q
فالنظام السعودي كثيراً ما هدد أمن المنطقة والعالم من خلال مدارسه التكفيرية التي يصدّرها إلى كل دول العالم، فالقاعدة وداعش وكل الحركات الإسلامية المتطرفة والإرهابية التي عبثت في الوطن العربي وفّجرت خلافاته السياسية والمذهبية، وضربت أوروبا وأمريكا في عقر دارها، هي نتاج للمدارس الدينية التي...

تعد الرياض واحدة من أبرز حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة، وعلى الرغم من التناقض الكبير الذي يكتنف تلك العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية حول طبيعة نظامها السياسي الملكي (الذي تحتكره عائلة آل سعود ذات الطبيعة القبلية بدعم سلطة رجال الدين السلفيين أو ما يسمون اليوم بالوهابية)، إلا أن العائلة المالكة في السعودية حافظت على طبيعة علاقاتها الخارجية مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك من أجل الحفاظ على وجودها السياسي وبنية نظامها السياسي المتشدد.

فالنظام السعودي كثيراً ما هدد أمن المنطقة والعالم من خلال مدارسه التكفيرية التي يصدّرها إلى كل دول العالم، فالقاعدة وداعش وكل الحركات الإسلامية المتطرفة والإرهابية التي عبثت في الوطن العربي وفّجرت خلافاته السياسية والمذهبية، وضربت أوروبا وأمريكا في عقر دارها، هي نتاج للمدارس الدينية التي يرعاها النظام السعودي والعائلة الحاكمة داخل المملكة، ولعل حادثة مقتل الصحفي السعودي خير دليل على وحشية العقل السياسي - والديني السعودي. فالعقيدة الدينية والعرف السياسي للمملكة العربية السعودية تحّرم قيادة المرأة للسيارة، في حين تسمح لها بمقتل صحفي سعودي خالفها الرأي (لمرحلة ما)، بطريقة بشعة في قنصلية بلاده في تركيا.

جمال خاشقجي، الصحفي السعودي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية كلاجئ سياسي بعد أن أصبح معارضاً للنظام السعودي بمقابلاته الإعلامية ومقالاته الصحفية التي تبثها وتنشرها كثير من وسائل الإعلام، لاسيما الأمريكية منها، أغتيل مؤخراً (بطريقة بشعة) في قنصلية بلاده في تركيا. حادثة مقتله ربما تؤجج أزمة سياسية بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما وأن هذه الحادثة أصبحت تمثل رأي عام في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، فعلى إثرها قاطعت دولاً متعددة مؤتمر الإستثمار السعودي، وأعلنت أخرى تعليق زيارتها السياسية الرسمية وغير الرسمية إلى السعودية.

وأخيرا، بعد مراوغة وصمت طويل اعترفت الإدارة السعودية بمقتل خاشقجي في قنصليتها، وعلى الرغم من حدة التداعيات (السياسية والإعلامية) التي أخذتها واقعة مقتل الصحفي السعودي، إلا أن هناك خشية من قبل الرأي العام العالمي والأمريكي (بقدر تعلق الأمر بالمملكة العربية السعودية)، لاسيما في عهد الإدارة الأمريكية الحالية. فكيف ستنعكس حادثة مقتل خاشقجي على العلاقة بين واشنطن والرياض؟.

بالتأكيد العلاقة بين واشنطن والرياض علاقة متينة تحكمها المصالح السياسية والاقتصادية لكلا البلدين، وهي أكبر من أن تتأثر بمقتل صحفي سعودي يقيم على الأراضي الأمريكية، لكن لا يمكننا أن نحصر القضية بهذا الجانب، فجمال خاشقجي يقيم في الولايات المتحدة وتربطه علاقة قوية بالمؤسسات والصحف الإعلامية الأمريكية مثل: الواشنطن بوست التي يكتب بها خاشقجي، وغيرها من الصحف، كذلك الأخير عمل في السلك الدبلوماسي السعودي في الولايات المتحدة ممثلاً لبلاده سابقاً، قبل أن يصبح معارضاً للعائلة الحاكمة؛ ولهذا تربطه أيضاً علاقات سياسية واسعة بشخصيات سياسية أمريكية، فضلاً عن ذلك، فإن قضية مقتل خاشقجي أصبحت قضية رأي عام على المستوى العالمي، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الصعيدين السياسي (المؤسسات الدستورية الأمريكية) وعلى الصعيد الإعلامي (وسائل إعلام أمريكية)؛ لأن الذريعة الأمريكية الدائمة للدفاع عن حقوق الإنسان في العالم، سيتبجح بها الإعلام العالمي والأمريكي على وجه التحديد في حال تم تسويف القضية سياسياً أو أن تمر دون عقاب.

