q
في عصر التكنو اجتماعي دخلت التكنلوجيا في سياقات الحياة الاجتماعية بكل ثقلها، وكادت ان تحل محل العادات القديمة التي ورثها المجتمع من الماضي، فمثلا هيمنة التكنلوجيا على سياقاتنا الاجتماعية ساهمت في قتل الطقوس الرمضانية او التقليل منها، لان التكنلوجيا الحديثة تؤمّن لك الاتصال بمن تريد وانت في فضائك المكاني الحالي...

رائحة الماء والتراب وصوت الاذان، الطعام الطازج، الموائد الرمضانية العائلية الكبيرة، تتحسر ام علي (56عاما) على عودة ذكرياتها في الشهر الكريم، دوارة اولاد المحلة في القرقيعان، تقول" كنت اجلس في حديقة المنزل الكبيرة ومن حولي اولادي واحفادي، كنا ننتظر مدفع الافطار وارتفاع صوت الاذان، الطعام كان كله طازجا، نجتمع كل يوم حول مائدة يترأسها عمي الكبير في السن ليقرا دعاء الافطار، وتبدأ الجدة بتوزيع التمر واللبن نتبادله فيما بيننا، ارث تعلمناه من اهلنا لكسب ثواب افطار صائم.

بينما اليوم انا اجلس على مائدة من الرخام وكرسي فاخر، يقابلني زوجي الذي اصبح هرما، يملأ ابني الكبير الثلاجة بالمعلبات في بداية الشهر، لا صوت ولا حياة في المنزل، تدمع تلك العيون التي سهرت من اجل ان تصنع اطباء و محامي اليوم، انحنى ذلك العمود الذي اتكئوا عليه ليرتقوا سلالم النجاح، وفقد الاب تلك الذاكرة الحديدة التي كان يحفظ فيها اسماء ومتطلبات ومزاجيات تسعة اولاد وثلاث بنات مع اولادهم، ام علي تقول "هم يتضايقوا من اخذي معهم للترفيه في الامسيات الرمضانية، اجلس هنا اغفوا في مكاني الى اليوم التالي وهكذا يمر يوم العديد من الامهات في رمضان بالرغم من انه شهر الرحمة والتواصل، الا ان التطور بلغ ذروته في مجتمعنا الى الحد الذي شتت شملنا".

تغير النمط السلوكي

الدكتور ايهاب علي أستاذ جامعي في جامعة اهل البيت (ع) اوضح "اثرت التكنولوجيا على نمط الاستهلاك والعادات الخاصة بالمجتمع، اذ ساهمت في تغيير طبيعتنا الاستهلاكية للأغذية، اذ اصبح الفرد يستخدم موادا جاهزة ويعتمد عليها اكثر من المواد الغذائية الطازجة، بمعنى تغير نمط الاستهلاك الفردي".

فيما اكد الشيخ حسن الكاظمي على ان تكون هناك "حركة توعوية تجتذب المجتمع من هذا النمط السلوكي المميت إلى واقع حيوي روحاني، من خلال تبني المؤسسات الدينية مشاريع اجتماعية ضخمة وجذابة، اختيار الدعاة والمبلغين ذووا الخطاب الراقي الهادف، عمل المؤسسات الفكرية على بث التوعية بأساليب أكثر عقلانية بعيدة عن الحشو والتناقضات.

الكاظمي ذكر ان "في مطلع عام 2015 وبحسب الإحصائيات العالمية بلغ عدد مستخدمي الإنترنت هو 40% من سكان الأرض، هذه من أبرز أدوات القوى الناعمة (Soft power) التي تمارسها السياسة العالمية الحاضرة، اذ ربطت المجتمع بمجموعة من البرامج والمنصات المشوقة الجاذبة لأهم المنافذ الحياتية كالمعارف والاقتصاد والتواصل الاجتماعي.

لذا يلحظ كل فرد آثارها بشكل جلي في مجتمعه، حيث أخذت هذه المواقع تلعب دورها في تشكيل العقل الجديد للأجيال القادمة وجعلها في واقع افتراضي بعيدا عن الحياة الاجتماعية والتواصل الحقيقي، وهذا بدأ يشكل مجموعة من الأمراض النفسية كالكآبة والملل وعدم تقبل الآخر، والاجتماعية كظاهرة انفصام الأجيال التي تمخضت من التطور السريع في أساليب الحياة.

كما يبين الشيخ الكاظمي" الذي يطالع التعاليم الإسلامية يعرف الموقف من هذه السياسة، ويجد أن التواصل الواقعي الاجتماعي هو من أبرز معالمه الملحوظة، كما في الحج وصلوات الجماعة وغيرها من الأحكام والتعاليم، بالخصوص ما نحن فيه من أيام شهر رمضان المبارك، الذي يعد من أهم الأوقات لبناء النفس ولتنمية الحس الاجتماعي بالفقراء والمعوزين، نجد أن المجتمع بدأ ينسلخ من هذه الأجواء تماماً ".

الموروث الثقافي

الدكتور علي شمخي أستاذ جامعي في جامعة بغداد يقول: "اثرت التكنولوجيا على جميع مسارات الحياة ومن ضمنها الموروث الثقافي، على الرغم من التمسك بالكثير من العادات والتقاليد الثقافية في شهر رمضان الا ان السياقات والآليات تأثرت كثيرا بهذه العادات فشكلت مواقع التواصل الأجتماعي منتديات ثقافية".

اصبحت بديلا عن بعض المجالس الثقافية كما ان وسائل الاتصال الحديثة ساهمت إلى حد بعيد في الانقطاع الإجتماعي، تبادل الزيارت إرسال التهاني والتبريكات على صعيد البث الفضائي، اذ لاتزال الكثير من العوائل العراقية تفضل متابعة البرامج الرمضانية التي اختلفت مضامينها كثيرا وحاولت التعويض واختزال هذا الموروث درامية تحاكي الواقع تستلهم من الماضي الكثير من تفاصيله.

فيما اطلق الدكتور صباح التميمي من جامعة كربلاء تسمية العصر (التكنو اجتماعي) على الوقت الذي دخلت التكنلوجيا في سياقات الحياة الاجتماعية بكل ثقلها، وكادت ان تحل محل العادات القديمة التي ورثها المجتمع من الماضي، كما يبين الدكتور التميمي اعتماد هذا التأثير على اي مثال نأخذه لفحص تجليات هذا الطرح.

فإذا اخذنا ظاهرة (التزاور) بين العائلات بوصفها مثالا على هيمنة التكنلوجيا على سياقاتنا الاجتماعية وجدنا أنها ساهمت في قتل هذه العادة الرائعة او التقليل منها، لان التكنلوجيا الحديثة تؤمّن لك الاتصال بمن تريد وانت في فضائك المكاني الحالي، بدلا من أن تقصد الشخص المطلوب.

ويوضح التميمي وجهان لهذا الامر، سلبي وايجابي، لكن للأسف السلبي يفوق الايجابي كثيرا، أما ايجابيته فتأتى من سرعة ايصال الايعاز للشخص، ومعرفة احواله الآنية بسرعة، او الاسهام في انقاذه اذا احتاج مساعدة طارئة.

اما السلبي فهو كثير واهمه قطع صلة الرحم، وموت العلاقات الحميمية واختفاء الروابط الاجتماعية المحبذة في بناء مجتمع متماسك، وأسر ذات بناء اجتماعي صحيح، ويوكد على اهمية الاحتفاظ في عاداتنا وتقاليدنا، في الوقت نفسه لا نهجر التكنلوجيا الحديثة بل نوظفها في مجالها الصحيح، من خلال الافادة منها في شتى صنوف السياقات الاجتماعية وغيرها.

رمضان وعطر الحرم

يتميز العراق باجواءه الايمانية الرمضانية الخاصة، اذ يستعد الناس لإقامة المحافل القرآنية الجماعية، واحياء ليالي القدر في حرم الامام الحسين عليه السلام، ام مصطفى منتسبة في معهد القران الكريم التابع للعتبة الحسينية المقدسة، تروي لنا حكاية التعلق بعطر الحرم خصوصا في رمضان" هناك علاقة خاصة بين العراقيين الشيعة والامام الحسين عليه السلام، اذ اننا نكثر من الزيارة للحرم المطهر في رمضان لما في ذلك من الاجر والثواب.

نشعر ان هناك علاقة روحية تربطك بهذا المقام المقدس نتحسس القرب الى الله جل جلاله، نتنفس الراحة عندما نشتم عطر الحرم الخاص، فبالرغم من التطور الكبير في التكنولوجيا الا انني ارى انها وان اثرت بشكل كبير على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، الا ان للجانب الروحي في رمضان ميزة خاصة، اذ لا يمكن لها ان تقطع صلة العبد بربه مهما بلغ حجم التغلغل المادي بالفرد والاسرة والمجتمع".

وتضيف ام مصطفى " اتعجب للاقبال الكبير للعوائل للمحافل التي نقيمها رغم الحر وبعد المسافة، يحضرون الاطفال معهم، الرجال في محافل خاصة بهم وكذلك النساء، اضافة الى الطقوس العبادية بعد الافطار اذا لاحظت القنوات التي تنقل البث المباشر لما بين الحرمين، ستشعر بقشعريرة في جسدك، لهذا الزحام الكبير والتعلق الروحي".

عندما يحل الظلام وتنار المنارات تشع ضياؤها الى عنان السماء، صوت الداعي دوي الزائرون، نصاب بحالة من التمسك الشديد بالعلاقة مع الله، خصوصا في ليال القدر واحياؤها بالقران والدعاء، نجد ان الناس تأتي من انحاء البلاد ليتشرفوا في الزيارة في هذه الليالي العظيمة غير مهتمين للتعب ولا لأي امور اخرى.

التقينا الحاج ابو مجتبى من اهالي النجف بين الحرمين وقال" كل عام نأتي الى كربلاء لاحياء ليالي القدر لما فيها من الفضل والاجر، نجتمع مع العائلة ونعد الافطار من بيتنا ونجلس هنا انها اجواء روحانية عظيمة".

ابو محمد من منطقة العباسية الشرقية في كربلاء اوضح " في كل رمضان نقوم بالاستعداد لاستقبال الزوار، ونعد لهم الشوربة واللبن والتمر لأفطارهم، لا اعتقد ان التطور الذي دخل العراق اثر على تقاليد رمضان نحن من سنين مضت ومستمرون بهذه العادات، قد تكون على العادات الاخرى لكن الروحانية موجودة".

الحاجة ام غزوان مقعدة يقود كرسيها المتحرك ولدها الاوسط صلاح لكنها تحمل من الايمان الكبير الى الحد الذي بكت عندما سالتها عن شعورها بهذا الجواء الرائعة "يا يمة رمضان خير وبركة رمضان المحبة ما في احلى من هذه الاجواء، انا مشلولة رجلية عندي جلطة، بس ما اكدر ما ازور ابا عبدالله بهذه الليلة العظيمة ابوعلي هذا الشفيع يحفظكم ان شاء الله".

للشباب حكاية اخرى

يقول امجد عاتي (33 عاما) من كربلاء " ان التأثير كبير جدا لدرجة انه قطع صلة الارحام وخصوصا في هذا الشهر الفضيل، اذ نجد اغلب الشباب وانا واحد منهم اذا لم يكن لديه عمل في النهار فهو يبقى نائما طوال النهار وبعد الافطار يبقى مشغولا بالهاتف او الانترنت بعيدا عن اهله".

لكن مجتبى مجيد (24) عاما طالب جامعي يرى ان لرمضان عادات وتقاليد لا يمكن للتطور الحديث ان يلغيها لانها متجذرة في المجتمع " واقعا نرى ان الشباب مهتمون بالتكنولوجيا الحديثة كثيرا، لكن هذا الاهتمام قد يقل او يضعف في رمضان بسبب انشغال في الاعمال والطقوس والتقاليد، ومهما يكن تبقى هناك فطرة الشخص السليمة تدعوه لاحترام خصوصية الشهر، خصوصا في ليال الاستشهاد والقدر المباركة".

ويبين احمد صاحب محل "ان المورثات الشعبية لم تؤثر التكنولوجيا عليها ابدا والدليل اننا نرى الان تجمعات الشباب في لعبة "المحيبس" الى الان في المقاهي والحدائق العامة، وانا برايي انها ايضا تقوي علاقات الصداقة والاخوة فيما بينهم والاواصر الاجتماعية".

ما بين حسرة ام علي وهي تعيش الوحدة والانعزال ودموع ام غزوان التي نزلت بخشوع، وراي المختصين من مؤيد ومعارض لوجود تأثير ملحوظ للتكنولوجيا على العادات والتقاليد الرمضانية، يبقى هناك اثر لكنه يخضع او يقيد بقوة العلاقة بين العبد وربه ومدى اهتمامه بروحانية الشهر واستثمار اوقاته في تعزيز تلك العلاقة، فكلما كانت صلة العبد بربه قوية تصفو حياته بالايمان والسعادة والرفاه النفسي الذي هو الطريق الى الرفاه المادي، لان نظام الاسلام نظام اقتصادي ونفسي واجتماعي مترابط ومتكامل.

اضف تعليق