q
تعمل المجتمعات الخارجة من النزاع التي تمر بمرحلة انتقالية وتتميز بعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لتعقب المجرمين المتهمين بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية بسبب العجز في الأنظمة القانونية، مما يتطلب المساعدة من الجهات الدولية، وذلك عبر الدعوة لتشكيل محاكم مختلطة تضم مجموعة من الشخصيات الفاعلة والمهتمة...

تمثل هدف إنشاء منظمة الأمم المتحدة عام 1945 في حفظ السلم والأمن الدوليين، فبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، اتجهت أنظار المجتمع الدولي إلى معالجة الإنتهاكات الكبيرة التي تعرضت لها البشرية، وخصوصاَ في الدول التي كانت تحت الاحتلالين الألماني النازي والياباني، فكانت محاكمات روزمبرغ وطوكيو خير دليل على مواجهة تلك الإنتهاكات ومعاقبة مرتكبيها عبر تقديمهم للعدالة القضائية ومحاكمتهم عن تهم الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان والحكم عليهم وبما يناسب فظاعة تلك الجرائم التي ارتكبوها.

وكانت المحاكم الدولية في بداية إنشائها تختص بتسوية النزاعات بين الدول، ولكن مع تزايد ارتكاب الجرائم وفظاعتها، أصبحت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت آخر إلى تأسيس محاكم دولية تنظر في كيفية مواجهة تلك الجرائم ومعاقبة مرتكبيها وذلك بعد تقديمهم للقضاء، وبسبب الفشل الذي رافق عصبة الأمم وعدم تحقيقها لهدف حفظ السلم والأمن الدوليين بسبب التداخل في اختصاصات كل من مجلسها وجمعيتها العمومية، أضطلع مجلس الأمن بمسؤولية جسيمة لإنشاء مثل تلك المحاكم، بل وإعطاؤه الحق الحصري في إنشاؤها دون بقية الأجهزة الأخرى للأمم المتحدة.

وخلال عقد التسعينيات من القرن الماضي تم إنشاء محاكم خاصة للنظر في الجرائم المرتكبة بحق المدنيين مثل المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، وكذلك المحكمة الدولية الخاصة برواندا، وتوالت إنشاء المحاكم الخاصة بمعاقبة المسؤولين عن تلك الفظائع المروعة كما في سيراليون وكمبوديا، وهنا تُثار عدة تساؤلات حول مشروعية إقامة مثل تلك المحاكم الدولية من قبل مجلس الأمن؟

يرى بعض خبراء القانون بأن إنشاء المحاكم المختصة يكون عبر إتفاقية أو معاهدة متعددة الأطراف وبرعاية الأمم المتحدة وذلك عبر تعديل ميثاقها وليس بقرار يصدر من مجلس الأمن، وفي هذا الصدد تبرز بعض الأسباب الداعية لقيام محاكم دولية بقرار من مجلس الأمن، ومنها: عدم وجود سوابق دولية لإنشاء مثل تلك المحاكم، وكذلك عدم تدخل الجمعية العامة للأمم المتحدة بتشكيل المحاكم الدولية ومنذ تأسيسها فضلاَ عن عدم إعطاء صلاحية لمجلس الأمن بإنشاء هيئة قضائية بموجب أحكام الفصل السابع من الميثاق الاممي، لأن مجلس الأمن له صلاحيات تنفيذية، ولذلك فإن موضوع العلاقة بين مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية قد أخذ مجالاَ واسعاَ للمناقشة بشأن العلاقة الرابطة بين طبيعة واختصاصات كل منهما، فمجلس الأمن يعد من الأجهزة الرئيسة لمنظمة الأمم المتحدة والتي تُعنى بشكل أساسي في المواضيع السياسية، بينما تعد المحاكم الدولية جهازاَ قضائياَ مستقلاَ عن الأمم المتحدة.

وعلى هذا النحو، فإن العلاقة ما بين مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية تعد تطبيقاَ لسلطة وصلاحيات مجلس الأمن كما هي محددة في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة التي تخوله باتخاذ كل ما شأنه أن يسهم في حفظ السلم والأمن الدوليين، وكذلك تخوله فرض العقوبات للإبقاء على حالة السلام وحفظه وحسب ما ورد في المادة (39) من الميثاق. وبالتالي فإن للمجلس الحق بالإحالة للمحكمة في أي قضية تتطلب إجراء تحقيقاَ وإقامة الإدعاء النهائي من قبل المدعي العام.

وحسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فإن للمحكمة الحق في محاكمة الأشخاص المتهمين بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والعدوان بموجب أحكام المادة (5) منه.

وتمارس المحكمة اختصاصها على الأشخاص الذين يرتكبوا جرائم بصفتهم الفردية، حيث تنسب المسؤولية الجنائية عن تلك الجرائم أما بصفتهم مواطني لدولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة وبالتالي يخضعون للمحاكمة طبقاَ لاختصاص المحكمة، أو إنهم ارتكبوا الجرائم في إقليم دولة طرف فيها ومن ثم ممارسة اختصاصها بالمحاكمة، ومن الجدير بالذكر، بأن المحكمة تمارس اختصاصاَ زمانياَ دون تطبيق ذلك بأثر رجعي، إذ لا يجوز للمحكمة أن يكون لها اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة بعد نفاذ النظام الأساسي لها الذي دخل حيز التنفيذ بعد 1 تموز 2002، وكذلك يجوز للمحكمة أن تباشر اختصاصها بشأن الجرائم المرتكبة بالنسبة للدول التي صًدقت على النظام الأساسي بعد ذلك التأريخ، أي بمعنى يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها على الجرائم المرتكبة بعد تاريخ تصديق الدولة على النظام الأساسي للمحكمة.

وتمارس المحكمة اختصاصها عندما يحيل إليها مجلس الأمن قضية ما للنظر فيها، أو عن طريق إحالة من قبل دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة، أو عندما يمارس المدعي العام من تلقاء نفسه التحقيق في أي قضية للنظر في الأدلة والبت فيما إذا كان للمحكمة الحق في ممارسة الاختصاص، وحتى عندما يحيل مجلس الأمن القضية للمدعي العام للنظر فيها ومباشرة التحقيق فإن ذلك لا يعني إلزاماَ بقبول الإحالة بل يعد ذلك قراراَ مستقلاَ يتخذه الإدعاء العام وبالإستناد إلى النظام الأساسي للمحكمة وحسب الأدلة والمعلومات المتوفرة بشأن القضية.

وتبرز هناك قيوداَ على كيفية الإحالة للمحكمة من قبل مجلس الأمن، فسلطة مجلس الأمن ليست مطلقة في هذا الإطار بل مقيدة بعدد من القواعد التي يجب أن تتوافر في ممارسة الاختصاص وبموجب المادة (13) من النظام الأساسي للمحكمة والتي يجب أن تكون وفقاَ للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

ولمجلس الأمن الحق في إحالة أي قضية مهما كان مكان ارتكاب الجرائم فيها، وجنسية مرتكبيها سواء ارتكبت الجرائم في إقليم دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة أو عن طريق أحد مواطنيها أو أن الجرائم قد ارتكبت في إقليم دولة ليست طرفاَ في النظام الأساسي للمحكمة، ففي هذه الحالة يمتد الاختصاص المكاني للمحكمة إلى أقاليم الدول التي لا تعد أطرافاَ في النظام الأساسي، ويمكن التدليل على تلك الحالة بما حدث في قضية دارفور وإحالة مجلس الأمن القضية وحسب قراره المرقم 1593 لسنة 2005 للإدعاء العام على الرغم من أن السودان لم تكن طرفاَ في النظام الأساسي للمحكمة.

وتتم إجراءات الإحالة من قبل مجلس الأمن طبقاَ لأحكام المادة (27) من ميثاق الأمم المتحدة والتي تتطلب موافقة تسعة أعضاء من المجلس على أن يكون من بينها أصوات الأعضاء الخمسة الدائميين لأن قرارات الإحالة تعد من المسائل الموضوعية.

وبما أن الوظيفة الرئيسة لمجلس الأمن تتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين التي تحددها المادة (39) من الميثاق، ولذلك فأن تقرير تلك الحالة التي تبرر اللجوء إلى الفصل السابع وله أن يختار أي تدابير لحفظ السلم والأمن الدوليين، فسيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مساحات كبيرة في العراق وسوريا يعني بأن تقرير الحالة من قبل مجلس الأمن تعود إلى الخبرة الدولية له في تقرير نوع المعالجة للأوضاع في تلك الدولتين، وبالتالي فإن مسألة النزاع ومدى خطورته على حالة السلم والأمن الدوليين يقررها المجلس فله أن يعد ذلك النزاع دولياَ، وفي هذه الحالة فإنه يُشكل إخلالا بالسلم والتهديد به، أو أن يعد النزاع داخلياَ وحسب خبرته في ذلك المجال ومدى إمكانية تطبيق أحكام الفصل السابع على الحالة العراقية والسورية لبيان مدى تأثيرها على السلم والأمن الدوليين.

وعلى ذلك، فإن مجلس الأمن وتقديراَ للحالة التي تعرض السلم والأمن الدوليين للخطر فإنه يمارس سلطاته لإعادتهما إلى وضعهما الطبيعي في أي منطقة تشهد نزاعاَ مسلحاَ، وبالتالي فإن مجلس الأمن لا يمارس وظيفة قضائية في تلك الحالة، ويمكن أن يكون إنشاء المحاكم الخاصة بموجب إتفاق بين منظمة الأمم المتحدة والدول الأعضاء تنظر في الجرائم المرفوعة ضد الأفراد ولاسيما في الجرائم الدولية ومنها الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وبما أن الملاحقة القضائية قد تكون غير كافية لتحقيق العدالة بسبب أن الأنظمة الوطنية ربما لا تستطيع تعقب أثر الجناة المرتكبين لتلك الجرائم ما يعني ثغرة في تلك الأنظمة، ومن ثم تمكين المسؤولين عن ارتكاب الجرائم من الإفلات من العقاب.

وتعمل المجتمعات الخارجة من النزاع التي تمر بمرحلة انتقالية وتتميز بعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لتعقب المجرمين المتهمين بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية بسبب العجز في الأنظمة القانونية، مما يتطلب المساعدة من الجهات الدولية، وذلك عبر الدعوة لتشكيل محاكم مختلطة تضم مجموعة من الشخصيات الفاعلة والمهتمة بتحقيق العدالة ومعاقبة الجناة، وهذا يتم عن طريق إتفاق لتشكيل محكمة مختلطة بين الأمم المتحدة وبعض الدول صاحبة العلاقة على غرار ما حصل في تيمور الشرقية وكمبوديا وسيراليون ولبنان.

ويمكن للمحكمة الجنائية الخاصة في العراق أن تمارس الاختصاص القضائي وفقاَ للقانون الوطني، وبالتالي إقامة ولايتها القضائية طبقاَ لذلك، ويجب تحديد الجرائم التي تدخل في نطاق اختصاص المحكمة وخطورة تلك الجرائم المرتكبة وعدد الضحايا والأركان غير الوطنية أي الأجنبية، وبسبب الجرائم المرتكبة من قبل داعش في العراق، فإن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن لها ممارسة اختصاصها القضائي في تلك الملفات بسبب أن العراق ليس من الدول الموقعة على النظام الأساسي وبالتالي فهو يحرمها من إنفاذ السلطة القضائية لها.

وقد صوّت مجلس النواب العراقي في 18 نيسان 2015 على قرار بإحالة ملف تنظيم داعش الإرهابي إلى المحكمة الجنائية العراقية بعد تعديل قانونها ليشمل جرائم داعش واعتبارها جرائم إبادة جماعية دون وصف بقية الجرائم الأخرى التي ارتكبها التنظيم بحق المدنيين، فجرائم داعش تنطبق عليها وصف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما جاء في إتفاقية روما المنشئة لنظام المحكمة الجنائية الدولية الأساسي.

وتبرز هنا بعض المعوقات بشأن ممارسة المحاكم العراقية لاختصاصها القاضي ومنها التعقيد في ارتكاب الجرائم على الأرض العراقية، فكما هو معلوم أن داعش أرتكب جرائمه على الأرض العراقية، وبالتالي فأن قدرة المحاكم العراقية على التعامل مع هكذا ملفات لا يمكن لها أن ترقى لمستوى هذه الجرائم المرتكبة، وبالتالي لا يمكن للعراق وفقاَ لتلك الحالة أن يمارس الاختصاص الإقليمي الجنائي لتلك الجرائم، وكذلك عدم القدرة على إجراء محاكمات جنائية دولية طبقاَ للإجراءات الدولية المتبعة في هذا الجانب.

ومن أجل التغلب على بعض المعوقات التي تعيق تحقيق العدالة وتقديم الجناة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم من قبل تنظيم داعش الإرهابي، لا بد أن يكون هناك دور للمحاكم الجنائية الوطنية في تعقب المجرمين وتنشيط تلك المحاكم بما يسهم في تقديم المجرمين للعدالة، وخصوصاَ أن الجرائم المرتكبة وقعت على الأرض العراقية أثناء إحتلال داعش للأراضي في العراق عام 2014، وكذلك يتطلب الأمر أن يكون هناك توجه لإنضمام العراق للنظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية والمصادقة عليه التي تمكنه من ملاحقة المجرمين وتقديمهم للقضاء وذلك عبر إمتداد السلطة القضائية للمحكمة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق