q
المبدأ الذي حققه الغرب (التداول السلمي للسلطة) مع إطفاء جذوة الحرب، نحن بحاجة إلى تطبيقه في حيتنا السياسة على أن نلحق ذلك بإنهاء الصدام والحروب في المنطقة عبر الوسائل السياسية والثقافية وكل السبل التي يمكنها إيصال العراق والمنطقة إلى السلام والتفرّغ لمجاراة العالم...

بالمعنى المتعارف عن الحرب أنها صراع بين إرادتين، وهي نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي بحسب أحد تفاسير الحرب، ويقول المنظر العسكري البروسي كارل فون عن الحرب: إنها عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم على وسائل مختلفة.

ولو قام مركز بحوث ودراسات عربي أو إسلامي عالمي مشهود له بالعمق وقوة التحليل والاستنتاج، بدراسة مستفيضة لتجربة الغرب في ميادين الفكر السياسي والتعاطي مع السلطة، سوف يتوصل الباحث إلى دعامتين ارتكز عليهما المبحوث، ونعني النظام الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، أما هاتان الدعامتان فهما:

1- استيعاب درس الحروب والقضاء عليها كليّاً.

2- تحكيم مبدأ التداول السلمي للسلطة.

لم يتوصل الغربيون إلى هذه النتائج مصادفةً، فالمفكّر الغربي قدَّم عصارة أفكاره في السياسة والثقافة بعد أن درسَ جديّا حربين عالميتين، حدثت الأولى في مطالع القرن العشرين، ثم اندلعت الثانية التي انتهت سنة 1945 واستغرقت ما يقارب خمس سنوات، وكلاهما حوَّلت حياة العالم الغربي إلى جحيم، ويكفي القول أن عشرات الملايين من القتلى والجرحى طالت تلك الشعوب والدول المتحاربة، وتقدَّر الخسائر المادية بمئات مليارات الدولارات، وثمة خيبة نفسية باهضة الثمن هيمنت لعقود على الفكر الغربي كمحصلة متوقّعة لهاتين الحربين، لكن في نهاية المطاف كان هنالك قطاف مثالي للنتائج الهائلة.

فالقطف الأول يتجسَّد في وعي وفهم درس الحرب، والمسببات التي تنتهي إليها، ومحاصرة كل ما من شأنه تأجيج نيرانها، فتحوّل العقل الغربي من مشجّع للحروب إلى رافض لها، ودأب الفكر والثقافة والإعلام بعمل موسوعي هائل، قاد التفكير السياسي الغربي إلى ضفاف التوازن، والذهاب إلى بدائل أخرى للتصادم، وتراكم خبرات نزع فتيل الحرب بحنكة، وصار استحداث الصدام مدعاة للجنون أو الانتحار، وانتشرت هذه الثقافة الحميدة أفقيا وعموديا، فشملت الطبقات الشعبية والنخبوية المختلفة، وأصبح الغرب برمّته عقل موَّحد رافض للحرب بشكل قاطع.

هذه هي الدعامة الأولى التي ثبّتَ أسسها الفكر السياسي المتوازن والذكاء الحاذق للغرب، ولم يسجل تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية علامات عن نشوب حرب كبرى أو حتى متوسط، وهذا نجاح أصيل يحرزه الفكر والعقل الغربي بجدارة، وقد تم الاستعاضة عن الصدامات والحروب المباشرة بما سمّيَ بـ (الحرب الباردة) التي اشتعلت بين المعسكرين الغربي الرأسمالي، والشرقي الاشتراكي، فانحسرت الخسائر البشرية والمادية، واندلع سباق التسلح، وتضخّمت الترسانة النووية في المعسكرين الغربي والشرقي، ولكن بالنتيجة بقيَ العقل والفكر السياسي الموزون هو سيد الموقف، وانطفأ أوار الحرب في الغرب.

إلى جانب هذا الهدف الإستراتيجي الكبير، نشط الفكر السياسي الغربي وأبلى المفكرون الغربيون البلاء الحسن، فثبّتوا الأسس الراسخة لمبدأ (التداول السلمي للسلطة)، وهو مبدأ ينتمي إلى الديمقراطية، ونظام اجتماعي يؤكد قيمة الفرد وكرامته الشخصية الإنسانية ويقوم على أساس مشاركة أعضاء الجماعة في تولي شؤونها، وتتخذ هذه المشاركة أوضاعا مختلفة وقد تكون الديمقراطية سياسية ويكون الشعب فيها مصدر السلطة وتقرر الحقوق لجميع المواطنين على أساس من الحرية والمساواة من دون تمييز بين الأفراد بسبب الأصل، أو الجنس، أو الدين أو اللغة، ويستخدم اصطلاح الإدارة الديمقراطية للدلالة على القيادة الجماعية التي تتسم بالمشورة والمشاركة مع المرؤوسين في عملية اتخاذ القرارات.

وقد ساعد ذلك في تقويض الحروب الصغرى ذات الطابع الداخلي أو الأهلي، فصار الفوز مزدوج، إطفاء جذوة الحروب، وإنهاء ثقافة الانقلابات، أو السيطرة على الحكم بالقوة، فانتعشت الديمقراطيات في دول الغرب، مدعومة بابتعاد مؤكّد عن شبح الحرب، مما ساعد ذلك بقوة على انتعاش الفكر والعلم والأدب، وازدهرت الحريات وانعكس ذلك على سلامة الاقتصاد والتعليم والفلسفة.

وحين عمل الغرب على ضمان تجنّب شبح الحرب، وسعى وراء إنشاء وتطوير ديمقراطيات متينة الأسس، وهذا ما حصل بفعل تشاركي كلي، انعكس هذا الفعل الفكري التطبيقي المتوازن بصورة باهرة على الواقع، فانتعشت الثقافة، وسما الفكر، وتأصَّلت الفنون، وتمايز الإنتاج النوعي والكمي، وهذا هو قطاف الغرب الحثيث الذي منحهم صدارة العالم الحديث، فإذا ضمنت أمة السلام وتجنب الصدام خارجيا وداخليا، وأردفت ذلك بتناقل مسالم للسلطة في أطر دستورية سليمة، سيكون التفرغ للعلم والتطور سيد الموقف، وهذا ما جرى في الغرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

ماذا يحتاج الشرق الأوسط، أو في سؤال أكثر خصوصية، ما هي احتياجات الحيّز الإقليمي الذي يشمل العراق ودول أخرى مقاربة له؟، بالطبع حاجتنا القصوى إبعاد تمتثل في كبح شبح الحرب من أي نوع كانت، ولأي مسمّى تنتمي، فالأهم لا وجود للحرب مع طرف من الخارج، ولا وجود لاحتراب داخلي، مع الإطفاء الكلي لثقافة (الانقلابات العسكرية)، فما تزال هنالك عقول تفكر بطريقة التسلق إلى السلطة بوسائل النار والقوة وتحيي الشرعية، ولا زال الفكر السياسي لأحزابنا مثلا يجوب مناطق المنفعة وينزع إلى التصادم تحقيقاً للمغانم الأكبر، وهي ثقافة سياسية أفل نجمها في الغرب، وفي بعض دول الشرق أيضا.

في العراق ثمة حاجة كبرى لهاتين الدعامتين، ليس في هذا البلد وحده، المنطقة الإقليمية كلها يراودها شبح الحرب بأنواع ومساجلات شتى، سوريا ميدان الحرب المزمن، والعراق الذي فتكت به حروب من أنواع مبتكرة، واليمن مزقته أنياب السلفية والفكر المتطرف التكفيري، وليبيا مأرب العصابات، حروب من أنواع وأشكال لا قرين لها على مستوى الواقع المحايث أو التاريخ بأبعاده المعروفة، لا بأس أن نتمثل الغرب في اعتماد هاتين الدعامتين، ولكن في إطار إقليمي حتى تُخلق دائرة منسجمة من مجموعة دول ترفض الحرب في اتفاقات ثنائية وجماعية ملزمة، وتؤمن بمبدأ الوصول إلى السلطة بالوسائل والطرق الديمقراطية.

ولا يقف الأمر عند الاتفاقيات والبرتوكولات الرسمية أو المعاهدات الثنائية والجماعية، فيجب إطلاق تغييرات ثقافية واسعة في مجتمعات الشرق الأوسط ومنها العراق، تشجع على المشورة والتشارك وعدم استحكام السلطة بالقوة أو الصدام العسكري، هناك وسائل معاصرة وموجودة في تراثنا السياسي، تشرع السبيل إلى السلطة بوسائل شرعية، وهذا المبدأ الذي حققه الغرب (التداول السلمي للسلطة) مع إطفاء جذوة الحرب، نحن بحاجة إلى تطبيقه في حيتنا السياسة على أن نلحق ذلك بإنهاء الصدام والحروب في المنطقة عبر الوسائل السياسية والثقافية وكل السبل التي يمكنها إيصال العراق والمنطقة إلى السلام والتفرّغ لمجاراة العالم.

اضف تعليق