ولذلك من المحتمل جداً أن تنعكس قضية مقتل خاشقجي على العلاقة بين واشنطن والرياض، لكن طبيعة هذا الإنعكاس ربما يأخذ سيناريوهات متعددة، منها:

أولاً: ربما لا تتأثر العلاقات الأمريكية – السعودية بحادثة مقتل خاشقجي، وأن الإدارة الأمريكية الحالية ستحاول تسويف القضية بطريقة أو بأخرى، أي بمعنى آخر أن المال السعودي سيقف حائلاً دون ذلك، كما وقف ضد تطبيق قانون جاستا سابقاً، لاسيما وأن الرئيس الأمريكي كان واثقاً من الرواية السعودية عن وفاة الصحفي جمال خاشقجي وعدها بأنها رواية جديرة بالثقة. وهذا ما يفسر موقف الإدارة الأمريكية من حادثة مقتل خاشقجي، فضلاً عن ذلك، فأن الرئيس ترامب معروف بحبه للمال والربح الاقتصادي على حساب مفاهيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. ولعل الدعاية الانتخابية التي حملها ترامب قبل وصوله إلى البيت الأبيض ضد السعودية تفسر ذلك بوضوح.

ثانياً: ربما تتأثر العلاقات بين البلدين على الصعيدين السياسي والاقتصادي، أي بمعنى أن تكون هناك تداعيات لقضية مقتل خاشقجي، وتشمل عقوبات أمريكية سياسية – اقتصادية على مستوى الإدارة الأمريكية الحالية، ولعل عزوف وزير الخزانة الأمريكي عن حضور مؤتمر الاستثمار السعودي، واحدة من الانعكاسات السلبية على العلاقة بين واشنطن والرياض. هذا الانعكاس ربما يأخذ شكلين:

1. أن تفرض الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب عقوبات سياسية واقتصادية على السعودية بطريقة إرادية دون ضغوط، أي أن يبادر الرئيس الأمريكي إلى فرض تلك العقوبات بمحض إرادته دون ضغوط سياسية وإعلامية (محلية ودولية). والمرجح أن ترامب لا يمضي بهذا الاتجاه؛ وذلك بسبب العلاقة الشخصية والاقتصادية التي تجمعه بولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

2. أن تكون الإدارة الأمريكية مجبرة على تقليم أظافر محمد بن سلمان والأسرة الحاكمة بعقوبات سياسية واقتصادية تعيده إلى رشده وإلى وزنه الطبيعي (محلياً وإقليمياً ودولياً)؛ لأن الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة دونالد ترامب، هي المسؤول الأول عن تضخيم حجم بن سلمان، لاسيما بعد زيارة ترامب للسعودية على هامش القمة الإسلامية – الأمريكية لمكافحة الإرهاب.

ثالثاً: هناك سيناريو آخر، ربما يحاول من خلاله الرئيس الأمريكي أن يفرض عقوبات على النظام السعودي، لكن بشرط أن لا تمس تلك العقوبات مصالح بلاده الاقتصادية، أي بمعنى أن تقتصر تلك العقوبات على المستوى السياسي وبعض الأنشطة الاقتصادية دون المساس بصفقة بيع الأسلحة التي عقدها ترامب العام الماضي مع الجانب السعودي، وهو سيناريو مرجح من قبل الإدارة الأمريكية.

رابعاً: ربما يتدخل الكونغرس في القضية، ويفرض عقوبات سياسية واقتصادية ضد المملكة العربية السعودية بعيداً عن الإدارة الأمريكية، لاسيما وأن هناك اعضاء في الكونغرس من الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) ممتعضين بشدة من الفعل الذي أقدم عليه النظام السعودي والطريقة التي تمت فيها العملية داخل القنصلية، رافضين الوثوق بالرواية السعودية عن مقتل خاشقجي. هذا السيناريو ربما يكون مرجحاً في حال تمسك الكونغرس بموقفه الحالي من القضية.

هذه السيناريوهات ربما تكون مجرد توقعات في طبيعة الرد الأمريكي على السعودية على هامش قضية مقتل خاشقجي، لكن جميعنا نعرف أن السياسة شيء، والمبادئ والأخلاق شيئاً آخر، لاسيما وأن النظرية الواقعية تعد من أساسيات السياسة الأمريكية في حقل العلاقات الدولية، وبالتالي لا يمكن للولايات المتحدة أن تضحي بمبلغ قيمته 460 مليار دولار، وهو مقدار اتفاق التعاون العسكري الذي تم توقيعه بين واشنطن والرياض في العام 2017، منها 110 مليار دولار صفقات عسكرية.

فبلغة السياسة والمصالح لا شيء يجبر الرئيس الأميركي على محاسبة شريكه السعودي الثري على أي تورط له بقضية خاشقجي، وأن ترامب يستغلها عمليا لغايات انتخابية، سيراهن عليها بمرور الوقت وسيبقي على علاقة بلاده بالرياض؛ وذلك من خلال تصديق الرواية التي ستخرجها السعودية بشأن مقتل خاشقجي. وإن الموقف السياسي الأمريكي الحالي، هو مجرد ردة فعل لمجاراة الرأي العام داخل أمريكا وخارجها، لاسيما مواقف الرئيس ترامب، وأن قرارات الأخير وإجراءاته ستكون متوافقة مع المصالح الداخلية، كما أنه سيحاول التوصل إلى تسوية مع السعودية، ربما سيكون ضحيتها محمد بن سلمان، في حال استمر الإعلام الأمريكي بالضغط على الرئيس.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق