتعنّت وغير عابئ بالتعصب، لأنه تربّى وتثقّف على الفكر والتفكير الحر غير المتعصّب.

اضف تعليق