q
العقد الاجتماعي في الدول الريعية يقوم على قاعدة \"المال مقابل الصمت\"، وهي دستور اجباري على كل مواطن الاقرار به والسير على منهاجه، لا يحق لاي شخص التفكير خارج صندوق السلطة، ولا يمكن انتقاد الحاكم، تُتَخذ القرارات بشكل فردي، وقد تؤدي الى كوارث للشعب، وتحطم حياة الاجيال القادمة...

قبل سنة تقريبا جلست مع طلبة المرحلة الثالثة في قسم الصحافة، تحدثنا عن ضرورة استفادة مجتمعنا من تجارب الدول الأخرى من اجل العبور الى مرحلة الاستقرار، بعضهم اختار الدول الاوربية كمسار يمكن تقليده، لكن احد الطلبة تبنى رأيا تمسك به بقوة، يقول اننا يجب ان ناخذ بالنموذج الخليجي لنرتقي ونصل الى ما وصلوا اليه من تطور في مختلف مجالات الحياة ومن ضمنها الاعلام.

اعترضت انا وبعض الطلبة وقلنا لصاحبنا ان ما تراه في الخليج يشبه ما كان يراه اهل الخليج في العراق ايام حكم حزب البعث المنحل، انها صورة من ورق لنظام لا يحمل اي شيء من دينامكية الحياة وحركتها التي هي اساس تقدم المجتمعات. فالنظام الديكتاتوري يقدم المشاريع الظاهرية في المجتمع مثل ناطحات السحاب وبناء جيش قوي فيما يقوم بهدم اركان أخرى لا تقل أهمية عن هذه القطاعات ليحفر بنفسه قبر البلاد بكاملها.

في البلدان الخليجية توجد ناطحات السحاب، ومراكز التسوق الكبيرة، السيارات باحدث موديلاتها، والهواتف والاجهزة اللوحية يمكن رصف الكثير منها في البيت الواحد دون ان تتاثر ميزانية الاسرة، فالرواتب مرتفعة والمعاشات التي تقدمها الحكومة للمواطنين تجعلهم في غنى عن اي نشاط.

انهم يعيشون في حالة سبات، وهذا ما تريده السلطات الحاكمة، تخدر الشعب بالاموال وتدفع به بعيدا عن النشاط المجتمعي الذي يمكن من خلاله ان يحدث التاثير، وربما تغيير الاسر الحاكمة التي وصل عدد امرائها الى عشرات الالاف.

في ظل الدول الريعية هناك ما يمكن ان نسميه "الرشوة التي تدفع للشعب" مقابل التنازل عن حقوقه، فالحكومة تسيطر على اموال النفط والمعادن المستخرجة من باطن الارض وتستولي عليها ثم تعيد تقسيمها بين الداخل والخارج، في الداخل توزع هذه الرشى عبر نظام الرواتب مقابل تواجد المواطن في دائرة حكومية بلا عمل او ما يطلق عليه "البطالة المقنعة" مع امتناعه عن التدخل في شؤون الحكم، وفي الخارج تدفع الاموال للدول الكبرى على شكل سندات مالية او صفقات اسلحة تخزن لسنوات ثم يتم اتلافها واستبدالها باخرى لا تستخدم اطلاقا وان استخدمت فهي لقمع المعارضين.

العقد الاجتماعي في الدول الريعية يقوم على قاعدة "المال مقابل الصمت"، وهي دستور اجباري على كل مواطن الاقرار به والسير على منهاجه، لا يحق لاي شخص التفكير خارج صندوق السلطة، ولا يمكن انتقاد الحاكم، تُتَخذ القرارات بشكل فردي، وقد تؤدي الى كوارث للشعب، وتحطم حياة الاجيال القادمة.

انها حياة قائمة على تحويل المواطن الى "انسان آلي" يمكن شحنه كل شهر عبر الراتب، ليقبل بكل اجراء تقوم به السلطة، يتمتع المواطن بهذه الموال ليس لانها حقه الطبيعي بل باعتبارها هبة من قبل الحاكم وبالتالي يمكن ان تقطع عنه في أي لحظة ولا يجوز له الاعتراض، بل عليه ان يشكر الحاكم لانه قطع الراتب ولم يحز رأسه.

هذه هي المشكلة الأساسية، فالتقدم الاقتصادي لا بد وان يسير بطريقة صحيحة، ان يعبر عن مجموع التفاعلات الاجتماعية والأنشطة المختلفة ليكون في النهاية ما يمكن ان نسميه النظام الاقتصادي للبلد، وهذا الوضع لا ينتجه نظام استبدادي يقرر متى تبدأ المشاريع ومتى تنتهي، لا يعرف احد كيف يقود البلاد والى أي حرب سيدفع بالشعب، ويهدر على اثرها الأموال الطائلة.

الحاكم المستبد بالإضافة الى هدره الثروات الكبيرة لمجتمعه يقوم بتدمير "الراسمال البشري" وهو الثروة الحقيقية التي لا تضاهيها أي ثروة أخرى، فالمجتمع الحر القادر على اتخاذ قراره يمكنه مواجهة اصعب الظروف، بينما تعيش الشعوب الريعية على صدقات الحاكم، وبمرور الزمن تتحول الى شعوب "مدجنة" تخشى مواجهة المشكلات التي تعترضها فتجدها تطلب العون من الدول الكبرى والصغرى لعلها تنقذها من الوضع الذي سقطت فيه.

ان حرمان الشعوب من حريتها بحجة الحفاظ على الوضع القائم اجراء يدمر مستقبلها، فهو يحصر القرار بيد شخص واحد، ما يولد اثار كارثية حيث تنتج قيما أساسها البحث عن القائد العظيم الذي يمكنه انقاذ البلاد من مأساتها، وفي العراق نجد المثال الأبرز، فرغم مرور اكثر من خمسة عشر عاما على سقوط الدكتاتور صدام لا تزال نسبة كبيرة من الشعب تحلم بالقائد العظيم الذي يمكنه حل مشكلات البلد.

وفكرة القائد العظيم تولد انحرافات قيمية خطيرة من بينها القبول بقمع حرية التعبير والتماهي مع وسائل الاعلام المملوكة للدولة والتي تبرر أساليب الحاكم في بسط نفوذه فهو في وجدان الشعب يمثل جوهر وجود الامة وبالتالي لا يمكن الاعتراض عليه، وله الحق في اتخاذ ما يلزم بينما ينعم عامة الناس بالهبات التي يوزعها شهريا. الشعب يرى الديمقراطية بانها تحويل الدولة الى مائدة طعام كبيرة تقام على شرف الحاكم ومن واجب الضيوف احترام المكان بدون تفكير او انتقادٍ للوضع الذي يرونه امامهم.

اضف تعليق