q
نحتاج إلى إيقاظ ضمائر كل العاملين في القطاع الصحي، وتوفير الاحترام للمرضى، والحفاظ على كرمة الناس وعدم إذلالهم فوق ذل الأمراض التي تفتك بهم، يمكن بالطبع تقليل هذه المشكلات إلى حد كبير إذا سعت الحكومة لمعالجتها من خلال تخصيص الأموال اللازمة، وحماية هذه الأموال، مع حرص وزارة الصحة على عدم هدر الأموال المخصصة للعلاجات واستنهاض القيم الأخلاقية لدى الكوادر كافة...

الضمان الصحي أحد أهم العلامات التي تؤيد تفوق وتقدم المجتمعات على بعضها البعض، فلا يكفي أن نقول أن دولتنا غنية بالثروات، ولا يصح أن نتبجح بأننا أذكياء وننتمي في تفكيرنا ومنجزاتنا إلى العصر الذي نعيش، ولا يكفي أن نعلن بأن نظامنا السياسي ديمقراطي متحرر وفي نفس الوقت صحتنا مفقودة، والأمراض تفتك بنا خاصة بأولئك المنسوبين للطبقة الفقيرة، وغير القادرين على دفع فواتير العمليات الجراحية بأسعارها المليونية، أو تلك الأسعار التي تضعها الصيدليات للأدوية التي تبيعها كما يحلو لها وبالأسعار التي ترغب بها، من دون رقابة أو قوانين تسنها الجهات التشريعية المختصة وتطبقها الأجهزة الخاصة بالحكومة.

في المدينة التي أقطنها توجد أكثر من مستشفى حكومي، وفي كل حي سكني يوجد مركز صحي خاص بمن يسكنون الحي حصرا، بنايات كبيرة وكثيرة لمستشفيات ومراكز صحية، وفيها كوادر صحية كثيرة من أطباء ومعاونيهم وممرضين وممرضات ومعينين ومعينات، يستهلكون جانبا من ميزانية الدولة كأجور ورواتب بعضها يكون كبيرا أو مجزيا، ولكن بالمحصلة النهائية فإن الخدمات الصحية التي تقدمها هذه المستشفيات والمراكز وكوادرها الطبية لا يتجاوز ربع ما تحتاجه المدينة من معالجات جراحية أو سريرية أو استشارية.

تبدأ عملية مراجعة المواطن بقطع وصل الفحص مقابل ثمن تم رفع قيمته إلى أضعاف، يذهب المريض إلى الفحص، يكتب الدكتور أدوية في وصل الفحص، يذهب المريض إلى صيدلية المستشفى الحكومي أو المركز الصحي ليكتشف أن العلاج الذي يحتاجه غير متوفر في الصيدلية وعليه أن يشتريه من الصيدليات الأهلية مقابل ثمن في الأغلب يكون غاليا لأنه لا يخض لرقابة أحد، فيكون سعره مضاعفا حسب رغبة صاحب الصيدلية.

في إحدى مستشفيات بغداد (العريقة)، ذهبنا لزيارة أحد المرضى في قسم العناية المركزة، استطعت أن اكتشف مدى فقر المستشفى من خلال مؤشرات وعلامات كثيرة، فالفقير تميزه علامات محددة عن غيره، فإذا كان كائنا بشريا سترى النحافة والهزال يجتاح جسده مع اصفرار الوجه وذبول العينين وارتعاش الجسد وبطء الحركة وغياب الحيوية والنظافة، هذه العلامات نفسها يمكن أن نجدها في المستشفيات فنكتشف بأنها فقيرة على الرغم من أنها تموَّل حكوميا من خزينة الدولة ومخصصات وزارة الصحة.

مستشفيات حكومية عاجزة

قبل أن نغادر مريضنا الذي زرناه أو في اللحظات الأخيرة للزيارة، دخل أحد المراجعين يحمل في يده كيسا يحتوي على (50 كانونة)، جلبها إلى المستشفى التي تفتقر لهذه الآلة البسيطة ورغم رخص ثمنها لكن المستشفى تفتقر لها بسبب حاجة المرضى، واكتشفنا أن الرجل اشتراها من جيبه الخاص وتبرّع بها للمستشفى الحكومي لأنها تفتقد (للكانونة)، حيث أعلن بصوت عالٍ سمعه الجميع بأنه يتبرع بهذه المادة للمستشفى الحكومي!!.

وإذا كانت المستشفيات الحكومية عاجزة عن توفير أبسط العلاجات والأدوات البسيطة التي يحتاجها المريض لأخذ العلاج، فما على المرضى سوى اللجوء إلى المستشفيات الأهلية، وعليهم أن يقطعوا الأمل بالضمان الصحي الحكومي، وكثير من المرضى القادرين على الدفع لهم تجارب مريرة مع المستشفيات الأهلية، أما الفقراء فإنهم لا يجرؤون على دخول هذا النوع من المستشفيات لأنهم يعلمون مقدما أنها تتعامل مع المرضى بمئات الآلاف أو ملايين الدنانير وهذا ما لا طاقة لهم به.

بالطبع تجربة المستشفيات الأهلية (القطاع الخاص) جيدة، خاصة أنها تنافس المستشفيات الحكومية في خدماتها وربما تدفع بعضها لتحسين أداءها، ولكنها لا تصلح لذوي الدخل القليل أو المحدود، أي أنها تفيد نسبة معينة من المجتمع العراقي وقد تكون الأقلية منه، أما الأكثرية فهم من ذوي الدخول الواطئة، فلا يمكن لمثل هؤلاء الدفع للمستشفيات الأهلية التي لا يمكن أن تفتح صالاتها الجراحية للمرضى إلا بعد أن تقوم باستحصال الأجر مقدّما، ومن لا يملك الأموال الكافية للعلاج أو لإجراء العملية الجراحية فليس أمامه سوى أن يبقى عليلا أو يواجه الموت!.

هنا أين دور الدولة والحكومة في توفير الضمان الصحي لمواطنيها، وخصوصا الفقراء وذوي الدخل المحدود منهم، نحن نخاطب هنا الحكومة العراقية ووزارة الصحية تحديدا، لماذا حين يذهب المريض إلى المستشفى الحكومي لا تتم معالجته، ولا يحصل على الدواء الكافي الشافي، ولماذا يتم إبعاده إلى الصيدليات والمستشفيات الأهلية؟، العراق ليس فقيرا وثرواته ليست قليلة، لكن إدارة الأموال الحكومية فيها خلل كبير يكتنفها الفساد والاختلاس والهدر، وهذا الأمر بات معروفا للجميع مسؤولين حكوميين ومواطنين، فما هو العلاج خصوصا أن هذا الأمر يتعلق بقضية حساسة لها احتكاك مباشر بالحياة والموت؟.

عجز صحي في بلد الثراء!

الغريب أن المظاهرات الأخيرة التي اجتاحت مدن الجنوب والوسط، لم تتطرق للجانب الصحي مع أن شرارتها اشتعلت بسبب رداءة الخدمات الأساسية وكان ينبغي أن تكون الصحة منها، فهل القطاع الصحي الحكومي يؤدي دوره كما يجب؟، وهل صحة المواطن يمكن أن تأتي بالدرجة الثانية أو الثالثة من الأهمية، على العموم من أهم الواجبات الحكومية أن تخصص الأموال الكافية للقطاع الصحي، ليس هذا فحسب، إذ ينبغي أن تتم إدارة هذه الأموال بعيدا عن الفساد والاختلاس والصفقات الوهمية.

فلا يكفي أن ترصد الميزانية السنوية مئات المليارات للصحة ومعالجات المرضى، بل يجب أن يرافق ذلك مراقبة وحرص شديدة على طريقة صرف الأموال، ووضع العقوبات الرادعة لمن يتلاعب بها أو يهدرها أو يمد يده عليها بطريقة وأخرى، القضية إذاً تتعلق بالتشريع والتنظيم الصحيح، ومن ثم يجب أن يقترن التنظيم بتطبيق شديد وكامل الدقة من حيث الصرف والتوزيع، هذا من حيث الجانب المادي، من جانب آخر هناك ثقافة تنتشر في المجتمع عموما وفي الكوادر الصحية مع كامل الاحترام للشرفاء الذين لا يمدّون أيديهم إلى أدوية وعلاجات الفقراء، وكلنا نسمع أن صيدليات المستشفيات تخلو حتى من الأدوية البسيطة والأدوات رخيصة الثمن، هذا يعني أن هناك من يعمل على تفريغ الصيدليات منها، لأن الأموال تم تخصيصها وصرفها، فنحتاج إلى وعي وثقافة وحصانة ذاتية أخلاقية دينية تردع كل من يحاول أن يمد يده على أدوية المرضى الفقراء.

كذلك ينبغي أن تكون هناك آلية دقيقة بخصوص إجراء العمليات الجراحية، تضعها الجهات الحكومية المعنية وتقوم بفرض تطبيقها بصورة حاسمة، كأن يتم تخفيض الأجور أو إعفاء الفقراء من ذوي الدخل المحدود، أو وضع نسبة معينة يتم استيفائها حسب القدرة الشرائية أو الراتب الشهري، هذا الأمر تنظيمي لا أكثر، مع حرص على رعاية المواطنين، نحتاج إلى إيقاظ ضمائر كل العاملين في القطاع الصحي، وتوفير الاحترام للمرضى، والحفاظ على كرمة الناس وعدم إذلالهم فوق ذل الأمراض التي تفتك بهم، يمكن بالطبع تقليل هذه المشكلات إلى حد كبير إذا سعت الحكومة لمعالجتها من خلال تخصيص الأموال اللازمة، وحماية هذه الأموال، مع حرص وزارة الصحة على عدم هدر الأموال المخصصة للعلاجات واستنهاض القيم الأخلاقية لدى الكوادر كافة.

اضف تعليق