q
تتميز ملحمة عاشوراء الحسين عن غيرها من المناسبات بكونها متجددة تواكب التطور الإنساني، وتزداد جذوة الوهج الحسيني تألقاً وزهواً كلما تقادمت عليها الأيام والسنين، فهي ثورة الإنسانية المتجددة والمحرك الدافع للشعوب المؤمنة لنيل حريتها وكرامتها بالخلاص من الظلم والجور. كما إنها تُعَدُّ منهجاً فكرياً وأخلاقياً...

ليست كغيرها من الحوادث أو المناسبات، إذ تتميز ملحمة عاشوراء الحسين (عليه السلام) عن غيرها من المناسبات بكونها متجددة تواكب التطور الإنساني، وتزداد جذوة الوهج الحسيني تألقاً وزهواً كلما تقادمت عليها الأيام والسنين، فهي ثورة الإنسانية المتجددة والمحرك الدافع للشعوب المؤمنة لنيل حريتها وكرامتها بالخلاص من الظلم والجور.

كما إنها تُعَدُّ منهجاً فكرياً وأخلاقياً وإجتماعياً، فكان تميزها هذا العام متمثلاً بتبني مفاهيمها من قبل معظم الشعوب المضطهدة في العالم والتي ترزح تحت ظل الحكم الفاسد والاستبدادي، وتجلت مصاديقها بالهمة العالية والمعنويات الكبيرة التي أبدتها بعض الشعوب بوقوفها بوجه حكامها الفاسدين بالمطالبة بالإصلاح ورفع شعار (هيهات منا الذلة) التي رسم خارطة طريقها سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في واقعة عاشوراء، حيث أصبحت تلك الملحمة بحق تمثل تاريخ الكرامة الأول للإنسانية، إذ يرى بعض المؤرخين أنه رغم عراقة تاريخ العراق الضارب في القدم منذ عصر السومريين، إلا أن تاريخه المكتوب بدأ بكربلاء عام 61 للهجرة، ومن حقهم أن يقولوا هذا، لان التاريخ بقيمه ومعانيه يتجسد حياً من خلال التضحية الحسينية في عاشوراء، الحدث الحسيني الذي قل نظيره في العالمين.

وبذلك كانت المراسيم خلال هذا العام تختلف بإختلاف حاجة الشعوب المسلمة إلى روح النهضة الحسينية لتجسدها على واقعها الحياتي بكافة مستوياته العقائدية، الأخلاقية، السياسية والاجتماعية.

أولاً: المستوى العقائدي

أضحت المجالس والمراسيم والمسيرات الحسينية اليوم ليست مجرد اجتماع يتذاكر فيه الناس قصة لواقعة انتهت مأساوياً ليتعاطفوا معها ويتباكون لذكرها فقط، بل هي تمثل دروس عقائدية مستلة من تلك الواقعة التي أراد من خلالها الإمام الحسين (عليه السلام) الحفاظ على المسار الصحيح للرسالة المحمدية التي حاول الأمويون جاهدين حرفها عن مسارها السماوي، فبتولي آل أمية ومن مكنهم بالوصول الى سدة الحكم بدأ الجانب العقائدي بالإنهيار الشامل الذي أنذر بانحراف الرسالة السماوية عن الطريق المرسوم لها.

وبذلك تطلب الأمر وجود نهضة تصحيحية شاملة تقود تأخذ بيد الأمة إلى طريق الإصلاح ومحاربة الفساد، وبالتالي فليس من أحد قادر على تلك النهضة سوى وجود إمام معصوم يرسم خارطة طريقها، فلم يوجد أحد في ذلك الوقت إلا الحسين ابن علي (عليهما السلام) الإمام المفترض الطاعة.

ثانياً: المستوى الأخلاقي

من يتابع ملحمة كربلاء بحق وحقيقة لا يدانه شك بأنه لا يمكن لأمة ان تنهض فقط بقوتها البشرية وما تملكه من قوة وأدوات، اذا لم تملك قضية محركة وقيم معينة تلعب دور الدافع والمثير لقناعة المجتمع بها، يقول ماوتسي تونج: ان الصين ما تقدمت بشعبها الكُثير، بل بالقوة المحركة له، القوة التي تؤجج بين أبنائها إحساساً مشتركاً لتبني لها قاعدة مجتمعية تساندها في التنفيذ، تنفذ الى العقول والقلوب بشعارات مثخنة بالايديولوجيا المميزة بين عصر الماضي والحاضر، بين عصر الجاهلية وعصر الإسلام، فكانت نهضة الحسين (عليه السلام) تمتلك تلك القوة الدافعة لتصبح عقيدة لكل المخلصين، ولابد لهذه الحركة من شخصية "الكارزما" تشد الناس إليها، لذا فقد كانت شخصية الحسين (عليه السلام) في ذلك الظرف المضطرب وخطوته نحو استعادة الأمة لدورها الرسالي هي الشخصية المهيأة والمنتظرة للأمة كونه الامتداد الطبيعي لرسول السماء (صلى الله عليه وآله) وأعلم أهل زمانه بالرسالة وحاملاً لصفات نبي الامة وفي مقدمتها الأخلاق العظيمة حيث يخاطب الله تبارك وتعالى نبيه الكريم بقوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(4) القلم، وهذا ما تبحث عنه الشعوب المسلمة في ذلك الوقت وفي وقتنا الحاضر.

إذا أمعنت النظر في أخلاقية المنهجية الحسينية مليا ترى إن أصحابها يعيشون قصة تتصارع فيها المتضادات: الولاء ضد الخيانة، والحب ضد الكراهية والحرب، والنبل ضد الفساد، والأخلاق ضد الكذب والنفاق، فالحسين ما جاء ليقاتل دولة أو حاكم كما يصوره بعض رجال الدين، لكنه جاء ليقاتل ظلم الدولة والحاكم معاً، فالمنهجية الحسينية ترفض الظلم والباطل والاستبداد، فمن يؤيد الباطل هو ويزيد في كفة الميزان قرين.

إن المنهجية الحسينية تقول عكس ما يقوله ابن تيمية وأعداء الحسين؟ تقول إن نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) كانت تمثل الشجاعة المطلقة والمبدئية التامة والنبل المطلق بالتضحية بالنفس والوعي الكامل بأهمية التغيير من اجل الناس، وكانت تعني إن الظاهرة محكومة بظروفها، انها مشروع قابل للفعل في ظروف العصر ولا يجوز التجاوز عليها، لأنها قانون رباني لا يقبل التغيير، ليس فيها من منافع شخصية أو سلطة أو جاه في دولة، فهو الذي بمنهجيته ونهضته فضح فساد الحكم الأموي، وباستشهاده ثبت الإسلام المحمدي في الأرض حقاً وهداية، وعقيدته القائمة على العدل والاستقامة، ورمي الباطل خلف ظهره لا طمعا في دنيا أو حياة، وانما لتحقيق الحياة تحت مبادئ العزة والكرامة، ولا حبا في جنة وحور العين، وإنما في تثبيت نقل المبادئ إلى تشريعات، وفصل سلطات الدولة عن حقوق الناس وترسيخ مبدأ الثوابت الوطنية في الأمة، ملتزماً بمنطوق الآية الكريمة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (92)الأنبياء.

ثالثاً: المستوى السياسي

أعادت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) فتح ملف الخلافة والحكم، والمواصفات التي يجب أن تتوفر في قيادة الأمة، والمنهج الذي يجب أن تسير عليه، وموقف الأمة من انحراف الحكم عن شريعة الله وقيم الدين.

إذ لا يمكن أن يقدم الإمام الحسين (عليه السلام) على حركة بهذا الحجم من المستوى و التأثير، إلا أن يكون له منطلق شرعي سليم، ورؤيا مبدئية واضحة، وقد شكل ذلك دافعاً لطلائع الأمة ونخبها الواعية، بأن تتجاوز الأجواء التي صنعها الأمويون، لكي تقبل الأمة بحكمهم كأمر واقع، وتخضع لهم كولاة للأمر، وأن تتم مراجعة رأي الإسلام ورؤيته في الخلافة والحكم على ضوء الكتاب والسُنّة.

رابعاً: المستوى الاجتماعي

إن المجتمع الإسلامي شهد فساداً واضحة في الأموال التي في خزينة الدولة الإسلامية (بيت المال)، قال المسعودي في تاريخه بأنها ضياع وجنات وعيون وحدائق وأطعمة ولذات، بينما يعاني أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أمثال أبو ذر النفي والتشريد، وينال حجر بن عدي نصيبه من التشريد والقتل وتقصف الكعبة وتهد أركان وعرى الإسلام عروة عروة.

كما تميز المجتمع الأموي بالطبقية والجاهلية، فالجواري والرقص والغناء والفسق، استشرى في كل البلاد قصور وغناء فاحش، هذا على المستوى الاجتماعي، وقد قال فيهم رسولنا الأعظم (صلى الله عليه واله): ((إذا بلغ بنو العاص ثلاثون رجلا اتخذوا دين الله دولا))، لذلك لابد من تحرك يترك أثره على جميع المستويات، ولابد ان يكون المتحرك غير عادي، فهل يسطع نجم المتحرك لو كان غير الإمام المعصوم؟! أكيد فلا احد يعيره اهتمام، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) كان أقوى وأنقى المتحركين واطهر الموجودين في عصره، فمثل القداسة الإنسانية والربانية اجتماعيا وسياسيا ومدنيا وعسكريا.

إن تطبيق خارطة الطريق الحسينية سينور العقل العربي والإسلامي بالقضايا والأفكار الإنسانية التي جاءت من اجلها النهضة الإصلاحية، بعد تبيان مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، لتصبح واقعا معاشا في القول والعمل من اجل الجميع دون تفريط لا دعاية تروج ولا كلام يقال من اجل سلطة أو مال، لا بل نستطيع القول بأنه يجب ان تنبثق نهضة الإسلام من هذا الرمز صاحب القوة الدافعة لروح التضحية من أجل الإصلاح حتى أصبح طريقه منهجا إصلاحياً للمسيرة الإنسانية.

لقد تحقق للكثير من الناس في عصرنا الحاضر إن سنة بنو أمية تهدد المعتقدات وتسلب الحريات وتكرس النزاعات وتنشر الانحرافات وتزرع الاختلاسات، بدعم كبير من الحكام الفاسدين ورجال دين اجتهدوا في تحريف الكلم عن بعض مواضعه كما يصفهم القرآن الكريم، فكانت ردة فعلهم أن انتفضوا على فساد الحاكم وبالنتيجة سوف يتضح لهم زيف وعاظ السلاطين الذين يدعون أنفسهم رجال دين يبررون هذا الفساد ويحرمون الثورة عليهم، فما كان أمامهم إلا اتباع النهج الحسيني كخارطة طريق للوقوف بوجه الظلم والفساد.

وإذا ما أرادوا لمسيراتهم أن تستمر في طريق الإصلاح فعليهم أن يضعوا نهج الحسين وأهل البيت (عليهم السلام) في التعامل داخل المجتمع الإسلامي، وأن لا ينطبق عليهم قول النبي (صلى الله عليه واله): ((لتتبعن سنن من كان قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) أو كما في لفظه، لذلك لابد من عملية مد وجزر تجرف الحكم الأموي الغاصب للإمامة وتعلن عن بداية فك الحصار عن مفهوم الإمامة حتى يرى المسلم من خلال هذا المفهوم عدالة الله ورعاية السماء للإنسانية.

* مقال نشر في شبكة النبأ المعلوماتية- 15/كانون الأول/2011 - 19/محرم الحرام/1433

اضف تعليق