q
إمعان النظر في سلوك الآخرين يُعدّ مِن أفضل طرق الاعتبار وإصلاح ما بالذات من خُلْق.. فأنت لست بحاجة إلى تلال من المحاضرات التربوية التحليلية في الأخلاق من أجل تعظيم خُلُقك.. يكفيك الاعتبار بالرؤية لما يصدر عن الآخرين من سلوك إذ هم مثيل لك في الخَلْق...

"إِذا رَأَيْتَ فِي غَيْرِكَ خُلْقًا ذَمِيمًا فَتَجَنَّبْ مِنْ نَفْسِكَ أَمْثالَهُ"

 

إمعان النظر في سلوك الآخرين يُعدّ مِن أفضل طرق الاعتبار وإصلاح ما بالذات من خُلْق.. فأنت لست بحاجة إلى تلال من المحاضرات التربوية التحليلية في الأخلاق من أجل تعظيم خُلُقك.. يكفيك الاعتبار بالرؤية لما يصدر عن الآخرين من سلوك إذ هم مثيل لك في الخَلْق، وإنما التفاوت بينكما يقع في مستوى الالتزام بالأخلاق، فإما سموا وإما انحطاطا.

‏للرقي بالأخلاق من خلال الاعتبار بالرؤية للآخر؛ يستقل الإنسان نفسه في تقدير طبيعة خُلق الآخرين حتى يهتدي إلى أفضله وأحسنه وأعظمه إن كان ذلك مراده..

المشركون في مكة يستقلون في رؤيتهم فيعترفون بتميز رسول الله صلى الله عليه وآله من بين الناس بالخلق العظيم، ولا يقاس سائر أهل مكة وفيهم رجالها وكبراؤها ووجهاؤها به. ويؤمنون كذلك بأن الرسول صلى الله عليه و آله حجة في الأخلاق.

بالإضافة الى الإستقلال في الاعتبار بالرؤية لسلوك الآخرين؛ أن الحجة بالرؤية هذه تكون بالغة. فالحسن يُحسّنه العقل، والقبيح يُقبّحه العقل، والمعيار والميزان كامن في ذات الإنسان بصرف النظر عن اتجاهه الفكري إذ يُقوّم به خُلق الآخرين ويختار منه ما يشاء.

فلربما يختار هذا الفرد المُعتبِر بالرؤية القويم من سلوك الآخرين، أو يختار الذميم منه. لكنه في الحالين على علم تام بأصلحهما.

‏يبحث بعض المختصين في الثقافة عن تخلف مجتمعاتنا في الفترة الواقعة بين القرنين الماضيين، فيعكسون صورة سلبية قاتمة عن وعي مجتمعاتنا بنفسها وبمحيطها. وقليل من المنصفين الملتزمين منهجا علميا سليما فَكّكوا بين القيم السائدة وصنفوا القيم الأخلاقية في مجتمعاتنا في خانة التميز، بالرغم من سيادة الأمية والجهل في المجتمع. وارجعوا الاسباب في هذا التميز إلى أنّ عملية اقتباس القيم الأخلاقية عن الآخرين بالرؤية القائمة على ميزان العقل؛ كانت نشطة جدا بالرغم من جمود العقل على دفائنه، وضحالة المعارف في الشريعة. وكانت استجابة الأخلاق في مجتمعاتنا بالظواهر السلبية الصادرة عن الآخرين بطيئة جدا.

‏أكثر عاداتنا وطبائعنا الأخلاقية جاءت عن طريق الاعتبار بالرؤية، لأن رؤية سلوك الآخرين أشبه بالرؤية لخشبة مسرح، وهي أقصر الطرق المؤثرة للإعتبار ولبناء الذات وأكثرها أمنا وسلامة في نمو ثقافة المجتمع ثقافة صحيحة.. والروايات في هذا المضمار تحث كثيرا على التحلي بالخلق العظيم وتحبب للناس اكتسابه من خلال "الرؤية"..

ولو أحصينا مصادر التوجيه التربوي فضلا عن أدوات التأثير الاخلاقي المماثلة، وكذلك الطاقات المبذولة في هذا الشأن العظيم؛ لوجدنا ركاما يفوق حاجاتنا. وأن نتائج التأثير بهذه المصادر والأدوات بسيطة وبطيئة جدا نسبة لحجم العبرة بالرؤية المستقلة.

‏بألفاظ سهلة بسيطة ميسرة في هذا النص الكريم، يوجز أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أعظم طريقة لبناء الذات، فيرفع من شأن قيمة الإختيار المستقل في الاعتبار عن طريق رؤية سلوك الآخرين لتنمية الأخلاق..

أنفاسك أثمان الجنان

تطورات خبرية يومية مثيرة في الصراعات السياسية تستقطب انتباهنا وتصرفه عن الأهم في نضالنا الإجتماعي والثقافي، فنحلل ونستنتج أوهاما لا حصر لها، لأنها مما يخفف من وطأة خيبة آمالنا..

الحصيف هو من يستقل بذهنه فيسعى إلى التدرج بمستوى الوعي واختيار منهج التفكير المناسب.

الإمام الصادق صلوات الله عليه يجعلك في الأفق والمنهج السليمين فيقول:

"مَن لم يكن عنده من شيعتنا ومحبّينا كتاب سُليم بن قيس الهلالي؛ فليس عنده من أمرنا شيء ولا يعلم من أسبابنا شيئاً، وهو أبجد الشيعة وسرّ من أسرار آل محمّد".

كتاب يضع عنك الأغلال التي كانت على ذهنك ويهديك سواء السبيل والصراط المستقيم، فيجعلك من شيعة اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.

‏ستسمع من حولك قول أناس يحبطون عملك في مقام هذا الكتاب الوثيقة الأقدم في التأريخ الشيعي، ومن قولهم:

" لماذا نتنزل فنتنفس في أفق تأريخي ضيق بهذا الكتاب، ونظل أسرى حوادث الماضي وأمامنا أفق حضاري رحب يستضيفنا بلا هم وغم؟!"!

لا تسمع لقولهم، إن هم إلا كأعجاز نخل خاوية يحسبون كل صيحة عليهم.. يستقون من كل حوادث العالم المثيرة آمالا كاذبة تزرع فيهم التواكل وتضعف فيهم آلة التفكير السليم وتقيم فيهم مبادئ وقيما سياسية مفسدة.

‏إسع إلى بناء وعيك بالمنهج السليم في أفق الأمين وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم في خضم هذه الحوادث العالمية والإقليمية والمحلية المثيرة..

لا يأخذك "ضغط الحشد" فيهيمن على حواسك، لتصبح أسيره بلا حول لك ولا قوة.. وخذ العبرة أيضا من أغلب وسائل الإعلام والمجموعات الخبرية، فانظر فيها وراقبها لكي لا تستهلك أفضل ساعات أنفاسك أو تصرفك عن انتاج الرأي المستقل واختيار منهج التفكير السليم على قواعد أصيلة.

الحرية أولا والتعبد ثانيا

"لَنْ يُتَعَبَّدَ الحُرُّ حَتَّى يُزالَ عَنْهُ الضُّرُّ" يولد الإنسان حرا ثم يطلب منه التعبد والإمتثال والطاعة عند سن البلوغ.. فالحرية أولا والتعبد ثانيا!.. ماذا عن العبد؟.. أليس العبد مكلفا؟.. العقيدة والشريعة كلاهما يقران للإنسان الحرية، ويرشدانه إلى معناها الدقيق، ويحافظان على حقه الأصيل في ممارستها، ويوفران له في البعد النظري والعملي ما يقيه من الضُّرِّ أو يضعانه عنه. ‏

الضُّرُّ في ضعفه أو شدته لا يسلب الإنسان الحرية، وإنما له تأثير مباشر على طبيعة التعبد ودرجة الإمتثال والطاعة، لأن التعبد طارئ ومختار بالإرادة.

والمتصور هنا، أو المتبادر عند هذا القول؛ أن الحث على التعبد والإرشاد إليه يستلزم وضع الضُّرِّ عن الناس وليس توفير الحرية لهم، لأن الحرية أصيلة لا توهب أو تعطى، أو تسن بقانون، أو تشرع بدستور أو ميثاق أو إعلان. ‏الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يشير : "يولد جميع الناس أحرارا".. وفي بقية مواده يقرر ضرورة وضع الضُّرِّ عن الناس بمعاني أخرى مختلفة.. فهل للإنسان "حق" التعبد فيقتضي الدفاع عنه ووضع الضُّرِّ، أم له "حرية" التعبد.. ما الفرق بين الحرية والحق؟!. ذلك استفهام مثير في عرض استفهام آخر: هل الضُّرُّ متعلق بالحق في التعبد أم الحرية في التعبد؟ ‏أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يتحدث هنا عن "الحر" بما هو هو، فلا يدعى الحر إلى الطاعة والتعبد وهو ضحية ضُّرِّ حاق به وأسير لآلامه.. رفع الضُّرِّ مقدمة للتعبد.. يمكن للضُّرِّ أن يمنع التعبد، أو يحد منه، أو يتنزل به.

كيف نطلب من الإنسان الحر أن يتعبد بينما نتجاهل ما وقع عليه من الضُّرِّ الصارف عن العبادة أو المانع؟!.. من المسؤول عن رفع الضُّرِّ قبل الإلزام بالتعبد؟!.. بلا شك أن عالم الدين على رأس المسؤولين بوضع الضُّرِّ عمن يقصدهم بوظيفته.

فإن كان عالم الدين مصدر الضُّرِّ الواقع على العباد، فكيف يحق له أن يدعوهم إلى التعبد والطاعة والإمتثال وهم الأحرار في الإختيار ويعانون من وطأة الضُّرِّ ؟! ما أجمل وأروع شرط العدالة في توصيف وتصنيف من يحق للناس الإئتمام به أو اتباعه منهم؟!.. العادل أحق أن يتبع فلا يصدر عنه الضُّرُّ أولا، ويمتلك الكفاءة اللازمة لرفع الضُّرِّ عن الناس فينفرد بطاعتهم دون سواه.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق